الذكريات الأولى بالجامعة

الذكريات الأولى بالجامعة

في أواخر سبتمبر سنة 1961، كنتُ أخطو خطواتي الجامعية الأولى في اتجاه أبواب جامعة القاهرة، وكنتُ أعبر شارع الجامعة فرحًا بهذا الحدث البهيج الذي لم أكن قد فعلته من قبل.  وكان الطلاب والطالبات من حولي يتناثرون كالفراشات ممتلئين بالفرح والحبور، وكانت البهجة على وجوههم تشغلني أكثر من الطريق أو الشارع الذي امتلأ بي وبهم، وسرتُ في الموكب الطويل الذي امتد من ميدان الجيزة (حيث كنتُ أقطن بالقرب منه) إلى أبواب جامعة القاهرة.

 

 كان من حولي طالبات سافرات وطلاب يرتدون أحدث صيحات الأزياء الشبابية، لكنّي لم أكن من هؤلاء أو أولاء، فقد كنتُ أرتدي ملابسي المتواضعة التي جئتُ بها من مدينة المحلة الكبرى لكي أدخل بها الجامعة، وكانت - كما أشرتُ - متواضعة لا يُقصد بها أن تشارك في استعراض الأزياء أو في إظهار الثراء، فلم يكن والدي - يرحمه الله - رجلًا ثريًّا، ولم يكن لديّ من الأموال ما أشتري به فاخر الثياب، ولذلك اشتريت الملابس التي أتاحها لي الدخل المحدود لوالديّ - يرحمهما الله - 
وسرتُ في طريق الجامعة وأنا أنظر بعينين فضوليّتين إلى مهرجان الأزياء الذي كنتُ أراه من حولي، فهذا الغلام الذي يسير عن يميني يرتدي بنطالًا من أحدث الأنواع، وتلك الفتاة عن يساري ترتدي أحدث صيحات الموديلات التي تكشف عن أجزاء من جسدها، وتتبختر مبتسمة إلى مَن حولها، كما لو كانت تبتسم إلى العالم كله وهي في طريقها إلى الجامعة، والغريب أنني لم ألاحظ قَطّ وقتها أن هناك فتاة محجبة أو منقّبة، فلم تكن الدعوات السلفية للحجاب أو النقاب قد ظهرت بعد.

شعور بالفرح
المهم أنني مضيتُ في طريق الجامعة أتمتع بمشاهدة مَن حولي عن اليمين واليسار في نوع من الحبور الذي كان يسري من الجميع إلى الأفراد. ولذلك لم أجد في نفسي إلّا ما يدفعني إلى الابتسام والفرح، ومن ثم لم يكن أمامي سوى الرد على التحيّة بما يماثلها، بل حتى ابتسامات الفتيات التي بدت كأنها تحيّة رددتُ عليها بمثلها، غير هيّاب أو خائف؛ فالجو كلّه كان جوًّا من الفرح بالعودة إلى الجامعة مرة أخرى والاحتفاء ببدء العام الدراسي الجديد. 
ومهما تحدثتُ فإنني لن أستطيع وصف الشعور بالفرح الذي شعرتُ به وأنا أمشي وسط هذه الكوكبة من الشابات والشباب، ممتلئًا بالأمل في المستقبل والحبور الذي ما فتئ يملأنى بفعل هذا الحبور الجَمعي الذي كان يغزوني ويحملني على جناحيه إلى أن وصلت إلى بابَي جامعة القاهرة، حيث وجدت أمامهما نصبًا تذكاريًّا عليه أسماء شهداء الجامعة الذين عرفتُ فيما بعد أنهم شهداؤها من رموز النضال الوطني الذين ماتوا في تظاهرة 21 فبراير 1946، وكانوا يتظاهرون ضد دكتاتورية إسماعيل صدقي باشا المتحالف مع الإنجليز - قوة الاحتلال البريطاني آنذاك - وحاولتُ أن أتوقف أمام النصب التذكاري كي أقرأ الأسماء التي عليه، والتي تفنن خطاط ونحّات في صياغتها كي تكون رمزًا للحرية الجامعية والحرية العامة التي كان يسعى وراءها الطلاب، ولا يزالون في كل العصور وإلى اليوم. 

كلية فاطمة
ها أنا بعد أن بلغتُ السابعة والسبعين أتذكّر ذلك المشهد الذي رأيته في العشرين من عمري تقريبًا، وأتوقف إزاءه إجلالًا، خصوصًا بعد أن أخبرني أحد العابرين من الطلاب الذين أصبحوا زملاء عن قصة هذا النُّصب وقصة الأسماء المكتوبة عليه. هكذا شعرتُ أنني أنتسب للأسماء المكتوبة على النصب، وأن هناك علاقة زمالة تربطني بها، أقصد نوع الزمالة الذي يصل الدم بالدم والروح بالروح. ولم أفارق النصب التذكاري لجامعة القاهرة إلّا بعد أن اكتفيت من الرؤية، وبعد أن شعرتُ أنني جزء من حجارة هذا التمثال، وأنني سأظل دائمًا معلّقًا به كما حدث بالفعل، وكما أكدته السنوات الطويلة التي مرّت بي في جامعة القاهرة.
وأتذكر أنني عبرتُ البوابتين الحديديتين الضخمتين للجامعة، وكانت الوجوه مبتسمة دائمًا، وسألت عن موقع كلية الآداب، فأشار لي أحدهم بأنّها الكلية الأولى على اليمين، فخطوتُ إليها وأخذتُ أتأمل ملامح بنائها المبني على الطراز القوطي، وعرفتُ فيما بعد أن المبنى نفسه يسمى بـ «كلية فاطمة» (لأنه كان واحدًا من المباني التي بنتها الأميرة فاطمة، ابنة الخديوي إسماعيل)، ولهذا كنتُ أضحك عندما تأكد وجودي في الكلية، وأسمع مَن يسخر منها من أبناء الكليات الأخرى بقوله: «يا عم دي كلية فاطمة». 
وأذكر أننا كنا ندخل في الهزل من باب معايرتنا بأننا أبناء «كلية فاطمة»، لكن هذه المسألة ظلت تؤرقنا إلى أن عرفنا مَن هي فاطمة التي أصبح اسمها، بعد أن عرفناه، موضع فخر آخر بكليتنا العزيزة.  لكن كلية فاطمة هذه قد أخرجت أصفى العقول وأذكاها، أعني العقول التي انتقلت بمصر من الجهالة إلى الاستنارة، والتي أخذت على عاتقها بناء مستقبل جديد وواعد للاستنارة في مصر. ولن أكتفي باسم طه حسين في هذا السياق، فهناك أحمد لطفي السيد، وأحمد أمين، وشوقي ضيف، ومنصور فهمي، وعبدالعزيز الأهواني، ويوسف خليف، وسهير القلماوي، وغيرهم كثر.

طه حسين
وأذكر جيدًا أنني عندما دخلتُ من أبواب الكلية سألتُ عن قسم اللغة العربية، فأشاروا إلى موضعه، فذهبتُ إليه جاريًا، وفي الطريق لمحتُ طه حسين خارجًا من إحدى محاضراته، فوقفتُ أتأمل الجمال والإجلال، فقد كان الرجل محاطًا بهالة من إجلال العلم وهالة من كرامته، لكنّني لم أجرؤ على الاقتراب منه أو حتى تحيته، فقد حالت بيني وبينه تلك الهالة التي رأيته في داخلها، فابتعدتُ عنه وقلتُ لنفسي: «لا بأس، ستمرّ الأيام وأحقق حلمي بأن أصبح تلميذًا لهذا الرجل بمعنى من المعاني التي تعطيني الحق في الانتساب إليه، أو تدفعني إلى التحدث عنه أو معه على نحو مباشر». ولذلك دخلتُ إلى ردهات قسم اللغة العربية، وأخذت أسأل عن المحاضرات والدروس والانتظام، لكنني - مع الأسف - فوجئتُ بأن طه حسين لم يعد يدرّس للطلاب المبتدئين مثلي؛ فدروسه كانت مقصورة فقط على طلاب الدراسات العليا، وكان ذلك بسبب ظروفه الصحية.
 وهأنذا أتذكر تلك الأيام التي أصبحتُ فيها أقاربه في العمر، متجاوزًا السبعين من العمر، ويرد على خاطري شريط من أحداث البداية. ويبدو أننا عندما نكبر في العمر ونصل إلى أعتى مراحله، نحرص على استرجاع ما مضى وما أوغل في القِدَم، ونحاول تمثّله، خصوصًا المفرح منه. وليس أشد فرحًا عندما أجلس الآن وأنا في مغرب العمر أسترجع ذكرياتي في كلية الآداب التي تبرعت الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل ببنائها، مع ما تبرعت به من أموال لبناء الجامعة، وقد كتبتُ عنها وعن ذلك ضمن كتابي «جامعة دينها العلم»، الذي صدرت طبعته الأولى عام 2008 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفي ذلك الكتاب تحدثت عن تاريخ الجامعة المصرية، منذ أن كانت جامعة أهلية عام 1908 إلى أن تحولت إلى جامعة حكومية عام 1925. 

مفارقات طريفة
ومن المفارقات الطريفة أنه عند افتتاح الجامعة لم تكن هناك أموال كافية، فتبرّعت الأميرة فاطمة إسماعيل لاستكمال بناء الجامعة، وكان ذلك في عهد أخيها الخديوي عباس حلمي الثاني، وقد كان حاكم مصر آنذاك وظل كذلك إلى أن طرده الإنجليز ونفوه بعيدًا عن مصر، ليأتوا بمَن هو أكثر طاعة وولاء لهم، وكان أن أتوا بالسلطان حسين كامل، واستمرت الجامعة في مسيرتها.
 وبعد نشوب الحرب العالمية الأولى، استولى الإنجليز على مبناها، وجعلوه مشفىً لجنودهم، وظل الأمر كذلك حتى انتهاء الحرب، فبدأ مشروع الجامعة يعود من جديد. ويرتقي سلّم الجامعة أحمد لطفي السيد بوصفه مديرها الذي تبنَّى أحلامها بحق، ودافع عنها في كل المواقف، وكان دائمًا مع حرية البحث.  ولا أنسى من بين ما قرأت أنه عندما جاءت إحدى الوزارات الرجعية في عهد حكومة إسماعيل باشا أن أصبح وزير المعارف العمومية رجل رجعيّ يكره التجديد، أعنى حلمي عيسى باشا، الذي أغلق معهد التمثيل، وأصدر قرارًا بفصل طه حسين من الجامعة عام 1932، ليبعده عن كلية الآداب، وكان الفصل على هذا النحو بمنزلة عدم اعتراف من الحكومة باستقلال الجامعة، وهو الأمر الذي دفع أحمد لطفي السيد، الرئيس الشجاع للجامعة، إلى الاستقالة من منصبه؛ احتجاجًا على القرار المتعسف لوزير المعارف العمومية، ولم يعُد الرجل إلّا بعد أن عاد طه حسين إلى الجامعة.

أحداث مؤثرة
كل هذه الذكريات تنثال على ذهني عفو الخاطر الآن، وأعتبرها جزءًا من كنز الذكريات الخاصة بجامعة القاهرة، وتذكر الأحداث المؤثرة فيها، والتي تركت فيّ آثارًا لا تُنسى، وإن كانت استقالة أحمد لطفي السيد هي الحدث الأكبر الذي انطبع في ذهني بعد أن قرأتُ الكثير والكثير من تاريخ الجامعة، وألّفتُ كتابًا عنها بعنوان «جامعة دينها العلم»، مستخدمًا الجملة التي قالها سعد زغلول تعليقًا على إحدى الخطب التي تمسّحت بالدين. 
كان سعد يرى ضرورة فصل الجامعة عن الدين والدولة معًا، ولذلك قال هذه الجملة الشهيرة «جامعة دينها العلم»، لكن - مع الأسف - لم يكن دين العلم سائدًا في الجامعة في كل الأحوال والأزمنة؛ ففي لحظات عديدة من التاريخ كان هذا الشعار يختفي ويتحول إلى شعارات أخرى، وذلك ابتداء من عهد الرئيس جمال عبدالناصر الذي لولاه ما أكملتُ نفقات تعليمي، فأنا أذكر المعاناة المالية التي عاناها والداي لجمع نفقات الترم الأول، وقد استقر في خاطري أن أتفوق حتى أوفّر عليهما نفقات الترم الثاني، ولكن ما إن وصلنا إلى الترم الثاني حتى قرر عبدالناصر مجانية التعليم المصري، وكان بذلك يكمل حلم طه حسين الذي وصل بمجانية التعليم إلى الجامعة أو إلى العام السابق على دخول الجامعة.
ومنذ أن أصبحت الجامعة بالمجان حتى دخلت طورًا آخر ودخلتُ أنا معها في طور مختلف، حريصًا على تحقيق أحلام طه حسين وسعد زغلول على السواء. وهكذا صرت الطالب الأول على دفعته دائمًا، والطالب الذي لا يحصل على المجانية فقط، وإنّما يحصل على مكافأة مالية تعينه على الحياة والدرس، وهذا ما حدث لي بفضل متابعتي لأفكار سعد زغلول وطه حسين على السواء ■