عوامل التخلّف النّسبي العربي
كثيرًا ما يتكرر سؤال التخلُّف العربي مقارنة بالغرب وسبل ردم الهوّة بيننا وبينهم. لكن تم تقديم أسباب متعددة لهذا التطور حين مقارنة العالَم العربي بالغرب الأوربي والأميركي الذي حاز قصب السبق في التاريخ الحديث والمعاصر. ولا بدّ من التذكير بأن الاستثناء الأساس ليس بروز هوّة بين العرب والغرب، بل هو تقدُّم أوربا الحديثة مقارنة بكل مناطق العالم الأخرى في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية. لم نكن وحدنا في المأزق الذي شاركتنا فيه دول وأمم كثيرة أخرى على امتداد العالم، إلّا أن الجديد في هذه المسألة هو تقدُّم دول وشعوب كانت أكثر تخلّفًا منّا أو مثلنا، لكنها استطاعت أن تنزع عن نفسها الرداء القديم، وتقفز قفزات عريضة في سبل التقدّم والحضارة الحديثة، مثل كثير من دول الشرق الأقصى كاليابان وكوريا الجنوبية، وأخيرًا الصين.
مع ذلك، فإن غالبية مجموعة الدول المذكورة أخيرًا تقدمت في المجال الاقتصادي والتعليمي والتكنولوجي بالتعاون مع الغرب وليس على الرغم منه، لكنها لم تستطع، باستثناء الصين، تحقيق هدف «الأمن القومي» المستقل، بل أصبحت كواكب سيارة تابعة تسبح في الفلك السياسي والعسكري والاستراتيجي للغرب. ويَعتبر العرب - في رأينا - أن «الأمن القومي»، المتمثل خاصة في تحقيق تفوق أو مجرد توازن مع الكيان الغريب الذي زُرع في القلب منهم ليمنع تطورهم، أي إسرائيل، هو العامل الأساس في التقدم الحضاري.
لذلك فإنهم قليلًا ما يشيرون إلى تقدمهم النسبي مقارنة بما كانوا عليه، قبل قرن أو أكثر، في مجالات أخرى كالصحة والمواصلات والتعليم مثلًا.
اتجاهات الفكر العربي
اتخذ الفكر السياسي العربي منحيين رئيسيين في تفسير هذا التغيير التاريخي؛ المنحى الأول، اعتبر أن هذا التأخر كان تأخرًا مطلقًا، بمعنى أن العرب والمسلمين كانوا سبّاقين في الحضارة التي تضم العلوم والفنون المختلفة منذ قفزتهم المدهشة من الجزيرة العربية في القرن السابع وحتى منتصف المرحلة القروسطية، حين تراجعوا عمّا كانوا قد وصلوا إليه في عصرهم الذهبي ذاك، وأخذت أوربا تصعد رويدًا رويدًا على سلّم الحضارة، في وقت كان العرب والمسلمون ينزلون عليه درجة درجة؛ أما المنحى الثاني الأصح، فرأى أن العرب لم يتراجعوا عمّا كانوا قد وصلوا إليه، لكنهم وقفوا عنده فتجمد نشاطهم الحضاري وأصيبوا بالمراوحة حين أخذت أوربا بزمام المبادرة، فكان التراجع العربي - الإسلامي نسبيًا غير مطلق مقارنة بالغرب الأوربي.
ومع أن بعض المؤرخين، كالأميركي بيتر غران ومدرسته، تعتبر أن حراكًا اجتماعيًا واقتصاديًا داخليًا كان فاعلًا في مصر وربما في غيرها من مجتمعات المشرق، إلا أن ذلك لم يكن - كما نرى - كافيًا للولوج إلى العصر الصناعي العالمي الحديث الذي افتتحته أوربا في بداية القرن التاسع عشر، إن لم يكن قبل ذلك. وقد لحق اليابانيون مثلًا بقطار التطور الرأسمالي في القرن التاسع عشر، بينما لم يستطع العرب أن يفعلوا ذلك.
ومهما يكن من أمر، فقد تنوعت تفسيرات وصولنا إلى هذه الهوة بيننا وبين أوربا في العصر الحديث، فهي اتخذت بُعدًا عنصريا ودينيًا عند بعض المستشرقين، مثل هنري رينان الذي اتهم عرق العرب السامي ودينهم الإسلامي بأنهما السبب وراء البُعد عن الحداثة. في المقابل، كان رد البعض أنه لا بدّ من العودة إلى النهضة الروحية الإسلامية التي رافقت ظهور الإسلام وتوسّعه في مشارق الأرض ومغاربها.
أساس الحضارات
أما جمال الدين الأفغاني فقد ردّ أن الأديان جميعًا تؤمن بالماورائيات، وأن العلم والعلوم هما في أساس كل الحضارات، ومنها الحضارة العربية - الإسلامية، وكذلك الحضارة الغربية. وقد تعاركت أوربا مع العلم زمنًا حتى استطاع العلم التجريبي والتطبيقي أن يهزم تفسير رجال الكهنوت للكتاب المقدس، فتم الفصل بين الدين والعلم، ثم بين الدين والسياسة، ثم بين الدين والعلوم الاجتماعية في الغرب، ثم عند النخب غير الغربية وإنما المتأثرة بالغرب في بقية العالم.
أما المثقفون العرب فقد تفرّقوا شيعًا وأحزابًا، لكنهم اختلفوا في تحديد نقاط البداية وترتيب الأولويات، إلّا أنهم في معظمهم، خاصة الذين اتبعوا المناهج الغربية، قد قلّدوا فكر غرب أوربا تقليدًا جزئيًا أو كاملًا، وترجموا عنها مشاكلها وحلولها، فمنهم من شدد على الإصلاح الديني عبر حركة جمعت بين مفاهيم الحداثة أو «الغربنة» وتجديد التراث الديني تحت مسمّى «السلفية التحديثية»، التي مثّلها الشيخ محمد عبده، ومنهم مَن أعطى الأولوية للعلم والعلوم التطبيقية، ومنهم من رأى الحل في «التغريب الكامل»، دون إطار ثقافي عربي أو ديني إسلامي، ومنهم مَن دعا إلى العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وكذا عن المجتمع، ومنهم من أعلى شأن الديمقراطية وضرورة إقامة مجالس تمثيلية، ومنهم مَن دعا إلى البدء بالتربية والتعليم، ومنهم من شدَد على أن البداية تكون بتغيير وضع المرأة في المجتمع، ومنهم من اعتبر أن القومية هي الحل أو ربما الليبرالية أو حتى الاشتراكية. في مقابل كل ذلك، وكردّة فعل على المبالغة في «التغريب الكامل» وإلغاء الذاكرة الثقافية والدينية عند أحد التيارات الفكرية العربية، ظهر تيار معاكس نبذ النهج الذي سعى إلى التوفيق بين «الحداثة والسلفية» معًا وتبنى «السلفية» الخالصة فقط، وأسقطوا «الحداثة» من فكرهم. وقد بالغ هذا التيار في تأكيد التمسك بالتراث الديني، شكليًا أكثر منه عمليًا، وضرورة العودة الثابتة إليه، تمامًا كما بالغ تيار «التغريب الكامل» في نبذ التراث القومي و/أو الديني.
«الفكروية» أو «الثقافوية» بلا أجوبة
انتسبت كل مشاريع الحلول هذه إلى الجانب الفكري أو «الفكروي» أو «الثقافوي»، لأنها كانت تنظر إلى «سرّ» التقدّم الغربي في المجال الثقافي أكثر من أي شيء آخر، وغاب عنها أن العوامل المادية تلعب دورًا سابقًا أو متزامنًا مع العوامل الفكرية، فلا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية سياسية مثلًا دون أن تصاحبها مساواة اجتماعية، خاصة على مستوى الطبقة الوسطى. ولست أقصد هنا تحليلًا بدائيًا أو تبسيطيًا يربط البناء الفوقي الفكري بالبناء التحتي الاجتماعي والاقتصادي بفجاجة ومباشرة، كما كان يفعل بعض المثقفين اليساريين «الاقتصاديين»، لكن لا يمكن تجاهل العوامل المادية؛ سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية وحتى جغرافية في قياس تقدّم الشعوب والبلدان.
ولقد نشر المؤرخ الاقتصادي الراحل المرموق شارل عيساوي دراستين كل منهما ذات مغزى، وقد مرَ عليهما عدة عقود، لكنهما لم تأخذا حقهما من الرواج والتحليل في الدوائر الثقافية العربية بعنوان: «لماذا اليابان ولماذا ليس مصر؟» و«النموذج الياباني والشرق الأوسط»، يقارن فيهما الدول العربية عمومًا ودولة عربية محددة بشكل خاص، هي مصر، مع دولة غير عربية هي اليابان، يتوقف فيهما عند أسباب تباعد شقة التطور بينهما، مع أنهما انطلقتا - كما يكرر البعض - من النقطة الاقتصادية نفسها تقريبًا في القرن التاسع عشر.
الواقع أن هذا الفهم ليس صحيحًا - حسب عيساوي - فلم تكن مصر واليابان على مستوى واحد من التطور الاقتصادي والثقافي في بداية القرن التاسع عشر. ففي كل المجالات تقريبًا، ما عدا المجال التقاني، كانت اليابان قد شهدت تحديثًا ضخمًا قبل أن تنفتح على العالم على يد الولايات المتحدة وغرب أوربا في خمسينيات القرن التاسع عشر وستينياته. وهذا يفسر- فوق كل شيء - أداءها الفريد في نوعه.
أعلى درجة من التجانس
فكما قال برتراند راسل في عبارة شديدة الدلالة: «كانت اليابان دولة متخلفة اقتصاديًا، لكن ليست متخلفة ثقافيًا». ومع ذلك، لقد كانت اليابان شديدة التجانس الإثني واللغوي والديني إلى أعلى درجة في العالم. وعندما حاول المبشّرون المسيحيون في القرن السادس عشر نشر دين آخر هناك، مهددين هذا التجانس، كان رد فعل سلالة التاكوجاوا الحاكمة سريعًا وحاسمًا، إذ أنهت وجود المبشّرين بعنف لافت، وأعادت اليابان إلى عزلتها لمدة قرنين ونصف القرن من الزمن، حيث لم تهدر كثيرًا من الأموال على التسليح العسكري. إضافة إلى ذلك، فإن اليابان تملك ما وصفه ابن خلدون بالعصبية، أي التماسك الاجتماعي.
على العكس من ذلك، رحبت الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر بتوسّع نفوذ الإرساليات الكاثوليكية في الشرق، وكذلك نفوذ فرنسا السياسي، ومن ثم الإرساليات الغربية الأخرى.
أما مستوى التعليم الياباني فقد كان عاليًا جدًا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، حتى بالمقارنة مع غرب أوربا. فمع الإحياء الذي بدأ في عصر ميجي وبداية التحديث السريع، اندفع التعليم إلى الأمام. ومع مطلع عام 1907، كان ما يزيد على 97 في المئة من عدد الأطفال في سن التلمذة يذهبون إلى المدارس الابتدائية، وتم استئصال الأمية. ولم يكن النبلاء - على عكس بلدان أخرى كثيرة - فقط غير معارضين لانتشار التعليم بين العامة، وإنما كانوا مشجعين له أيضًا. وكانت النتيجة أن اتسعت صناعة النشر، فتم نشر حوالي ثلاثة آلاف كتاب سنويًا في ثمانينيات القرن الثامن عشر، بل إنه لم يكن من غير العادي أن يُطبع من الكتاب الواحد ما يزيد على عشرة آلاف نسخة، وكانت الكتب تُباع بأثمان زهيدة، ونشطت المكتبات المجانية ومكتبات الإعارة التجارية. وتأتي مقارنة تلك الأرقام بتلك الخاصة بغرب أوربا لمصلحة اليابان.
وعلينا ألّا ننسى أنّ اليابان هزمت روسيا عام 1905 في الباسيفيكي، وبرزت كقوة عالمية في شرق آسيا منذ ذلك التاريخ حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أنهت الولايات المتحدة بقنابلها الذرّية على هيروشيما وناجازاكي دور اليابان السياسي والعسكري في الشرق الأقصى.
ونشير هنا إلى اعتماد التعليم في اليابان على مدارس الدولة، غير أن الجامعات الخاصة مثّلت نصف عدد الجامعات، كما تجب الإشارة أيضًا إلى أن التركيز الشديد كان على الموضوعات التقنية والعملية، بينما ركز التعليم في المقابل عند العرب على القانون والدراسات الإنسانية، وذلك باستثناء فترة محمد علي.
الموانع الاقتصادية للدخول في الرأسمالية
وبينما لحق اليابانيون بقطار التطور الرأسمالي في القرن التاسع عشر، لم يستطع العرب، بسبب غياب الطبقة البرجوازية أو ضعفها، فقد استوردت مصر مثلًا طبقتها الوسطى بأعداد كبيرة من خارجها في شكل أوربيين ويونانيين وشوامّ ويهود وأرمن وإيطاليين. ثم إنَّ البرجوازية المحلية لم تحصل على السلطة التي أصبحت بيد الطبقة العسكرية فيما بعد.
ويرصد عيساوي عدة عوامل متشابكة داخلية وخارجية، لكنّه يعطي العامل الخارجي أهمية استثنائية، إذ يشير إلى أن أحد العوامل الكبرى التي تميزت بها اليابان، كان «الموقع الذي له الفضل في الحدّ من خطر التدخل الخارجي... ففي الوقت الذي تقع مصر في قلب العالم القديم على الأقل - وهو الأمر الذي كان ذا تأثير كبير- تقع اليابان في طرف العالم. ويعني ذلك أن الامبراطوريات العدوانية في القرن التاسع عشر- بريطانيا وفرنسا وروسيا - ما كانت لتصل إلى اليابان إلا في نهاية خط طويل للغاية من شبكات الطرق التي كان تأثير تلك الامبراطوريات يضعف خلالها على نحو كبير. والسؤال هو: إذا كان لليابان أن تقع - مثل مصر- في نقطة الاتصال بين ثلاث قارات، هل كانت قادرة على الاحتفاظ باستقلالها وتشكيل مصيرها؟
المسؤول الحقيقي
إن هذا التفسير يتناغم مع ما كتبه الأمير شكيب أرسلان وذكرناه سابقًا (راجع مقالنا عنه في العدد 747 من «العربي»، فبراير 2021)، بعنوان «نهضة العرب العلمية» في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1937 يخرج عن تفسيراته المثالية، الدينية والثقافوية، وينزع نحو تفسير جغرافي/ عسكري، إذ يقول في مقال مستقل عن كتابه المعروف: «لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟» فهو في النص الذي نشره وقتها قال:
«... إن كان الشرق الأدنى قد تأخّر عن الأقصى في درجة الرقيّ العصري، فلم يكن ذلك كما يتوهّم بعضهم من جمود الأمم الشرقية العربية وتفوّق اليابانيين عليهم في حب العلم ونشدان وسائل القوة، وإنّما كان الموقع الجغرافي للبلاد العربية قد عرّضها من هجوم الأجانب وغاراتهم المتوالية لما لم يتعرّض له اليابانيون بسبب تقاصي ديارهم وبُعد مزارهم، حيث خلا لهم الجو، وتمكّنوا من أن يتعلموا ويتهذبوا آمنين على حوزتهم، وهذا فرق طالما غفل عنه الناس ولم يتفطنوا لخطورته، فحملوا بسبب غفلتهم عنه على الشريعة الإسلامية، وجعلوها ظلمًا وعدوانًا هي المسؤولة عن هذا التأخر، والمسؤول الحقيقي في الواقع هو الاعتداء الأجنبي المتواصل الذي يتيسر في الشرق الأدنى ما لا يتيسر في الشرق الأقصى».
وقال أحد المقربين من محمد علي باشا في بدايات القرن التاسع عشر: «إن موقع مصر الجغرافي وحقيقة أن تجارة الهند واقعة عند قاعدة العظمة البريطانية، قد جعلت هذه القوة الكبرى، ومن المحتمل جدًا أن تجعلها دائمًا تسعى إلى إبقاء مصر إقليمًا ضعيفًا وعاجزًا».
في نقد جمال حمدان
نضيف من عندنا أنه إذا كان صحيحًا أن موقع مصر الجغرافي مهم جدًا ومركزي جدًا عالميًا، كما كتب العالم الجغرافي الراحل جمال حمدان في كتابَيه اللذين لا يزالان يلقيان رواجًا كبيرًا ومُبالغًا به في مصر منذ نصف قرن على الأقل: «شخصية مصر... دراسة في عبقرية المكان» و«استراتيجية الاستعمار والتحرير»، فإنّ هذه الأهمية المركزية لمصر (وأيضًا للمشرق) عند مفترق ثلاث قارات كانت عبقرية من ناحية ومجلبة للمخاطر والحروب وعدم الاستقرار من ناحية أخرى، ولم تكن لتترجم من جملة العوامل التي ساعدت مصر وغيرها من البلدان العربية على التنمية والسيطرة على مقدراتها الذاتية التي تتطلب استقرارًا سياسيًا واجتماعيًا عاليًا في التاريخين الحديث والمعاصر. وقد كان محمد علي باشا يعي ما ستؤول إليه زيادة أهمية مصر بسبب حفر قناة السويس أثناء حكمه، فرفض الأمر رفضًا قطعيًا، لأنه كان يرى أن المشروع سيدفع بريطانيا إلى احتلال مصر، وهكذا كان بعد انتقال الحكم إلى ورثته.
من ناحية ثانية، يشير عيساوي أيضًا إلى ضعف قاعدة الموارد في الشرق الأوسط وافتقاره إلى الخشب (وهو مادة أساسية في فجر الثورة التقانية)، وافتقاره أيضًا إلى الأنهار الصالحة للملاحة وإلى الطاقة المائية والمعادن، وهي التي أقيمت عليها مشروعات ضخمة جدًا في أوربا بالعصور الوسطى المتأخرة. ويمكن للمرء أن يضيف أيضًا افتقار الشرق الأوسط إلى الفحم، في حين أنه استخدم في الصين منذ عهد هان، وفي أوربا بأواخر العصور الوسطى.
فرص كبيرة
صحيح أن المنطقة العربية أصبحت فيما بعد غنية بالبترول والغاز الطبيعي، إلا أن ذلك لم يحصل إلا قبل منتصف القرن العشرين بقليل، وقد اكتُشف في مناطق صحراوية لم تكن الصناعة أو الزراعة قد تقدّمت فيها، وبالتالي كانت بحاجة إلى استخدام أموال البترول لتشييد بنية تحتية أوّلية ضرورية. كما أن شركات البترول الأجنبية كانت تأخذ حصة وازنة من موارد البترول المالية حتى سبعينيات القرن الماضي.
صحيح أيضًا أن اليابان مثلًا لم تكن غنية هي الأخرى بالموارد الطبيعية التي تستطيع الكسب من وراء تصديرها، إلّا أن فقر اليابان في هذا المجال لا يمنع أن لديها مميزات كبرى تفتقر لها مصر، إلى جانب مزية واحدة صغيرة تتمثّل في موارد طبيعية متوافرة ومتنوعة على نحو أكبر نسبيًا... يمكننا القول إن اليابان دولة فقيرة في مواردها، غير أنها تمتعت باحتياطيات صغيرة من الفحم والحديد والنحاس التي اعتمدت عليها لتحقيق الاكتفاء الذاتي لعقود طويلة.
كما تمتلك اليابان قوة مائية وفيرة قامت باستغلالها في مرحلة مبكرة، فوفّرت الكهرباء، ليس فقط للمصانع والسكك الحديدية، وإنما أيضًا للحِرَف اليدوية التي قامت في القرى. وكانت بعض الأنهار قابلة للملاحة (رغم الحاجة إلى إجراء تحسينات عليها) وقدّمت شواطئها الطويلة فرصًا كبيرة للملاحة الساحلية التي كان اليابانيون دائمًا متفوقين فيها. كما أنهم لم يهملوا استغلال المهارات الحرفية في الريف، خاصة اليدوية العالية الجودة.
ولإعطاء فكرة عامة عن الأوضاع الاقتصادية العربية نشير إلى أنه إذا احتسبنا مجموع قيمة الناتج القومي العربي اليوم (22 دولة عضو في جامعة الدول العربية)، فإنّه يساوي الناتج القومي لبلد أوربي واحد، مثل ألمانيا أو بريطانيا.
في التركيبة الاجتماعية
أما التركيبة الاجتماعية للدول العربية، خاصة في المشرق ودول الشرق الأوسط عمومًا منذ القرون الوسطى - أي الفترتين المملوكية والعثمانية - فكان لهما تأثير اقتصادي سلبي مهم. فحتى نحو القرن الثاني عشر كانت حكومات هذه المنطقة مدنيَة في الغالب، ولم تكن تسعى إلى التدخل في الاقتصاد، وكان التجار والحرفيون مستقلين في نشاطاتهم. ونتيجة لذلك ازدهر الاقتصاد، لكنّ الأمر تغيّر بعد ذلك، بسبب وقوع عدد من الكوارث، مثل الحروب الصليبية والغزو المغولي وانتشار الطاعون، حيث انتقل الحكم إلى يد العسكر الذين اعتمدوا على البيروقراطية.
وكانت نتيجة هذا التحول اتباع سياسة اقتصادية لا تلقي بالًا لمصالح المنتجين - الحرفيين والمزارعين والتجار - وركزت على تحصيل الضرائب وتأمين حصول المدن على المواد الغذائية، وغيرها من البضائع (حيث إن رعاع المدن قد يثيرون المشاكل في المدينة) حتى لو تأثّرت المصالح البعيدة المدى للمنتجين. وقد تُرجم ذلك بفرض ضرائب عالية والاستيلاء الحكومي على الثروات وفرض تسليم البضائع، بالقوة والمبالغة في ضبط قواعد عمل المنتجين.
غياب الطبقة البرجوازية العربية
يخلص عيساوي إلى القول إن كل الأسباب المذكورة سابقًا أدت إلى غياب طبقة برجوازية عربية مماثلة للبرجوازية الأوربية التي استطاعت أن تجعل، منذ القرون الوسطى، صوتها مسموعًا ومصالحها مؤمّنة ليس فقط في «المدينة - الدولة» التي كانت منتشرة في إيطاليا وهولندا، ولكن في دول الحكم الملكي بفرنسا وإنجلترا أيضًا.
أما في الشرق الأوسط، فإن مهمات الطبقة الوسطى كانت تُنجز بواسطة الأجانب وأفراد الأقليات، وبالتالي، فإنه كان يُنظر إلى البرجوازية على أنها غريبة واستغلالية، وكان من السهل القضاء عليها - مع بعض عناصرها الإسلامية - بواسطة الأنظمة العسكرية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
نضيف إلى كل هذه العوامل عاملًا سلبيًا مهمًا وهو مستوى الزيادة السكانية العربية التي بلغت 40 - 50 بالألف في البلاد العربية بعد منتصف القرن العشرين، مما أدى إلى انفجار سكاني، بينما ظلت في اليابان عند المستوى الأوربي، أي نحو 15 في الألف خلال الفترة نفسها. ولا شك في أن الزيادة السكانية المستمرة، خاصة في الدول العربية غير الغنية بالموارد الطبيعية، أثّرت سلبًا على خطط التنمية التي كان عليها التعامل محاولةً الإبقاء على مستوى المعيشة لسكان متزايدين بنسب عالية، بدلًا من زيادة هذا المستوى لسكان ولو متزايدين، إنما بنسب منخفضة.
نخلص إلى القول إن العلاقة بين التطور المادي والتطور الثقافي علاقة تبادلية، لا يمكن توقُّع حصول أحدهما دون الأخرى. فالثقافة بنت بيئتها الاجتماعية والاقتصادية، والحضارة الحديثة تشمل كل العوامل التي تؤثر في تركيبة البشر، حسب ظروفهم المكانية والزمانية ■