التنوير في عصر الأحياء

التنوير في عصر الأحياء

بينما يتعرّض الفكر الأوربي لسَيل من الانتقادات، تسعى الفيلسوفة كورين بيلوشون إلى تشجيع نزعة كونية حديثة.  يتعلّق الأمر بعصور تنوير جديدة تهدف إلى إعادة رسم عملية حضارية، ضد العدمية السائدة. كما تستند إلى أنثروبولوجيا تأخذ في الاعتبار تحديات القرن الحادي والعشرين، تلك التحديات التي ترتبط بطريقة عيشنا وتعايشنا على كوكب الأرض. ففي هذا الصدد، أصدرت بيلوشون، التي اشتهرت لدى عموم القراء بمؤلفها المعنون بـ «بيان للدفاع عن حقوق الحيوان»، كتابًا جديدًا بعنوان: «التنوير في عصر الأحياء»، عن دار سوي، 2021.

 

تسعى الكاتبة جاهدة في هذا المؤلَّف، لتأخذ على محمل الجد الانتقادات الموجهة إلى عصر التنوير من قِبَل التيارات النسوية، ودعاة حماية البيئة، ومناضلي فكر ما بعد الاستعمار. وتؤكد أنّه من الضروري العودة إلى عصر التنوير للتفكير في مجريات الحاضر وفق رؤية منفتحة ومتجددة. 
ومع ذلك، تظل الفيلسوفة متمسكة بالمثل الأعلى للتحرر وبحرّية الفكر اللذيْن كان لهما الفضل في ظهور فلاسفة القرن الثامن عشر.
وترجّح بيلوشون أن السبب في تنامي موجة الانتقاد الشديد لأفكار التنوير يرجع إلى أنها لمْ تَفِ بِوعودها حتى الآن، حيث تعيبُ التيارات النسوية ومفكّرو حركات ما بعد الاستعمار على عصر التنوير فرضَ وجهة نظر جزئية من خلال جعلها تبدو كأنها وجهة نظر عامة، وبأنه دافع عن نظام أبوي وإمبريالي من خلال الاختباء وراء مبادئ عظيمة.  
 بيد أن الكاتبة تحرص على توضيح نقطة مهمة في هذا المقام، وهي أن التيارات النسوية ونشطاء ما بعد الاستعمار ليسوا «مناهضين لعصر التنوير». وإذا كانوا ينتقدون هذا العصر، فلأنهم يريدون النهوض بمجتمع أكثر مساواة وعدلًا، يقدّم نموذجًا من خلال استحضار هذا المثل الأعلى الذي كان عصر التنوير يمثّله، على الرغم من أن بعض النشطاء يقعون في خطأ تأليب النساء ضد الرجال وحثّ الأفراد على التشبّث بانتمائهم العرقي.
 والأجدر بنا، إذن، أن نأخذ انتقاداتهم على محمل الجد بدلًا من اللجوء إلى نزعة كونية عالمية خادعة، وذلك من خلال رفع نموذج لإدماج الجميع كانت له مزاياه الخاصة (عصر التنوير)، لكنّه يجب أن يتطور؛ حتى لا يكون مهيمنًا، وحتى يكون في مقدوره أن يستوعب تنوّع مختلف أشكال الحياة والثقافات.
وإذا كان دعاة حماية البيئة ينتقدون أيضًا، بشدة، هذا التراث الفكري، فذلك لأنّ عصر التنوير يرتبط أيضًا بالعقل المستغل الذي يستعبد الأحياء ويرفع كل الحدود أمام استغلال النظم الإيكولوجية، مع أن الأمر هنا يتعلّق بمحاكمة غير عادلة جزئيًا، حيث تبيّن الكاتبة أنه في القرن الثامن عشر، لم يكن العلم والتكنولوجيا مستقلين؛ وإنّما كانا يستندان على الدوام إلى مشروع للتحرر.
 ولم تصبح العقلانية أداة إجرائية إلا بحلول القرنيْن التاسع عشر والعشرين. وبما أن هذه العقلانية صارت تقتصر على النافع، لتصبح مجرد وظيفة للأداء والحساب، فإنّه لم يعد بإمكانها التمييز بين أوجه الصواب والخطأ، لتجد نفسها منفصلة عن معنى الحياة. وهذا الانحراف العقلي يفسّر هيمنة الآخرين والطبيعة على الذات من الخارج والداخل، حيث إنه يزيد من تفاقم رذيلة أكثر أصالة ترتبط بالانفصال بين الحضارة والطبيعة الذي ينفرد به الغرب، والمُضَمَّن في مشروع الإتقان المورّث عن عصر التنوير. 
 وإذا ما تم تعميق النظر في هذه النقطة، فلا مناص من التخلص من هذا المشروع لنتبع مسارًا جديدًا. وهذا هو ما تسمّيه الكاتبة «تغيير المخطط». 
وفي عصرنا الحاضر، فإنّ «مخطط الهيمنة» هو الذي يتولى حُكْمَ كثير من المجتمعات، ويظهر ذلك بوضوح في مجموعة من التمثيلات التي تُوَجِّهُ خياراتنا الاقتصادية والسياسية، وتُحدِّدُ رغباتنا وسلوكنا وتحتلّ خيالنا.
 ويوضح هذا المخطط أن علاقتنا مع الآخرين والطبيعة وكأنها حرب، كما أنه يستمد جذوره من رفض هشاشتنا المشتركة والاختلاف عن الآخرين.

كائنات هشّة
تعتبر الكاتبة البشر كائنات هشّة في حاجة دائمة إلى أغذية طبيعية وثقافية، عاطفية ورحية، تستجيب لمتطلباتها وتعطي نكهة لحياتها ومعنى لوجودها. وفي عصر الأحياء، لم تعد الأرض مجرّد وسيلة أو مورد يمكن الهيمنة عليه واستغلاله، لكنها أصبحت مكانًا يعد بالانفتاح على الآخرين وعلى العالم. وعلى الرغم من اعتماد البشر في حياتهم على غيرهم من الكائنات الحية الأخرى، يظل الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقع على عاتقه حماية الحيوانات والنظم الإيكولوجية، مادام أن بمقدوره أن يدرك تباين الأنواع واختلافها، وأن يضمن بخبراته وتجاربه استمرار هذا التنوع.
  ترفض الكاتبة الفكرة القائلة بأن السوء أمر جوهري في فلسفة الأنوار، وأن العلاقة مع العالم التي نشأت عن هذا العصر هي التي قرّبتنا من الهاوية البيئية. حجتها في ذلك نابعة من رفض الأسس ذات الخلفية المزدوجة لعصر التنوير، وإقرارها بالاعتماد على الطبيعة والآخرين، سواء أكانوا بشرًا أم لا. وتذهب في قراءتها أبعد من ذلك، فتحذّرنا من مطبات القراءة المفضية إلى سوء فهم نصوص الماضي. 
فما يزال ديكارت حاضرًا بيننا بوصفه أبًا للإبادة البيئية الحديثة، فهو الذي شجع الإنسان على أن يُنَصِّبَ نفسه «سيدًا على الطبيعة ومالكًا لها».
 لكن الأمر، في ذلك الوقت، كان يتعلّق أساسًا بزيادة متوسط العمر المتوقع، الذي كان قصيرًا جدًا! وفي الوقت نفسه، علينا ألّا ننسى أن فكرة الفرد المجرد، والمعزول عن انتماءاته، قد أتاحت لنا التأكيد على المساواة في الكرامة لكل شخص ومحاربة الثيوقراطية! وفيما يتعلق بالحقل السياسي تقترح بيلوشون أن تقوم السياسة على موضوع جسدي وعلائقي.  ويشير «عصر الأحياء» عند الكاتبة إلى مجتمع كبير يخضع لمصير مشترك، تتعالق فيه حياة الإنسان بحياة الكائنات الأخرى على كوكب الأرض من البشر والحيوانات والنظم الإيكولوجية.
 إننا، إذن، أمام حالة أرضية راهنة، وبصدد طريقة جديدة للعيش على هذا الكوكب، وفق اهتمام متزايد بالحيوانات والبيئة، وفي ظل رغبة متنامية في العيش بشكل مختلف. فالطبيعة ليست مشهدًا تاريخيًا بقدر ما هي شرط من شروط وجودنا المادي والإنساني. غير أن إصرارنا على وضعنا الأرضي والجسدي لا يؤدي على أية حال إلى التحرر من إرث أولئك الذين ناضلوا من أجل الحقوق التي نتمتع بها الآن.
تقترح بيلوشون إعادة إحياء مشروع عصر التنوير، فبالنسبة إليها، لا يحيل التنوير على قارة أو حقبة زمنية بقدر ما يحيل على موقف يتّسم بعلاقة حرجة بالحاضر. إنها الفكرة التي مفادها أن المستقبل ليس شيئًا جامدًا، وأن المرء يستطيع أن يحرر نفسه من التمثلات المتقادمة من خلال هذه الممارسة التأملية، وأن يقوم بتوجيه المستقبل. ولذلك فإنّ هذا المشروع، بحكم طبيعته، مشروع لم يكتمل بعد في نظر الكاتبة، ويجب على كل حقبة أن تكمله. واليوم، تمثّل إعادة تشكيل الهياكل العقلية والاجتماعية أمرًا ضروريًا لتعزيز التحول الإيكولوجي ومكافحة مناهضي عصر التنوير؛ الذين تشكّل كراهيتهم للعقل وحقوق الإنسان سلاحًا من أسلحة الحرب يهدف إلى إقامة مجتمع هرمي يقوم على نزعة ماهوية تبرر إخضاع المرأة والعنصرية.
وإذا كانت بيلوشون تنتقد استمرار العديد من الثنائيات السائدة في حياتنا، من قبيل: الطبيعة/ الثقافة - الحيوان/ الإنسان - الجسد/ الروح - العاطفة/ التفكير...، فإنها تدرك قيمة الانفتاح على مجالات أخرى من شأنها أن تسمح بتطوير مشروع التنوير من خلال الاستفادة مما حققتْه الأنثروبولوجيا والفلسفة في الدراسات الغربية، فعلى سبيل التمثيل يعتمد علماء الأنثروبولوجيا (نموذج فيليب ديسكولا مثلًا) على طرق أخرى للعيش في العالم، مثل تلك الخاصة بالشعوب الأمازونية، وهناك أيضًا موارد قيمة في التقاليد الفلسفية الغربية، وخاصة في فينومينولوجيا هوسرل وميرلوبونتي. 
ومن ثمّ، ترى الكاتبة أننا لسنا فقط كائنات موجودة من أجل الحرية، لكننا أيضًا كائنات تُولد وتفنى، وتعيش - في آن واحد - على الأغذية المادية والثقافية التي تربطنا بالآخرين.
 ونتيجة لذلك، لم يَعُدْ من الممكن اختزال السياسة في لعبة بسيطة بين البشر، فهناك عقد اجتماعي جديد يفرض نفسه، ويقوم على مبادئ تتجاوز الأمن والحد من أوجه عدم المساواة، لأن حماية المحيط الحيوي والعدالة تجاه الحيوانات والأجيال المقبلة أصبحت أهدافًا سياسية.

مركزية الإنسان
وتخلص بيلوشون إلى أنه لا مناص من إعادة إحياء المُثل العليا لعصر التنوير. وأول خطوة ينبغي اتباعها في هذا المجال هي التحرر من النموذج الإنتاجوي القائم على الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية، والنظر إلى الحيوانات على أنها موجودات أخرى على الأرض... ولا يكفي فقط الدفاع عن الاستقلال الذاتي وأوربا والديمقراطية، لكن يجب علينا جميعًا أن نقوم بتحطيم «خطاطة الهيمنة»، وتحرير أنفسنا من التمثلات الثنائية التي تؤمن بمبدأ مركزية الإنسان، والتي تعود في أصلها إلى جوانب كبيرة من تربيتنا. ويتطلب هذا الأمر جهدًا جبَّارًا، تسمّيه الكاتبة: «الحقبة الحضارية». وبهذا الصدد يتحدث هوسرل عن الحقبة لوصف تعليق الحكم، والبقاء على مسافة من المعتقدات التي لا ترى أنها كذلك. وعند هذا المدى، يمكن أن يشكّل الوباء في حد ذاته، حقبة حضارية بهذا المعنى. وستكون هذه فرصة مواتية لتقييم ما يجب علينا التخلص منه أو الحفاظ عليه، ولنسائل أنفسنا عن كيفيات تنقلنا واستهلاكنا وعملنا.
وإذا كانت بيلوشون تفكر ضمن إطار تقليد فلسفي، يستند أساسًا إلى المدرستيْن الألمانية والفرنسية، فإن النزعة الكونية التي تقترحها ينبغي أن تتجنب - قدر الإمكان - التصور الذي قد ينظر إليها على أنها درس أخلاقي قادم من أوربا. ولذلك تذهب الكاتبة إلى أن كل ما «احْتَفَظَ بِهِ» العالم من أوربا، هو سوق التكنولوجيا العلمية. وكان الأمثل والأفضل أن يتم الاحتفاظ أساسًا بمعنى استشكال الواقع، وهو ما يربطه الفيلسوف التشيكي باتوكا بالسؤال السقراطي، والذي يعدّ بالنسبة له، رسالة أوربا؛ تلك الرسالة التي يمكن توجيهها إلى الجميع، والتي يمكن لكل واحد منّا أن يعبّر عنها بطريقته الخاصة: تخاطب المُثل العليا لتحرر النساءَ اللواتي يعشن في بلدان تفرض عليهن الخضوع لعدد من التقاليد، مثلما تخاطب الشباب الذين يثورن هنا وهناك ضد الأنظمة الاستبدادية... إلخ.
 وإذا كانت أوربا تجسّد «مخطط مراعاة وجود الآخرين»، حيث الحرية والحفاظ على العالم المشترك هي معايير الاختيار، والذي يؤكد مركزية الإيكولوجيا التي ينظر إليها كحكمة للعيش على الأرض، فإنها (أي أوربا) ستفرض نفسها دون أن تفرض أي شيء. وإضافة إلى ذلك، فإن ما يُسَمَّى بالفلسفات «الأوربية» هو في الواقع فلسفات متعددة الثقافات: فقد كان لابن رشد تأثير كبير في الفكر الغربي. وهذا ليفيناس جاءنا من ليتوانيا. أما جاك دريدا فكان يتحدث عن أن أصله من «شمال الجزائر». في حين كان ليو شتراوس يتقن ثماني لغات. ومن ثمّ فإن عصر التنوير يُشَدِّدُ على دور العقل ويؤكد وحدة الجنس البشري ضد أولئك الذين يريدون وضع المجتمعات بعضها ضد بعض. هناك عالم واحد فقط وثقافات متعددة. وهذه الرسالة تبدو منطقية اليوم، في خضم أزمة صحية وبيئية. ولكي نعيد بناء الاقتصاد ونتجنب الفوضى السياسية، فسوف نحتاج إلى معايير عالمية يمكن تكييفها مع سياقات مختلفة ■