قاطرة التقدم الترجمة ومجتمع المعرفة

قاطرة التقدم الترجمة ومجتمع المعرفة

دعونا نبدأ من عنــوان هذا الكتــاب الذي هو عنوان استعــاري بكــــل معنـــى الكلمـة، وما تتضمنــه هذه الاستعارة من دلالات، وهي استعارة اختيرت صيغتها في تقديري بعناية شديــدة؛ فالترجمــة ليســت قطار التقدم وإنّما قاطرة التقدم، أي عربة الجرّ الملحقة بها والمتصلة بهــا عربــات الركاب. وبهذا المعنى فلكي يمكن تحقيق التقدم أو بلوغه لا بدّ من الحضور الفعال للترجمة. وبهذا المعنى أيضًا تصبح الترجمة شرط إمكان التقدم التي من دونها لا يمكن للتقدم أن يتحقق. الترجمة بهذا المعنى فريضة من فرائض المستقبل، وضرورة من ضرورات البقاء؛ وإلّا بقينا في زمن آخر.

 

 قد يتساءل البعض: هل كل هذا مُضمَّن في العنوان؟ والجواب هو نعم، بل وأكثر من هذا أيضًا، إذا ما قرأنا العنوان في ظل ما يحتويه الكتاب من مقالات، إذ يتضح حجم المأساة حين يحيلنا المؤلف على عينة من نسبة الترجمة في علاقتها بعدد السكان في العالم العربي مقارنة بها مع بعض البلدان الغربية الأخرى، والتي هي كتاب لكل مليون مواطن في مقابل 250 كتابًا لكل مليون مواطن؛ إذ ندرك حينئذٍ، مدى ضعف القاطرة التي تجرنا كركاب نحو التقدم، وهل يمكنها أن تبلغ بنا حتى أولى محطات التقدم؟ 
السؤال بالتأكيد موجع وقد يكون مُؤِسفًا ومُفزِعًا أيضًا، ولعل هذا الإدراك تحديدًا هو ما يقف وراء المطالبات والنداءات العديدة التي تزخر بها مقالات الكتاب على ما بينها من مسافات زمنية من أجل أن يكون هناك العديد من المراكز القومية للترجمة، لكي تقوى وتقدر هذه القاطرة على سحب وجرّ عربات القطار العربي الثقيلة نحو آفاق التقدم. هكذا تبدو الترجمة في وعي د. جابر عصفور طيفًا مُؤرِّقًا وهاجسًا مُلِحًا، لا يكاد يدعه أو يغادره حتى يلوح مُعاوِدًا زيارته، على نحو ما ينعكس في تواريخ المقالات الممتدة على مدار هذا المدى من السنوات الذي يجاوز عقدين من الزمان، فيزيد اشتياقه كلما مرّ الزمان أن يرى هذه الأطياف وقد تحولت حقائق، على نحو ما تحقق حلم المركز القومي للترجمة الذي، على حد بيت عزيز أباظة:
كان حلمًا فخاطرًا فاحتمـالا 
ثم أضحى حقيقة لا خيـالا
فتصبح هناك عشرات، إن لم نقل، مئات المراكز المتخصصة للترجمة على امتداد العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.
وإذا انتقلنا خطوة أخرى مع تداعيات هذا العنوان في إطار علاقته بمحتوى الكتاب يتضح لنا أن الترجمة بالنسبة لمثقف مثل د. جابر عصفور ليست مجرد فعل ثقافي تواصلي، وإنّما هي - في ظل واقعنا التاريخي الذي يعي أبعاده وتعقيداته وإشكالياته جيدًا - فعل سياسي بامتياز، وأنّها بالأساس فعل من أفعال المواجهة والمقاومة بكل معنى الكلمة: مقاومة العدو المباشر (الكيان الصهيوني) الذي لم تنتهِ جولاتنا معه، والذي تمثّل الترجمة إحدى وسائلنا الضرورية والواجبة من أجل فهمه والقدرة على مواجهته على الصعد كافة. وهو ما ينعكس بجلاء في مقال «حكاية الترجمة عن العبرية»، كما أنها أيضًا فعل من أفعال مقاومة هيمنة المركزية الأوربية على الثقافة العربية والإنسانية بعامة. مثلما أن الحرص على تعددية اللغات والثقافات المترجم عنها يمثل شكلًا من أشكال مقاومة التبعية للغات وثقافات بعينها على نحو ما يتجلى صراحة في مقاليه «الترجمة ومقاومة التبعية»، و«الترجمة بين التحرر والتبعية»؛ ومن ثمّ فإنها وسيط من وسائط خلق التوازن الثقافي على المستوى العالمي، والسماح لأصوات اللغات والثقافات المختلفة أن تتفاعل وتتحاور مع بعضها البعض. وإذا كانت الترجمة تمثّل شكلًا من أشكال مواجهة ومقاومة العدو الخارجي، فإنها أيضًا لا غنى عنها في مواجهة العدو الداخلي المتمثل في أولئك الظلاميين الداعين إلى التقوقع والانغلاق على الذات. وهو ما يعني أن السياسة حاضرة دومًا ومباطنة لأفعال الترجمة، وخصوصًا في عالمنا العربي.
ولذا، وانطلاقًا من هذه الرؤية السياسية للترجمة نجد عصفور يؤكد ضرورة «الاعتماد المتبادل» فيما بين الأقطار العربية، إذ لن تستطيع قاطرة قُطر واحد على جرّ كل هؤلاء الركاب في عرباتها. ومن ثم نجده ينتقد الانغلاق القُطري، ويدعو إلى ضرورة التواصل والتعاون والتنسيق فيما بين مراكز ومؤسسات الترجمة في العالم العربي وتبادل الخبرات فيما بينها؛ بما «يُؤكِّد قومية الهدف ويجسد قومية العمل والإسهام» (قاطرة التقدم، ص 37). وهو ما يعكس، ضمنيًا، مدى الحاجة إلى العمل المشترك، انطلاقًا من مفهوم الأمة الواحدة التي تجمعها هموم واحدة وآفاق مستقبلية مشتركة.
وفي مقال الترجمة والنهضة نجد استمرارًا وامتدادًا لاستعارة الترجمة بما هي شكل من أشكال المواجهة، ولكن هذه المرة المواجهة تكون للذات في وعَبْر مرايا الآخر، إننا مع الاستعارة ذاتها، ولكن من زاوية أخرى أكثر تعقيدًا، إذ لا تقتصر الترجمة هنا على معرفة الآخر ومواجهته فحسب، وإنّما تتسع وتمتد لتتضمن، إن جاز لنا التلاعب قليلًا بتشبيه ذي الرمة معرفة الذات ومواجهتها، إن جاز التعبير، عبر مرآة الغريبة التي قد تكشف له في سياقات النهضة والحاجة إلى النهوض ما لا يمكن أن تكشفه له مراياه الخاصة والذاتية، سواء كان هذا في أزمنة النهضة الماضية أو الحديثة. ومن ثم حاجتنا إلى استخدام مرآة الغريبة لنجتلي فيها ذاتنا.
لها أذنٌ حَشْرٌ وذِفرى أسيلة          
وخدٌّ كمِرآة الغريبةِ أسجحُ
كما يرى «عصفور أيضًا أن الترجمة فعل من أفعال تفكيك احتكار المعرفة واحتكار أسرار التقدم. بعبارة أخرى الترجمة هنا تصبح نوعًا من أنواع الإفشاء وإعادة توزيع المعرفة بما يتيح تحقيق نوع ما من أنواع العدالة المعرفية، ويبتعد بالمعرفة عن ألعاب الكهنوتية والإقصاء.
كما نجدنا مع استعارة أخرى من استعارات الترجمة الأثيرة والشهيرة وهي الترجمة بما هي جسر يصل الأزمنة والأمكنة واللغات، بما يتيح التواصل.
وفي ظل علاقة عصفور الحميمة بالتراث وخصوصًا التراث الفلسفي العربي تمثّل مقولة الكندي الشهيرة والأثيرة لدى عصفور عن «تتميم النوع الإنساني» مُحفِّزًا ومفتاحًا ومُحرِّكًا لكل آلات التقدم التي تأتي في مقدمتها الترجمة؛ ومن ثم نجده ينطلق من هذه المقولة ليكشف عن استحالة إنجاز ما تنطوي عليه هذه المقولة من قيم دون تواصل وتفاعل جماعات وأفراد هذا النوع الإنساني، وأنه لا سبيل إلى تحقيق هذا بعيدًا عن أفعال الترجمة. هكذا تبدو الترجمة أيضًا فريضة إنسانية تكتمل وتتحقق بها إنسانية الإنسان.
وهكذا يمكن القول إن الترجمة في منظور عصفور هي ممارسة متعددة الأوجه ومتعددة المرايا؛ إذ عبر مراياها يمكن معرفة الآخر ومعرفة الذات، ويمكن مقاومة استبداد الآخر ومقاومة تخلّف الذات، كما يمكن عبر مراياها وعطاياها أيضًا التواصل والتبادل مع الآخر، ومن ثم الارتقاء بالوجود الإنساني، أو على حدّ عبارة الكندي المدارية في خطاب عصفور الثقافي «تتميم النوع الإنساني» الذي يمكن القول إن محطة تمامه هي دومًا محطة مُرْجَأة ومُؤجَّلة، وإن فعل هذا التتميم ليس سوى رحلة متواصلة بلا نهاية، (قاطرة التقدم، ص 41).
وفي ظل ولع عصفور الدائم بالتأصيل، نجده كما يعود للكندي ليُحفِّز ويحض ويُحرِّض على قيمة الترجمة في التراث العربي يُعرِّج أيضًا على هذا الكاتب الموسوعي أبي عمرو بن بحر الجاحظ، ليبرز مدى وعيه بقيمة الترجمة ودورها في تطوير الثقافة وإثرائها.
مثلما نجده يستقي أيضًا بعض دروس حركة الترجمة القديمة وكيف ينبغي لنا أن نفيد منها، وكيف أنها كانت على هذه الدرجة من الوعي والانفتاح والاتساع الذي يعي قيمة تنوّع جنسيات وأعراق المترجمين، بما يؤكد الحضور الكوزموبوليتاني في عمليات الترجمة القديمة.
كما نجد ملمحًا آخر في الكتاب، وهو هذا الحرص على محاولة التأريخ لنشأة مؤسسات ومراكز الترجمة، كما هو في المقال الافتتاحي وفي مقاله عن المنظمة العربية للترجمة والمؤتمر السابق لإنشائها، وهو ما يفيد، إضافة إلى ما يتضمنه من قيمة تاريخية مُهمة بحدّ ذاتها، في إنارة الطريق لأي مشاريع مستقبلية قادمة.

مأسسة الترجمة
وبقدر احتفاء عصفور بالجوانب الإيجابية في حركة الترجمة بقدر انتباهه ويقظته للجوانب السلبية على نحو ما يتجلّى في مقال «سلبيات حركة الترجمة المعاصرة» أو تحديد المُعوِّقات من أجل العمل على إزاحتها. وهنا نجد عصفور على امتداد المقالات يؤكد أهمية مَأْسَسَة الترجمة وتعدد مؤسساتها، وأن الجهود الفردية - مع كل التقدير لها - لن تكفي، وأنه لا بدّ من جهود مُؤسَّساتية مُتضافِرة ومُتآزِرة. (انظر قاطرة التقدم، ص 57).
 ومن هذه السلبيات: التشرذم والعشوائية، كصدور أكثر من ترجمة لكتاب واحد، (أربع ترجمات لسوسير)، (قاطرة التقدم، ص 58)، وكيف يتولد عن التشرذم والعشوائية فوضى المصطلح.
كما يتعرّض عصفور لبعض الترجمات المُشوَّهة؛ سواء على مستوى المصطلح أو على مستوى عمليات الحذف والاختصار، وما يدخل في نطاق الترجمات التجارية.
كما نجده، بقدر ما يشيد ببعض الجهود التي تقوم بها بعض الدول العربية، يُوجِّه أيضًا سهام النقد للدول العربية في عدم دعمها الكافي للترجمة. في مقاله عن الترجمة والدولة، أو في رقابتها على الترجمة والمنع والقمع على نحو ما يتجلّى في مقال «الترجمة والحرية»، الذي تتجاوز فيه إشاراته إلى ما يمكن أن يُوجَد من تواطؤ من قبل الدولة مع التيارات الدينية المتطرفة حدود الإيماء أو الإيحاء والتلميح إلى ما يُشارِف التصريح؛ بما يعني مسؤولية الدولة المُباشِرة عن تنامي هذا التيار الذي تُؤدِّي استجابة الدولة له إلى قمع المُترجِمين وتنشيط أجهزة الرقابة الداخلية لديهم بالضرورة، سواء في عمليات الاختيار أو في عمليات الترجمة ذاتها، وما يمكن أن يصاحب هذا من استبعاد كتب بعينها أو حذف أو تحريف، أو عدم صدور، أو على الأقل تأجيل صدور، أعمال تمت ترجمتها بالفعل على نحو ما حدث مع ترجمة عبدالعزيز الأهواني لدون كيشوت، وترجمة عصفور نفسه لعصر البنيوية، وسوى ذلك من الحالات.
 هكذا يكشف عصفور في مقاليه «الترجمة والحرية» و«ازدواج» مأزق المترجم مع الدولة ومع جماعات الضغط المتطرفة ومع المُؤسَّسات الأكاديمية التي هيمنت عليها أيديولوجيات هذه الجماعات، وتواطؤات الدولة البائسة مع قوى التخلف في مجتمعاتنا السعيدة.
 كما نجده يعاود الكَرَّة ليُؤكِّد هذه الدلالات المرة بعد الأخرى في مقالات مثل «الترجمة والمدار المُغْلَق»، الذي يرصد فيه بعض صور النفور العدائي من الآخر والتقوقع في مقابل الانفتاح على الآخر في تاريخنا الثقافي. وفي مقال «حرية الترجمة» أيضًا يُشخِّص عصفور مشكلات الترجمة ومآزقها في العالم العربي، في إطار السياق الأوسع لمشكلات ومآزق حرية الفكر والإبداع والأدوار الرديئة التي يلعبها حراس البوابات الثقافية في مجتمعاتنا، ممن تُنصِّبهم الدولة لحماية بواباتها من مخاطر الإبداع. 

هجمات متطرفة
كما يُسجِّل بعض هجمات التيارات المتطرفة على الترجمة، على نحو ما كانت تقوم به جريدة الشعب الناطقة باسم حزب العمل، وحملاتها التكفيرية لناشري ومترجمي الكتب التي لا تتوافق مع أيديولوجيتها المتطرفة عبر نوع من المُمَاثلة التخييلية المغلوطة بين مؤلفي هذه الكتب ومترجميها والناشر. وهنا يبدو هذا الرصد شديد الأهمية لذاكرة حركة الترجمة، إذ ينبغي لنا عمل أرشيف للمنع والحظر والتكفير لنكتب تواريخ الحظر والمنع والتكفير الطويلة والممتدة في عالمنا لكي ندرك أيّ عالم نواجه، ولكي يمكننا أن نستبين الأرض التي نقف عليها وننطلق منها.
كما نجد أن د. عصفور ليس منشغلًا فقط بالترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية، بل إنه أيضًا مشغول بالترجمة من العربية إلى غيرها من اللغات على نحو ما يتجلى في مقاله «من العربية إلى الفرنسية»، الذي يستعرض فيه الثبت البيبلوجرافي للكتب المترجمة من العربية إلى الفرنسية لكاميليا صبحي. كما يرصد مشكلات الترجمة من العربية إلى الألمانية وبعض الأعمال التي تمت ترجمتها، راصدًا الدور الذي قام به هارتموت فندريش من الثمانينيات وحتى تاريخ نشر المقال في 2004 في التعريف بالأدب العربي وترجمته إلى الألمانية، كما يرصد نسب هذه الترجمات من العربية إلى الألمانية في توزيعها على الأقطار العربية. وهو ما يعكس مدى يقظة الكاتب وانشغاله بأمور الترجمة حتى في دلالاتها الإحصائية، فضلًا - بالطبع - عن اهتمامه بالترجمة من العربية إلى الإنجليزية.
وبـــقـدر مــا ينـشغـل د. عـصـفور بالتوزيعات الإحصائية للترجمات عن العربية، فهو ينشغل بالقضايا والتأثيرات النوعية للترجمة قديمًا وحديثًا، بداية من ترجمة التراث الإداري والعلمي منذ الأمويين، ومرورًا بترجمة الفلسفة وتأسيس المأمون لبيت الحكمة، ثمّ برفاعة والنهضة وتأثيرات الترجمة على نشأة الرواية العربية، وصولًا إلى ترجمات إليوت والمشروع القومي للترجمة. كما يرصد د. عـصـفور أيضًا انقطاعات مشاريع الترجمة العربية التي لا تكاد تبدأ حتى تتوقف، وكأنه يخشى أن يحدث هذا مُجدَّدًا، بل إن تتبّعه لمسارات العديد من مؤسسات الترجمة العربية يكشف مدى قلقه على مستقبل حركة الترجمة ومدى خشيته من تكرار الانقطاعات.
 بل إن المُتأمِّل لما يرصده يشعر أن هذه الانقطاعات لا يمكن أن تكون من قبيل المصادفة. ولعل تفسير عصفور لهذه الانقطاعات بأنها وليدة اختلال علاقة الثقافي بالسياسي في واقعنا لا يعدو أن يكون تلطيفًا يحوي في ثناياه ما هو أبعد من هذا. ولعل في هذا الخوف من الانقطاع ما يُفسِّر ما يوجد من بعض التكرار والإلحاح على بعض التيمات والقيم في مقالات الكتاب.
كما تعكس المقالات أيضًا حرص عصفور على إحياء وإبراز جهود مترجمي النهضة كالطهطاوي والبُستاني وسواهما، لكي يُؤصِّل ويُؤكِّد قيمة الترجمة بالنسبة للمستقبل، وتعكس حرصه على توسيع نطاق حركة الترجمة بدعوة المترجمين العرب للمشاركة، فهو حريص على استخدام رموز النهضة في تحفيز هذا الواقع الخامل والمُتناوِم والمستجيب لإرهاب جماعات التطرف، على نحو ما ينجلي في مقال الترجمة وتفاعل الثقافات الذي يُلقي فيه الضوء على المؤتمر الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة بهذا العنوان بين مايو ويونيو 2004، بقدر ما هو حريص على توسيع نطاق المشاركة العربية. وهو بمقالاته عن بعض مؤتمرات الترجمة ينعش أيضًا ذاكرة التأريخ لحركة الترجمة.
كما يكشف لنا في مقاله عن قضايا الترجمة المعاصرة إلى أي مدى تنطوي الترجمة عن لغات وسيطة على صور عدة من تلوين وتشويه ثقافات وأيديولوجيات هــذه اللـــغات الــوســيطة للنــصوص المُترجَمة، مستشهدًا بنماذج شديدة الدلالة على هذا كما هو في حالة الترجمات السوفييتية للماركسية مثلًا التي كانت تُروِّج تفسيرات مُحدَّدة تتوافق والأيديولوجيا السوفييتية، وكذلك الأدوار التي لعبتها وتلعبها المخابرات الأمريكية في عمليات الترجمة على نحو ما تكشف كتب مثل «الحرب الثقافية الباردة» و«مَن يدفع للزمار»، أو ما لعبته مؤسسة فرانكلين من أدوار في الترويج المستتر أيديولوجيا الرأسمالية الغربية ومناهضة نزعات وحركات التحرر الوطنية، ومن هنا يؤكد قيمة الترجمة عن اللغات الأصلية.
كما نجده في مقاله عن «الترجمة بين الاتباع والإبداع» يرصد ردود فعل غالبية المشاركين في مؤتمر الترجمة وتفاعل الثقافات على ورقة حسن حنفي ودعواه المُغالِطة التي تقرن الترجمة بالنقل، ومن ثم بالاتباع، وأنه لكي نجاوز الاتباع إلى الإبداع علينا أن نكفّ عن النقل؛ أي نكف عن الترجمة باسم الإبداع.

مستقبل مجهول
 وعلى الرغم من تهافت مثل هذا الطرح، نجد عصفور مهتمًا بتفنيده والرد عليه، لئلا يتم القضاء على أحد وسائط الإبداع باسم الإبداع، ولئلا تنطلي حُجته المُتهافِتة على قليلي الخبرة أو السذّج، خصوصًا في ظل هذا المفهوم الساذج الذي يقدّمه للترجمة بوصفها مجرد نقل، وتغافله عن أن الترجمة عمل إبداعي بكل معنى الكلمة؛ من حيث تحديها للغة المُترجَم إليها وما ينطوي عليه هذا التحدي من تفجير لإمكانات تلك اللغة من أجل أن تتسع لاستيعاب اختلاف الآخر، واختلاف ثقافته، ولعل هذا البُعد الإبداعي تحديدًا هو ما حدا بمفكر لغوي مثل ابن جني لابتداع استعارته البديعة في الخصائص عن «شجاعة العربية».
إن الكتاب بمقالاته البالغة 32 مقالة يعكس توتر وقلق مُثقَّف مُؤرَّق بالمستقبل، مُثقَّف مُؤرَّق بهموم واقع مُجْهَد ومُنْهَك ومأزوم، وبمستقبل سيظل مجهول الآفاق ما لم يتزود الواقع بالآلات والآليات المُلائِمة لبلوغه، ومن ثم لا يفتأ ولا يكف عن مُناشدة قومه أن يعدّوا العُدَّة اللازمة لتغيير هذا الحاضر الذي لا يتيح لهم أن يبلغوا آفاق التقدم. 
إنه أشبه بالرائد الذي يصدق أهله، والذي لا يكفيه أن ينتبه بعضهم فقط دون البعض، بل يريد لهم جميعًا أن ينتبهوا، ومن ثم فإنه لا يفتأ يُكرِّر النداء بعد النداء، والصيحة بعد الأخرى ليوقظ قومه، وكأنه جميل وقد فاض به الوجد: «ألا أيها النوام ويحكم هبّوا...».
وهكذا، فإن ما سمح لجابر عصفور أن يُنشئ المركز القومي للترجمة، هو أنه نموذج من هذه النماذج القليلة جدًا من المُثقَّفين المُؤسِّسيين الذين يمتازون بمجموعة من المزايا الخاصة والاستثنائية، التي قلّما تتوافر في مجتمعاتنا، والتي تتمثل في: أنه صاحب خيال، وإرادة ورسالة، وصاحب مبادرة وإنتاج معرفي. ومن ثمّ فإنه قد استطاع أن يكون مُثقفًا عضويًا بكل معنى الكلمة على الرغم من مؤسسيته العريقة، وهذه إحدى مفارقات عصفور التي يمتاز بها عمن سواه من المُؤسسين.
وأخيرًا، وتجاوبًا مع نداءات عصفور، ومساهمة منّي في دعم تلك القاطرة وتزويدها بآلات جرّ إضافية، فإنني أتقدم بهذا الاقتراح الذي سبق أن طرحته في المركز القومي للترجمة ليلة نقاشنا أنا والأساتذة د. محمد عناني، ود. أنور مغيث، والأستاذ محمد الخولي، ود. خيري دومة ود. جابر نفسه. وهو اقتراح متولد عن تأمل تاريخ حركة الترجمة في العصر الحديث وأهم القائمين عليها والفاعلين فيها، والتي تكشف للمفارقة أن أغلب المساهمات في مجال الترجمة لم تأتِ من دارسي اللغات الأجنبية والمتخصصين فيها، وإنما أتت منذ رفاعة وما بعد ممّن ينتمون إلى مجالات الثقافة التقليدية واللغة العربية والفلسفة والاجتماع والقانون وعلم النفس، وأن مساهمات المُتخصصين في اللغات الأجنبية لم تبدأ في الظهور بشكل لافت ومؤثر، وفيما عدا استثناءات محدودة جدًا، إلّا مع ظهور المشروع القومي للترجمة، ثم المركز القومي للترجمة، ومن خلال ضغوط بدأها عصفور، ولولا مبادرته تلك لظلت الحال على ما هي عليه من ضعف هذه المشاركات. 
لذا فإنني أقترح أن يُضاف إلى جانب المتطلبات الاعتيادية للحصول على الدرجات العلمية، الماجستير والدكتوراة، ودرجتي أستاذ مساعد، وأستاذ، كتاب مترجم في مجال تخصص كل عضو هيئة تدريس من المدرس المساعد إلى الأستاذ، وهو ما يعني أن يقوم كل عضو هيئة تدريس - عبر مساره ووصوله إلى درجة أستاذ - بترجمة 4 كتب تزداد درجات صعوبتها وحجمها تبعًا لتدرّج تلك الدرجات العلمية. ودعونا نتخيل عدد أقسام اللغات لدينا على مستوى الجامعات العربية، وعدد مَن فيها من أعضاء هيئة تدريس، وضربها في 4 كتب، لندرك ما يمكن أن يتوافر لدينا من ذخيرة معرفية تثري اللغة والثقافة العربية، وتتيح لنا متابعة التطورات في العديد من المجالات المعرفية الحديثة والمعاصرة؛ إذ لا يُعقَل ألّا تفيد اللغة العربية والثقافة العربية من كل هذه الأعداد الضخمة من المتخصصين والمتخصصات في اللغات الأجنبية، وأن تترك المسألة للهوى الشخصي والمصادفة، بل إنها تحتاج تدخلًا  مُؤسَّسيًا مباشرًا على مستوى المجالس العليا للجامعات في العالم العربي ولجان الترقيات، واستصدار قرارات مُلزِمة بهذا الصدد، إذ لم تعد الترجمة في هذه اللحظة التاريخية وفي ظل الانفجار المعرفي الذي يشهده العالم مجرد فرض كفاية، بل لقد أصبحت - في تقديري - فرض عَين على كل من يتقن لغة أجنبية، من أجل أن نساهم في دفع عجلات التقدم لهذه الأمة ■