عالَمٌ لا مفرّ من الانخراط فيه

عالَمٌ لا مفرّ  من الانخراط فيه

لست من المتشائمين من المستقبل، لكنني أيضًا لست من الحالمين بإفراط، وأدرك أن العالم العربي يقف عند لحظة فارقة من تاريخه، فنحن نعيش على أنقاض عالَم قديم مليء بالعداوات القديمة غير المبررة، بينما لم يُولد العالم الجديد بعد، فقد تأخرت ولادته التي توقّعها الجميع بعد حدوث الاستقلال، وظل متأخرًا حتى ما بعد نهاية الحرب الباردة، وكان من المنتظر أن تأتي حقبة جديدة على العالم كلّه تسود فيها لغة الحوار بديلًا عن الحروب.

 

 تسعى الدول لتعزيز مصالحها الاقتصادية عن طريق تبادل المنفعة لا العداء، وأن تتراجع الأفكار المتطرفة وما يتبعها من سياسات متطرفة إلى هامش المصلحة البشرية، على الأقل هذا ما فكّر فيه رهط من مفكري العالم، وهو الأمر الذي اعتقد المفكر والسياسي الأمريكي هارلان كليف لاند، مؤلف كتاب «مولد عالم جديد»، أنه ممكن التحقيق، ولم يكن وحده في هذا الاعتقاد، ولكن شاركه 34 مفكرًا ومتخصصًا في الشؤون السياسية والاقتصادية من مختلف دول العالم.
كليف لاند ليس سياسيًا عاديًا، فقد شغل عدة مناصب عليا في الإدارة الأمريكية، حيث كان سفيرًا ومستشارًا لها في العديد من الدول، وحصل على عشرين درجة فخرية وجوائز دولية، لذا كان من الطبيعي أن يضع تصورًا لعالَم ما بعد الحرب الباردة، لكنّه لم يُرد أن يتفرّد وحده بهذه التصورات، وأرسل خطابات للعديد من المختصين في أمريكا الشمالية والجنوبية وإفريقيا وآسيا، كدعوة للاشتراك في جهد دولي غير حكومي وطموح لإعادة النظر في النظم الحاكمة على مستوى العالم، وكان الهدف هو وضع نظام دولي مرن يتّسع للأمن والتنمية والإدارة الاقتصادية وحقوق الإنسان ومسؤولياتها واختلاف الثقافات وهجرة الشعوب وحماية البيئة العالمية.

التحكم في نظام الشر
كان هذا هو الهدف الطموح على المستوى الفكري، لكنّ القدَر كان يخفي أشد المفاجآت رعبًا، فقد سار نظام صدام حسين في أغسطس 1990م عكس مسار التحولات المستجدة في السياسة الدولية، عندما غزا دولة الكويت واحتلها لمدة 7 أشهر، قبل أن يُطرد هو وجيشه منها شرّ طردة على يد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقبل خروجه ارتفعت ألسنة اللهب عالية من آبار النفط في الكويت، فلم يشأ ذلك النظام أن يرحل قبل أن يترك هذا الفعل المدمر للبيئة والإنسان، كان ذلك أشبه بالجحيم على الأرض، وعلى ضوء ألسنة اللهب، أدرك العالم أنه يجب البحث عن آلية جديدة للتحكم في نظام الشر الذي يقوده صدام وأمثاله من الطغاة، فرغم هزيمته، فإنّه لم يستوعب الدرس، وظل مثل الشوكة في خاصرة العالم، ومن المؤسف أن الشعب العراقي هو الذي دفع ثمن هذا العناد، ولم تمض سوى فترة قصيرة قبل أن تحدث تداعيات أخرى.
لقد انهار الاتحاد السوفييتي في خريف عام 1991، وتبعثرت أجزاؤه، وسقطت واحدة من أقوى الامبراطوريات التي شهدها العالَم، وكانت تملك من الأسلحة النووية ما يكفي لتدميره، لم يُطلق أحد عليها رصاصة واحدة، لكنّ بنيانها الذي كنّا نظنه متينًا لم يتحمّل التغيّرات المتسارعة، كأن تماسكه كان يعتمد فقط على ردود أفعال الحرب الباردة، كانت كل الدول تدور في فلكه قد تساقطت مثل قطع الدومينو، كأنّ زوال سور برلين قد أزال كل الموانع والمخاوف القديمة التي كانت تحكم قلب أوربا، وأثبتت دول الكتلة الشيوعية السابقة أن حاجتها إلى الحرية لا تقل عن حاجتها للغذاء والشراب، فلم تبالِ بالمشكلات الاقتصادية التي تعقب الانفصال، ونهضت جميعًا ترفض الحكم الشمولي المفروض عليها، وقد لاحظ المراقبون أن إنهاء الحكم الشيوعي في بولندا قد استغرق 10 سنوات، وفي المجر 10 أشهر، وفي ألمانيا الشرقية 10 أسابيع، وفي تشيكوسلوفاكيا 10 أيام، وفي رومانيا أقل من 10 ساعات.

عقد الديمقراطية
من المؤكد أن بداية القرن الجديد كانت همًّا ثقيلًا على عالمنا العربي، وإذا كانت الثمانينيات في العالم يُطلق عليها عقد الديمقراطية، حيث سقطت الكثير من الأنظمة الدكتاتورية ونهضت أنظمة أخرى منتخبة، فإنّ ذلك العقد لم يمثّل لنا شيئًا، ولم نتأثر بموجات الديمقراطية، وكأننا كتلة صلدة لا يمكن اختراقها، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمان، انطلقت شرارة الربيع العربي، وبدلًا من أن تنجح في تحقيق أهدافها، انحرفت الأمور إلى فوضى مدمّرة أطاحت دولًا ودمرت مدنًا، وإحدى المعضلات الرئيسية التي تكشفت هي أن كل الفرقاء، رغم أنهم من أبناء البلد الواحد، يفضلون التقاتل عن الجلوس للحوار، يفضّلون أن يدمّروا مدنهم بدلًا من أن يتشاركوا في بنائها، فكيف يستقبل العرب هذا العالم الجديد؟ 

قضايا حقوق الإنسان
هناك 3 تحديات، يمكن صياغة الأول منها في هذا السؤال: ماذا يفعل العرب وأجهزتهم في مواجهة قضايا حقوق الإنسان؟
 إنها أقدم القضايا وأهمها، لأنها تتعلّق بالوجود الإنساني نفسه، فقد كانت هذه الحقوق إمّا أن تكون منحة من سلطان، أو تنتزع منه انتزاعًا، وقد جرّبت الكثير من الشعوب القديمة نظام العبودية، حيث كان الإنسان مجرّد سلعة تُباع وتُشترى، وكان هناك سيد أو إقطاعي يمتلك كل هذه الأرواح، ووقع هذا الغبن ليس على سود البشرة فقط، لكن بِيضَ البشرة في أوربا عانوا منه أيضًا!
وعندما صدرت قوانين تحريم العبودية قاومها الكثيرون، لأنّ أيادي العبيد كانت تعمل في زراعة الأرض من دون أي حقوق، إذ يكفيها أن تحصل على طعامها وشرابها، أمريكا نفسها لم تشأ أن تتخلّى عن هذا النظام، وقامت الحرب بين الجنوب الذي كان يعتمد على العبيد في الزراعة، والشمال المتقدم صناعيًا الذي كان يريد عمّالًا لا عبيدًا، وعندما انتصر الشمال في هذه الحرب الضروس، ظفر العبيد بأول حق من حقوقهم، وتبع ذاك حق التعليم والسكن والانتقال وبقية الحقوق الأساسية التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة فيما بعد.
كذلك حدث الأمر نفسه في الثورة الفرنسية التي انتزعت حقوقها السياسية من الطبقة الأرستقراطية، وظفرت بشعار الإخاء والحرية والمساواة، بعد ذلك أصبحت هذه الحقوق من البديهيات، وأصبح من واجب الدولة الحرص على أن يتمتع بها مواطنوها، وفرضت التطورات الحديثة أن يضاف إليها حرية التعبير، وحق المواطن في إبداء الرأي بالنظام الذي يحكمه، وظهر مصطلح «الدولة الدكتاتورية» التي تقتحم حرية مواطنيها وتعتقلهم، فقط لأنهم يخالفونها الرأي، ولم يعد هذا مقبولًا، بل إن جريمة تعذيب السجناء داخل السجن أصبحت جريمة دولية لا تسقط بالتقادم، ويعاقَب مرتكبها في أي مكان بالعالم، فلم تعد الجرائم من هذا النوع، مثل التعذيب أو الاختفاء القسري، جرائم محلية، لكنّها ضد الإنسانية كلها، إنه موقف صعب أمام حكومات المستقبل التي كانت تمارس العنف دون أن تخضع للمساءلة، لأنّ تطور وسائل الاتصال، وسقوط الحدود القديمة أسقطا كل الممارسات السريّة التي يختبئ خلفها أي نظام.

مستوى التعليم
التحدي الثاني الذي تواجهه الحكومات هو مستوى التعليم، فقد كانت القوة والسيطرة قديمًا تعتمدان على قوة السلاح، مَن يملك سيفًا حادًا أو رمحًا نافذًا يستطيع أن يفرض سيطرته على الآخرين، وكل مَن يمتلك جيشًا قويًا يستطيع أن يحتل ما شاء من أراضي الغير، ولكن مع استقرار البشر وتطوّر أساليب الزراعة، أصبحت السيطرة في يد مَن يملك مساحات أكثر من الأرض وينتج محاصيل أكثر، فقد فرض تراكم الثروة الزراعية سطوته على المجتمعات القديمة، وأصبح للإقطاعي القدرة على جمع الأنصار وتجييش الجيوش للاستيلاء على المزيد من الأراضي.
لكن مع تطوّر عمليات البحث والتنقيب والقدرة على النفاذ إلى أعماق الأرض، أصبح للثروة المعدنية، كالفحم والمعادن، شأن آخر، ثم جاء البترول ليعلن عن عصر جديد من الطاقة، وليفرض سيطرته على بقية الوسائل القديمة.
لكن مع أهمية النفط واستمراره كشريان للطاقة في العقد القادم، بدأت البشرية تدخل عصرًا آخر هو «عصر المعلومات»، وإذا كانت المصادر الأخرى محدودة من حيث الكمية والموقع الجغرافي، فإنّ المعلومات لا حدود لها، وهي متاحة لكل مَن يعرف كيف يجدها ويتعامل معها، وهي تتطلب أجيالًا جديدة من المتعلمين الذين يجيدون التعامل مع التكنولوجيا المعاصرة والمعقّدة بالضرورة، لأنّ تراكم المعرفة لم يعد يتوقّف عند حد، فقد تطورت كل العلوم التي تساعد على جودة الحياة، وتطورت العلوم التي تساهم في تدميرها أيضًا، تطورت القدرات التفجيرية مـع اكتـــشاف الانشطـــار الذرّي ثم الاندماج النووي، وأصبحت القوى العسكرية لبعض الجيوش ساحقة، وخطر الانتحار الجماعي قائمًا عندما يتم توجيه هذه الأسلحة لأي غرض من الأغراض.
لكن من جانب آخر، فقد تطورت علوم الوراثة ومعرفة كيفية استغلال الجينات في إنتاج كميات كبيرة من المنتجات الزراعية والحيوانية، وظهرت أنواع جديدة من المستحضرات تساعد المرأة على الحد من الإنجاب، وتم التوصل لإنتاج الأنسولين البشري من البكتيريا، وهو ما حمل أملًا جديدًا لكل مرضى السكّري، وما زالت الأبحاث تدور من أجل إنتاج بروتين رخيص يكفي كل الأفواه، وكما يقول أحد العلماء، فإن اختراعات الكائنات البشرية قد تفوّقت على معطيات الطبيعة.

مؤازرة الديمقراطية
كان تعبير الشخص الأمّي يطلق قديمًا على مَن لا يجيد القراءة والكتابة، لكنه يُطلق الآن على مَن لا يجيد التعامل مع الكمبيوتر ووسائل الاتصال المختلفة، لذلك، فإن المواطن العربي أمامه مهمة صعبة في تغيير كل مناهج التعليم وتحديثها حتى يصبح مهيأً للدخول في عتبات العالم الجديد.
يبقى التحدي الثالث، وهو مؤازرة الديمقراطية مهما كانت تكلفتها، إن عُمر الديمقراطية في الدول المتقدمة يبلغ بالكاد 150 عامًا، وما زالت المصاعب تواجهها، وظلت العديد من الدول بعيدة عنها، بدعوى أنها غير مهيأة لها، وقد حدث في أواخر الثمانينيات ما يمكن أن نطلق عليه ثورة الديمقراطية، وهي ثورة لم تحدث بواسطة الفقراء والمُعدمين، ولكن بين المتعلمين الذين يتابعون أخبار العالم ويرون كيف تُدار الأمور في المجتمعات الأخرى والحقوق التي يتمتع بها مواطنوها بينما هم محرومون منها.
لقد أحسّ آلاف الطلبة والعمال والمفكرين أنّ لهم الحق في الاختيار، وأن احتياجاتهم في وسائل الحياة إلى الغذاء والحرية والكرامة والعدل يجب ألّا تكون محدودة لهذه الدرجة، فقد انقلبت الآية، وأصبح الناس هم الذين يصنعون السياسة وليس حكامهم، وعلى هؤلاء الحكام أن يتغلغلوا وسط صفوف الناس حتى يعرفوا ما يحتاجون إليه، وأنسب الطرق للوصول إليهم، ولأنّ مطالب الجماهير متغيّرة، فعلى الحكومات أن تغيّر أهدافها كل فترة. 
إنه عالَم جديد يفرض وجوده علينا كعرب، ولا مفرّ من الانخراط فيه، وأن نجهز أنفسنا لأن نكون فعّالين في داخله وليس خارجه، حتى لا ينسانا التاريخ■