الترجمات العربية وأثرها في نشأة الحضارة الأوربية

الترجمات العربية وأثرها  في نشأة الحضارة الأوربية

سيطر العرب على إسبانيا، مدخل أوربا الجنوبي وأحد أكبر أقطار أوربا في العصور الوسطى عام (710 - 711 م)، حيث أصبحت من أمصار الخلافة العربية في دمشق، وأطلقوا عليها اسم الأندلس، وثبّتوا أقدامهم فيها حوالي ثمانية قرون، وكانت قرطبة وطليطلة من أهم مراكزها العلمية والثقافية. ولعل قراءة التراث الضخم الذي أفرزته تلك الفترة الممتدة ودراسته وفهمه، تشكّل دعوة ملحّة لتحفيز وإحياء الروح العلمية الحرة من جديد في المجتمعات العربية والإسلامية، كي تتغلب على أمراض التخلّف القاتلة التي تفتك بها منذ قرون، وتمنعها من المشاركة في صنع الحضارة المعاصرة وثوراتها العلمية.

كانت طليطلة مدينة مهمة منذ كانت عاصمة القوط الغربيين، (القرن الأول ق. م)، وبلغت مكانة كبرى زمن ملوك الطوائف، لا سيما في عهد بني ذي النون، قبل أن يستولي عليها ألفونسو السادس، الــذي حـافـظ عـلـى مـركـزها الـمـهم للـدراسات الإسلامية لمدة طويلة، فامتازت بمكتباتها العظيمة، خصوصًا بعد انتقال جزء من مكتبة الحكم الثاني الشهيرة في قرطبة إليها، إضافة إلى آلاف المجلدات التي نُقلت إليها من الشرق، كما كانت المركز الرئيسي لعمليات الترجمة ونقل الكنوز العلمية العربية إلى الغرب، وكان مطران طليطلة ريموندو (1126 - 1152 م) وخلفاؤه من المطارنة من كبار مشجعي عمليات ترجمة كتب العلوم العربية المنقولة عن العلوم اليونانية، حيث أصبحت مقصدًا للعلماء والباحثين من أنحاء أوربا، كان بينهم ميخائيل سكوت (ت. 1236 م)، أحد ناقلي فلسفة ابن رشد وبعض كتب ابن سينا إلى اللاتينية، ثم روبرت أوف شستر، الذي نقل كتاب الجبر للخوارزمي لأول مرة عام 1145 م، وأكمل مع هرمان الدلماطي أول ترجمة لاتينية للقرآن الكريم عام 1143 م.
كان على رأس مترجمي العلوم العربية في طليطلة الراهب دومنجو غونصالفو (ت. 1180م)، أشهر رجال الترجمة في العصر الوسيط من العربية إلى اللاتينية عن طريق الإسبانية العامية. 

مؤلفات في الفلك والنجوم
بهذه الطريقة ترجم بعض مؤلفات الفارابي وابن سينا والغزالي، كما أن يوحنا الإسباني ترجم من العربية إلى اللاتينية مؤلفات عديدة في الفلك والنجوم، من بينها بعض كتب الخوارزمي التي بفضلها انتقل الحساب الهندي والنظام العشري إلى أوربا، فعرفت هذه العمليات الحسابية باسم Alguarismo، كما انتقل إليها الصفر، وهو ترجمة لكلمة سنيا Sunya الهندية التي تعني «خال»، ونقلت إلى اللاتينية بكلمتي Cifra أو Cifrum.
 وكان أدلارد أوف باث أحد كبار العلماء الإنجليز الذين زاروا صقلية واستفادوا من حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، فترجم إلى اللاتينية عام 1126 م التقاويم الفلكية التي وضعها أبو القاسم مسلمة المجريطي (ت. 1007 م)، المبنية على تقاويم الخوارزمي، ونقل أيضًا عددًا كبيرًا من الرسائل الرياضية والفلكية، فكان بذلك من طلائع المستعربين الإنجليز. 
أما أكثر علماء طليطلة أثرًا في الترجمة والنقل، فهو المترجم الإيطالي جيراردو الكريموني (ت. 1187 م)، الذي رحل إلى طليطلة لدراسة العلوم الفلكية، لا سيما كتب بطليموس في هذا الحقل، وعلى رأسها كتاب المجسطي، الذي ترجمه إلى اللاتينية عام 1175 م، وحظيت هذه الترجمة بشهرة واسعة، كما ترجم أكثر من 70 كتابًا عربيًا إلى اللاتينية في الفلك والجبر والحساب والطب، من بينها شرح الفارابي على أرسطو، وأصول الهندسة لإقليدس، ورسائل متفرقة لأرسطو وجالينوس وأبقراط، وكتاب الخوارزمي «حساب الجبر والمقابلة»، وكتاب «بنو موسى بن شاكر» في مساحة السطوح المستوية والكروية.

كليلة ودمنة
من بين كبار المترجمين أيضًا ماركوس، شماس طليطلة (خادم الكنيسة)، الذي ترجم من العربية بعض مؤلفات جالينوس الطبية، والقرآن الكريم وبعض الكتب في علم التوحيد.
 كما أن هرمانوس المانوس ترجم شرح ابن رشد على الأخلاق لأرسطو عام 1240 م. وقد لعب اليهود دورًا مهمًا في حركة الترجمة، سواء منهم مَن أسلم أو من لم يُسلم، من أبرزهم إبراهيم بن عزرا الطليطلي (ت. 1167 م)، الذي ترجم شرح البيروني على زيج الخوارزمي، ويوحنا الأشبيلي الذي ترجم كتبًا في الحساب والفلك والتنجيم والطب والفلسفة للفرغاني والكندي وأبي معشر والغزالي وابن جبرول، ويعتبر كتاب «علم الهيئة» للفرغاني من أهم هذه الكتب. 
وفي عهد الملك ألفونسو العاشر الحكيم ترجمت مؤلفات كثيرة برعايته من العربية إلى الرومانسية، لغة عامة الشعب، مثل كتاب كليلة ودمنة، الذي تأثّر به لافونتين في حكاياته Fables، و«مختار الحكم» للمبشر بن قاتك، وعشرات من كتب الفلك والطب والفلسفة التي كان لها أثر واضح على الفكر الأوربي، لا سيما الفلسفي والأدبي، وعلى العلاقة الوثيقة بين العلوم الإسلامية ودانتي، كما كشفها المستشرق أسين بلاثيوس. وبنهاية القرن الثالث عشر كان العلم والفلسفة العربيان قد انتشرا في كل أوربا تقريبًا عن طريق طليطلة.

 صقلية
سيطر العرب على هذه الجزيرة الإيطالية، غرب المتوسط، في القرن التاسع، ودامت هذه السيطرة 263 عامًا، إلى أن استولى عليها النورمانديون عام 1091 م. وقد عرفت ازدهارًا عمرانيًا وثقافيًا عظيمًا زمن الحكم العربي. 
وعندما افتتحها النورمانديون حافظوا على ذلك الازدهار، لا سيما في عهد روجر الأول المتوفى عام 1101 م، والذي كان يحب العرب وحضارتهم وعلومهم، فاعتمد عليهم في بناء جيشه الوطني وإدارة شؤون الدولة، وولّاهم المناصب العليا فيها، وشمل العلوم العربية برعايته، وقرّب منه بعض الفلاسفة والعلماء والأطباء والمنجمين العرب، ومنهم الإدريسي، أعظم علماء الجغرافيا والخرائط في العصور الوسطى، ومنح المسلمين وغيرهم حرية العبادة، وكان قصره في العاصمة باليرمو شرقيًا أكثر منه أوربيًا، وكذلك لباسه الذي كان متأثرًا باللباس العربي. 
وقد بقيت صقلية طوال أكثر من قرن بعد وفاته محافظة على هذا التعاون الوثيق مع العرب والمسلمين في الشرق والغرب، لا سيما في عهد ابنه روجر الثاني، ثم فردريك الثاني الذي كان واسع الثقافة وملمًّا بالعربية، وبسط حكمه على صقلية وألمانيا ولقب بامبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة وملك بيت المقدس، وقد أصبح أعظم ملك في العالم المسيحي آنذاك، وجرّد حملة صليبية على العالم الإسلامي عام 1220 م، وعاد منها أكثر تأثرًا من قبل بالفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية وضرورة التعاون مع المسلمين، كما يقول المؤرخ فيليب حِتّى في كتابه «تاريخ العرب» (ص 695 - 696)، وفي الميدان الثقافي نشطت في عهده حركة الترجمة، فكلّف العالم ميخائيل سكوت بترجمة موجز لمؤلفات أرسطو من العربية إلى اللاتينية في علم الحياة وعلم الحيوان مع شرح لابن سينا.

جامعة نابولي
لعل أعظم ما قام به فردريك الثاني في هذا المجال هو تأسيس جامعة نابولي عام 1224 م، وهي أول جامعة خاصة في أوربا، وقد زودها بمجموعة كبيرة من المخطوطات العربية، واستعملت مصنفات أرسطو وابن رشد التي أمر بترجمتها من العربية ككتب مدرسية أرسلت منها نسخ إلى جامعات فرنسا وبولونيا، وكان توماس الأكويني من طلاب هذه الجامعة، وفيها اطّلع على شروح ابن رشد وكتب أرسطو التي أثرت فيه تأثيرًا شديدًا. 
ومن الكتب التي تُرجمت أيضًا في صقلية، وانتقلت منها إلى أوربا، كتب المجسطي التي ترجمت من اليونانية إلى العربية عام 1160 م بمؤازرة عالم صقلي يتقن اليونانية، يُدعى يوجين البلارمي الذي كان يجيد العربية واللاتينية، فترجم كتاب العين المنسوب إلى بطليموس من العربية إلى اللاتينية، لأنّ نصه اليوناني مفقود، كما ساهم في ترجمة كتاب كليلة ودمنة من العربية إلى اليونانية، وترجم الطبيب اليهودي فرح أبو سالم كتاب الحاوي لمحمد بن زكريا الرازي إلى اللاتينية عام 1279 م بعنوان Liber Dictus Elhavi  وهو أكبر موسوعة طبية عربية طبعت وظلّت حتى القرن السابع عشر من أهم المراجع الطبية، وكذلك كتابه المنصوري المترجم إلى اللاتينية عام 1481 م. 
ويأتي بعد «الحاوي» في التأثير كتاب «القانون في الطب» لابن سينا، وكتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» لأبي قاسم الزهراوي، رائد علم الجراحة الذي طبع منه عشرات الطبعات باللاتينية، وفي هذا الميدان أيضًا نذكر ابن النفيس وكتابه «شرح تشريح القانون»، الذي وصف فيه الدوران الرئوي قبل عصر النهضة بقرون.
مراجع للدراسات الطبية
 بقيت هذه الكتب مراجع للدراسات الطبية لأكثر من ستة قرون في أشهر جامعات أوربا الطبية، وفي طليعتها «مونبيلييه، ونابولي، وبولونيا، وبادوا، وأورليان، وأوكسفورد، وكمبريدج»، وكلها كانت تستخدم كتب الطب العربية المترجمة إلى اللاتينية أساسًا لتدريس الطب.
وإذا انتقلنا إلى بقية الفروع العلمية نجد أن العرب لعبوا دورًا أساسيًا في كل هذه الفروع كالرياضيات والطبيعة والكيمياء والفلك والتاريخ الطبيعي والفلاحة والزراعة. ففي الرياضيات أدى إدخال الصفر والنظام العشري في الأعداد إلى ثورة في كل الدراسات العلمية.
أما في علم الفلك والأرصاد الفلكية، فكان التأثير من خلال كتب الخوارزمي والفرغاني والبتاني وأبو الوفاء البوزجاني (940-998 م)، ونصير الدين الطوسي (ت. 1274 م). 
وقد أذهل الفلكيون العرب الباحثين بتنبؤهم بكسوف الشمس وخسوف القمر بدقّة متناهية، بعد تعديل شامل لآراء بطليموس الفلكية. وأثبتت الدراسات المعاصرة في علم الفلك التي قام بها أوتو نويغبور أن هيئة ابن الشاطر الفلكية (ت 1375 م) مطابقة تمامًا لهيئة كوبرنيك (ت 1543 م). وكان إدوارد كندي، أحد المؤرخين القلائل في علم الفلك الإسلامي والرياضيات، هو الذي لفت نظر نويغبور إلى هذه الحقيقة. وقد نشر فكتور روبرتس، تلميذ كندي، مقالًا مهمًا في مجلة إيزيس (ج 48، 1957 م) بعنوان «نظرية ابن الشاطر لحركات الشمس والقمر... هيئة كوبرنيك سابقة لكوبرنيك» يؤكد فيه صحة نظرية نويغبور وكندي.

ابن الهيثم
لعب العلماء العرب أيضًا دورًا مهمًا في تكوين علمَي الكيمياء والفيزياء بالفكر الأوربي، ومن أبرزهم أبو علي الحسن بن الهيثم (965 - 1039م) وكتابه «المناظر» في البصريات، الذي تُرجم إلى اللاتينية عام 1572 م بعنوان «Optica Tresaurus Alhazini Arabis».
 وقد قام العلماء العرب باكتشافات هائلة في الكيمياء عرفها الأوربيون من خلال ترجمتها إلى اللاتينية، ومنها اكتشاف الماء الملكي، وحمض الكبريتيك، وحمض الأزوتيك، ونترات الفضة وغيرها الكثير، وأشهر الكيميائيين الذي عرفهم الأوربيون هو جابر بن حيان، المتوفى 776 م.
أما في الميادين الروحية فنجدها في التصوف وتأثير ابن عباد الرندي في الصوفي الإسباني يوحنا الصليبي، وفي دفاع باسكال عن الدين بتأثير من الغزالي، وفي تصورات دانتي الدينية وكتابه الكوميديا الإلهية بتأثير من ابن عربي.

في ميدان الفلسفة
كان للعرب دور مهم في تكوين الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط، من خلال ترجمات كتب اليونان الفلسفية، وفي مقدمها كتب أرسطو، ثم من خلال كتب الفلاسفة العرب أنفسهم، بعد ترجمة كتبهم إلى اللاتينية، وفي طليعتها كتب ابن رشد والفارابي والغزالي وغيرهم.
وفي ميدان المعارف العملية، كان للعرب دور كبير في تكوين هذا الميدان بأوربا، لا سيما الصناعة، كصناعة الصابون، والسكر، والورق، والعطور، وأنواع الحبر والألوان والأصباغ، والأحجار الكريمة الاصطناعية، واستخراج الذهب والتعطير.
وفي ميدان الزراعة كان لإنجازات العرب بإسبانيا في ميدان الفلاحة والنباتات الطبية وكتب ابن البيطار وأبو جعفر الغافقي أثرها الكبير في تقدّم الزراعة بأوربا، كما يقول عبدالرحمن بدوي في كتابه «دور العرب في تكوين الفكر الأوربي».
كما كان أثر العرب ظاهرًا في صناعة السجاد والأقمشة الفاخرة والحريرية التي انتشرت انتشارًا هائلًا في إيطاليا، وانتقلت منها إلى فرنسا، وفي صحائف النحاس، والأقمشة المخططة والخزف، وكذلك لعبة الشطرنج والبولو التي كانت في أصل لعبة كرة القدم، وألعاب الصيد.

الموسيقى والبناء
كان للعرب دورهم في هذين الميدانين أيضًا، فغناء وموسيقى الفلامنكو مثلًا والزجل لهما علاقة وثيقة جدًا بالموسيقى والغناء العربيين وتأثيرهما في نشأة الموسيقى الأوربية، حسب المستشرق الإسباني جوليان ريبيرا، كما انتقل من العرب إلى أوربا من خلال إسبانيا استعمال بعض الآلات الموسيقية العربية كالربابة والعود والناي والقيثارة، وغيرها.
أما في مجال البناء، فقد ظهر الأثر العربي أولًا في إسبانيا، ومنها انتقل إلى سائر البلاد الأوربية، حيث ظهر في تشييد القصور والكنائس والأديرة والقناطر والزخرفة المعمارية، وعلى رأسها الزخرفة الكوفية، أي المكتوبة بالخط الكوفي، الذي يعتبره كبار مؤرخي الفن أجمل خط عرفه الإنسان، والذي كان له تأثير عميق على الفنانين الأوربيين الذين زيّنوا به أبواب وواجهات كثير من الكنائس في العصور الوسطى، وكذلك في زخرفة المفروشات.
أما أثر المصادر الإسلامية الضخم في المجال الأدبي، فلا شك أنه في «الكوميديا الإلهية» لدانتي، الذي أشار إليه المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس في خطاب ألقاه عام 1919 م بالأكاديمية الملكية الإسبانية، حين قال إن دانتي (1265 - 1321 م) في كتابه الكوميديا الإلهية قد تأثر بالمصادر الإسلامية تأثرًا عميقًا، لا سيما بما جاء فيها عن المعراج النبوي، وما ورد في رسالة الغفران للمعري وفي بعض كتب محيي الدين بن عربي.
وأخيرًا، لا بدّ من ذكر التأثير الضخم لابن خلدون في الفكر الأوربي الحديث، خصوصًا في ميدان علم الاجتماع ومناهج دراسة التاريخ والنظريات الاقتصادية التي تأثّر بها كارل ماركس وغيره. وقد اعتبره المؤرخ البريطاني المشهور أرنولد توينبي «أحد أعظم رجال الفكر في العالم». كانت هذه نظرة إجمالية لأعظم ما تركه العرب والمسلمون من تراثهم الخصيب للحضارة الإنسانية، فالعلم «قوة ثورية ذات قدرة هائلة على تشكيل حياة الإنسان وتقرير مستقبله وموقعه في الكون» كما يقول برتراند راسل.
والعرب والمسلمون المعاصرون لا يقلون إبداعًا وعبقرية علمية عن بقية الشعوب المتقدمة حضاريًا إذا ما أتيحت لهم المناخات والبيئات الحاضنة لتتفتح فيها إبداعاتهم العلمية، وفي طليعتها حرية البحث والتفكير والعيش الكريم. وأفضل الأمثلة على ذلك مشاركة آلاف العلماء العرب والمسلمين المنتشرين في شتى مراكز البحوث العلمية والجامعات الغربية في صنع أقدار البشر بكل وجوهها وصوغ مستقبلها ■