شهود عيان

شهود عيان

هل يمكن لنا أن نكون شهود عيان صادقين ولو اختلفنا فيما نراه بأعيننا؟  
منذ بضع سنوات، انشغلت وسائل التواصل الكندية بفستان أنيق ظهرت صورته على شبكة الإنترنت، وما شغل المتابعين كان لون هذا الفستان؛ فمنهم من رآه أزرق وأسود، ومنهم من رآه أبيض وذهبيًا. 
والتفسير العلمي لهذا الاختلاف هو أن الألوان التي نراها تعتمد على طريقة دماغنا في تفسير النور القويّ الظاهر في خلفية الصورة. وقديمًا أشار الفيلسوف اليوناني لوكريتيوس إلى أن الناظر إلى القمر في ليلة غائمة يظنّ أن القمر هو الذي يتحرك صوب الغيوم.  كذلك لفت أرسطو إلى أن الجذوة، أو الجمرة المشتعلة، إذا ما دارت بها ذراعنا تجعل الناظر يرى دائرة من النور.
نعرف أن الشعوب لا ترى الألوان بالطريقة نفسها. دليلنا إلى ذلك هو اختلاف اللغات القديمة في تقسيم الألوان. لكنّ الأفراد قادرون على تكييف طريقة نظرهم، وبالتالي على رؤية ما لم يعتادوا رؤيته. وهناك حكاية معروفة عن مستكشف وصل إلى قبيلة تعيش منقطعة عن العالم، وحين أصبح قادرًا على التفاهم مع أفرادها، عرض على أحدهم صورةً شمسية، فأخذها هذا بيده وقلّبها، لكنّه لم يرَ سوى مستطيل من الكرتون (هل رأى «مستطيلًا»، و«كرتونًا» حقًا؟)، لم يرَ سوى مادة وشكل. وحين شرح له المستكشف الأمر، استمع إليه باستغراب. لكنّه بعد ذلك صار يتمكّن من رؤية الأشخاص في الصور. هذا المثل يعلّمنا أن لكل شيء طريقة نراه بها. فنحن حين نقف أمام لوحة معلّقة على جدار ننظر إلى اللوحة لا إلى الجدار، بينما إذا وقفنا أمام نافذة، فإننا لا ننظر إليها، بل إلى ما وراءها. فنحن نتعلّم منذ الصغر أن ننظر إلى ما نعتبره مهمًّا لنا. لهذا لا نعجب إن رأينا صانع البراويز ينظر إلى إطارات الصوَر، في حين ينظر الآخرون إلى الصور.
حكاية رجل القبيلة البدائية ليست أغرب من حكاية أبناء المدن مع الصور السينمائية. ففي بدايات السينما كان المخرجون يتقصّدون تصوير منظر القطار وهو منطلق مباشرةً صوب الكاميرا. وكم من المشاهدين بصالات السينما في الأربعينيات صرخوا خوفًا من أن يدهسهم القطار، إلى أن اعتادوا طريقة مختلفة للنظر إلى المشاهد السينمائية.
سألت مرة زميلًا إفريقيًا عن زميل إفريقي آخر عمّا إن كانا من بلد واحد، فتعجّب من أنني لا أرى الفرق في اللون واللمعان وشكل الوجه بينهما. وكان عجبه في محلّه، فأكثر الناس، وقد كنتُ منهم، لا يرون أن سواد الوجوه درجات، وقد تخالطه ألوان أخرى بفعل المناخ وطبيعة تربة الأرض.
لا تنفصل طريقتنا في النظر عن مدى معرفتنا بالمنظور إليه، فكلما توسّعت معرفتنا ازدادت قدرتنا على رؤية الفروق والتفاصيل. فحين أنظر إلى قطيع من الإبل لا ترى عيناي سوى مجموعة من الجِمال، في حين يستطيع ابن الصحراء تمييز أنواع كثيرة مختلفة بحسب أعمارها وأحوالها. وينطبق هذا على الفرنسي أمام أنواع الخبز وما شابه.
نحن إذن لا نرى بأعيننا فقط، بل بمعرفتنا وثقافتنا أيضًا. فهل يمكن لنا أن نكون شهود عيان صادقين ولو اختلفنا فيما نراه؟ ■