تركيا من أنشودة «البوسفور» إلى إيقاع «بحيرة الصنوبر»

تركيا من أنشودة «البوسفور»  إلى إيقاع «بحيرة الصنوبر»

يجاذبنا الحنين للترحال برغبة الاستكشاف لمدينة جديدة، أو حتى العودة إلى أمكنة قديمة نستعيد فيها إيقاع سيرنا قبل حين من العمر، لولا أن الزمن «الكوروني» أوصد الأبواب، ليس أبواب المطارات والطائرات فحسب، بل الروح، وهي تخشى أن تغادر جسدها بضربة قاضية من «كوفيد التاسع عشر» إذ يمرح فسادًا في جسد الكرة الأرضية منذ ما يقارب العشرين شهرًا، تاركًا آثارًا مرعبة وضعت العالم، غنيه وفقيره، في حالة من اللايقين، بين فتح سبل الحياة أو إغلاقها، ويقينًا مَن يسافر في الفضاء الرحب لا بد أن يؤوب إلى سطح هذه الكرة المتعبة من «المتحوّرات» المتلاحقة لفيروس خطف من أعين «الرحّالة» أحلامهم بالسفر، وتقطّعت بهم سبل رغباتهم، بين «مضي» نحو المغامرة، أو «نكوص» عنها.

 

كانت تركيا ترحّب بزوارها، محاولة إنقاذ موسمها السياحي الصيفي، وهي تدرك أنها «قبلة سياحية» لا غنى عنها لسكان دول الخليج، حينما تفيض عليهم الشمس بحرارة ترفع المؤشر إلى «الخمسين» والرطوبة إلى درجة تجعل المرء غارقًا في عرقه، كما هو وضع «الليرة» وهي تمضي متراجعة تحت سطوة الدولار... ومن يقف خلفه.
«لا يوجد حجر»... الجملة السحرية التي حدت بنا إلى اختيار تركيا، حقنتا تطعيم أو فحص يؤكد الخلو من فيروس «كوفيد 19»... ومرحبًا بك في بلاد الأتراك، لتكتشف، أو تستعيد من جديد متعة الاستكشاف، لمكانين مهمين يضعهما السائح الخليجي غالبًا في أجندته، مطاري مدينتي إسطنبول أو طرابزون، وعلى مقربة من الثانية تبدو قرية أوزنجول لوحة فنية عامرة بكل ما ترغب العين رؤيته ليذهب عن المرء حزنه: الماء والخضرة... أما الوجه الحسن فتجده الروح أينما يمّمت بصرها.

السفر في زمن... كورونا
دخلت مطار مسقط الدولي، بعد نحو 15 شهرًا من الفراق، أتأكد من ملف الأوراق التي لم أكن أعرفها قبل أن يقسرنا فيروس كورونا على حملها، تأمين صحي وشهادة بالحصول على جرعتي التطعيم وورقة من وزارة الصحة التركية جرى استخراجها عبر الإنترنت... ومع تلك الأوراق حالة قلق أن تكون هناك «ناقصة» أخرى تضيع تحقيق حلم العودة للسفر لمن اعتاد على طريق الذهاب والإياب بين البيت والمطار.
«يا إلهي»، صحت بدهشة الاكتشاف، أو الاشتياق، ها أنا في طائرة، أسمع صوت محركاتها، وتأتي ابتسامات المضيفات لتؤكد أننا لسنا في ركن الألعاب داخل «مدينة ترفيهية»، ماذا يعني «التباعد الاجتماعي» والطائرة لا تترك مقعدًا فارغًا دون مسافر عليه؟! وحدها التعليمات تأتينا بعدم التزاحم أمام دورات المياه!
«يا إلهي»... قلتها من جديد وكانت إسطنبول تقلب سماءها فتتناثر ملايين النجمات على ترابها، تاركة لما نظنه مساحات باللونين الأخضر والأزرق وحدهما البقاء خارج حدود التلؤلؤ النوراني كما نراه أسفل الطائرة إذ تبحث عن مدرجها فتهبط بسلام كي تكتمل لوحة السفر.
أجمل وقت للقاء بالمدن قبل أن تشرق الشمس، أو قبل أن تغرب...
في الصباح تجدها ما زالت كصبيّة تفتح عينيها في مطلع نهار جميل، نديّة وطازجة، وقبل أن يحلّ المساء تكون كفاتنة تستعد للاحتفاء بسهرة فرح... تترقبك لتشاركها ألق ليلها وقد ارتدت ثوبًا لم تره من قبل، فلكل مدينة أثوابها، وخامة قماشها، وجسدها القادر على أن يكون بمقاس الفتنة التي تنشدها.
وكان حظّنا مع إسطنبول أن نلحق بها قبل أن تبدأ سهرتها، ويا للمفارقة: لا تكاد تذكر عاصمة البلاد أنقرة، كأنما جميلة البوسفور ترغب وحدها في تتويج نفسها «ملكة الجمال» في حفل المدن التركية، عتيقها وحديثها، وقد عبرتها جحافل جيوش من كل حدب وصوب، قوميات وأعراق وأجناس، وسالت أنهار من دماء، لا يعرف إلا خالق البشر كم عدد من سقطوا على هذه البقاع، بمقاصد شتى.
عبور إجراءات المطار سريع وسلس، والطقس خارج الأبواب المفتوحة يترقّبنا بدهشة، نتمعّن في أرقام تحديث بيانات الطقس على وجه شاشات هواتفنا، رقم درجة الحرارة في مستوياته الأعلى على المساق الأربعيني يتراجع إلى بدايات «العشريني»، والغيم يكتب لوحاته، جمالًا حينًا، ومطرًا ناعمًا في أغلب الأحيان، يكمل لوحة الحلم التي يأوي بها المسافر إلى دفاتره القديمة، حيث المدن قصائده الأثيرة، وشوارعها حروفه الممهورة بلذة الاكتشاف. 

تقسيم... ما لا يقسّم
كأنّما «نذر» علينا (معي المصور عبدالله العبري ورفيق الترحال المسرحي والكاتب
د. سعيد السيابي) أن نسهر مع ميدان تقسيم الشهير مراوغين عناء السفر ما أمكن للأجساد تحمّله، وسرنا إليه مشيًا لعدة كيلومترات كي نبلّغه أنّا تمكنّا من تحقيق أمنياتنا بالتحليق من جديد، نضبط لبس الكمامات على وجوهنا، ونحاذر الدخول في أي زحام بشري، أضاف هذا الفيروس شكلًا جديدًا لملامحنا، حيث نبدو جميعنا كأنّنا في حفل تنكّري، نرتدي الأقنعة ونمضي، حينما تقف أمام الكاميرا اخلع «قناعك» كي يبدو وجهك أنه يخصّك وحدك، ثم أعده إلى سيرته المعتادة.
نسير ببهجة طفل يجرّب لعبته لأول مرة، هنا لا يمكن تقسيم الفرح، هو كتلة واحدة ضخمة تسير بيننا ذات اليمين وذات الشمال، رغم أنف الوباء، تتبع خطواتنا، والجوّ بديع والزهر ربيع كما تشير أغنيتنا العربية القديمة، وهذه لغتنا نسمعها هنا بكثرة، خاصة بتلك اللهجة الشامية المحبّبة، سمعت من يقول أن تركيا احتضنت أكثر من خمسة ملايين لاجئ سوري، وسمعنا (أيضًا) أن بين متسولي الشوارع والأسواق من يبتزّون السياح (خاصة الخليجيين) عاطفيا بادّعاء أنه سوري هجّرته الحرب ولا يجد لقمة يطعم بها أولاده الجوعى!!
وكأنه (نذر) آخر، ومثلما سهرنا مع «تقسيم» كان لزامًا علينا أن نستقبل النهار التالي فيه، فشارع الاستقلال ممتدّ على جماليات الصباح، مع تناول الإفطار «الشرقي» الأنيق على أحد زواياه، لم تكن أبواب المحلات مفتوحة بعد في ذلك الوقت المبكر، لكن للصباحات سحرها في الشوارع المتّسعة... متّسعة على فضاءات الفرح بالتسكّع الخارج من أسوار الزمان والمكان... ومن ضغط النظر إلى عقارب الساعة، حيث إن وقت (الزائر) مفتوح دون حدود يغصّ بها (المقيم).
كانت إسطنبول تكنس مبكّرًا آثار سهرها في ليلة لم تبد على القادمين إليها أنها طويلة بما يكفي للحظوة بفكرة نوم ثقيل، حتى الغرفة بدت غريبة بعض الشيء، المفتاح الذي نسينا كيف يكون، أن تمرر بطاقة ممغنطة فيصدر قفل الباب ضوءًا أخضر دلالة على أن المقبض جاهز لدفعه ودخول ملاذ بلذة اكتشاف أولى للتعرف على غرفة فندقية، ورؤية سرير لا يخصّنا إلا لبضعة أيام حددها موقع (بوكينج) للتمدّد عليه، أو كما تصفه كاتبة رواية «عين زجاجية» الباسكية ميابي، أنه السرير «الذي لا يدري سوى الرب من نام عليه»... قبلك، أو من سينام عليه بعدك.
 الميدان رائق في صباحاته، وعربة الكنس لا يعنيها عشرات من الحمام المعتاد على هكذا بدايات نهارية... وهكذا عربات تزحف نحو بقايا حبوب ألقاها محبّوها قبل ليلة... أو أنها ما زالت طازجة فتهرع لالتقاطها قبل زحف شفّاطات هذه العربات، اختلف الميدان بغياب سماره، إلا من حركة قليلة لا تقارن عمّا كان عليه الوضع حتى في وقت متأخر من ليلة البارحة، وكانت الشمس صاهدة صاهلة كفرس جموح يسير رغم أنف الجو الذي ما زال ربيعيًا، مع أنه يستقبل أول يوم من يوليو.
بدا المكان مختلفًا عن آخر مرّة رأيته فيها قبل سنوات، كان المسجد الجديد إضافة مختلفة للميدان، الساحة العامة الأكبر في المدينة والتي كانت تخلو من مآذن مسجد، بينما تحتفي هذه المدينة بآلاف منها في كل بقعة، على تلال إسطنبول أو عبر جميع المدن التركية التي ترفع التكبيرات بوحدانية الله سبحانه وتعالى.
يقال إن وجود مسجد في ميدان تقسيم كان حلم الطفولة للرئيس التركي إردوغان، وبدأت فكرته قبل أكثر من 27 عامًا، وفي فبراير من عام 2017 عرضت التصاميم الأولية لهذا الصرح الديني الكبير، ليرى النور بعد سنوات طوال من الجدل والنقاش حوله، ارتفعت المآذن في ساحة الميدان، على مدخل شارع الاستقلال، وطول كل مئذنة أكثر من ستين متر، بينما مساحة المسجد تقارب 2500 متر، تتسع لما يقارب هذا العدد من المصلين، علما بأن هناك مواقف تحت الأرض من ثلاثة طوابق تتسع لنحو 165 سيارة، وبموازاة كونه صرحًا دينيًا فإنه يتضمن قاعات تحتفي بالفنون والآداب... وفي هذا إشارة واضح وجليّة.
كأنما كان الميدان بحاجة إلى روح حقيقية فيه، حيث الفنادق والمطاعم والشوارع ومكاتب السياحة، وحيث تزاحم البشر على ساحته، يتناسلون من كافة السبل المؤدية إليه، ولا يكاد لا ترى فيه إنسانًا يتجوّل، وبين فتح ساحته وإغلاقها (لدواع ليست معروفة دومًا) يضيف المسجد مشهدا جماليًا (وروحيًا قبل كل شيء) لا يأتي هذه المرة كشأن معالم كثر في تركيا وضعتها رؤية المعماري الشهير سنان، بل تصاميم مهندسين يعملان في المجمع الرئاسي التركي، شفيق بيرقية وسليم دالامان، فجاء الشكل المعماري مراعيا الجمع بين القديم والحديث، على جوار مع كنيستي الروم الأرثوذكس والأرمن الكاثوليك، وفي أول صلاة جمعة خاطب إردوغان المصلين بأن هذا المسجد «هدية لإسطنبول في الذكرى الـ568 لفتحها».
التجوال في هذه المدينة يعني مناطق شهيرة لا يمكن أن تكون خارج حدود (البرنامج)، كأنما لا تكتمل حكاية العلاقة مع إسطنبول دون التوقف في منطقة السلطان أحمد، هنا التاريخ يسكن بما لا تكفي مجلدات لجمع حكاياه المجيدة، الجامع الأزرق وآيا صوفيا والمتاحف على تعدد مسمياتها، فيما تشمخ مسلة مصرية غير بعيد عن ذلك، وبجوارها مسلة من العهد اليوناني، في إشارة إلى شموخ الحضارات على هذه البقعة، ومشيًا لبضع دقائق يمكن الوصول إلى تحفة فنية تضم ملايين التحف داخله، البازار الكبير، أو السوق المغطى، تعرف بداياته ولا تدرك نهاياتها، فتفرعاته عديدة، وكل تفرع يقود إلى آخر، لتعود إلى مسارات سبق لك العبور بين ضفافها العامرة بما يلذّ للعين رؤيته، حتى أشكال الحلويات تكتسب جمالًا فنيًا في لغة الصورة، وصولًا إلى الأسقف العامرة بزخارفها وألوانها البديعة، وبأشكال هندسية تختلف أحيانًا بين ممرّ وآخر، ولا تدري من أيّة جهة جئت، وهذا المسار إلى أي ركن سيأخذك.
تتأمل البضائع المعروضة كأنك في معرض تشكيلي، تحف قادمة من زوايا التاريخ، عليها البصمة التركية، أحجار كريمة وحلي ذهبية وفضية، ومشغولات نحاسية أو خشبية، أزياء تراثية، أو غيرها من المعروضات ممّا تفيض به ضفاف الممرّات والزوايا.

في مقام «سليمان»
من حيث أخرجتنا «سيارة الأجرة» من باطنها بجوار محطة رئيسية تعدّ نقطة انطلاق للسفن العابرة للبوسفور، وحيث مطاعم السمك المنتشرة... والناشرة روائحها بقوة ونفاذية، هبطنا عبر النفق للوصول إلى الجانب الآخر لنصعد إلى تلّة عالية، هي الثالثة ضمن تلال إسطنبول السبع، ومقصدنا الأساسي مسجد السليمانية، دخلنا حدود التاريخ العثماني برائحة تنفد إلى عمق الذاكرة، كأنما السلطان سليمان القانوني، ذلك القادم من مسقط رأسه طرابزون يختال بلقبه أمير المؤمنين وقد دانت له ممالك وبلدان امتدت على عدة قارات لتبلغ الدولة العثمانية في عصره أزهى عصورها الذهبية والأكثر اتساعًا على رقعة الخارطة الأرضية، يقع المسجد ضمن مجمّع يضم أيضا مقبرة وأربع مدارس ومستشفى وفندق ومئذنة ودكاكين وحمّامات ومدرسة قرآنية وضريح المهندس المعماري سنان.
 توضأنا ودخلنا المسجد لأداء صلاتي المغرب والعشاء (قصرًا وسفرًا)، لم تكن تلك الشدة والحزم في التعامل مع المكان كما وجدناها في الجامع الأزرق مثلًا، كان الأطفال يمرحون على مرأى من أهاليهم داخل المسجد، يتراكضون، غير آبهين بالتاريخ الذي صنعه هذا السلطان،  وفيما كنّا نسأل عن ضريح «سليمان» أشارت لنا شابة تركية نحو غرفة تتوسّط الساحة الأمامية للجامع لكنه لم يكن هناك. قادتنا معلومة تالية إلى مكان آخر!
هبوطًا من تلك التلّة، لم يكن ضريح المعماري الشهير سنان ببعيد، على يميننا، بينما على الشمال باب مقهى يحمل اسمه، صعدنا إلى سطحه لنجد أن المدينة تفتن سمّارها برؤية جمالية واسعة، إطلالة علويّة ساحرة على «القرن الذهبي»، كشأن عدة مطاعم ومقاه فتحت نوافذها وسطوحها للنظر في وجه المكان ليلًا، المدينة بجسورها وشوارعها ومنازلها، وكل ما يشعّ ضوءًا وجمالًا في ليلها البهي، والهواء المتناثر سحرًا، والفاتنات اللاتي يتركن للنسمات فرصة العبث بشلالات الشعر المتطاير رذاذه جمالًا إضافيًا لسحر الصورة.
أخذنا دربنا الليلي لنقطع الجسر الواصل بين الضفتين مشيًا، المصور العبري يشتكي من طول المسافة سائلًا عن سيارة أجرة، وقد أثقلت ظهره حقيبة الكاميرا والعدسات المتفاوتة أرقامًا وأبعادًا، وحينما أذعنّا لمطالب المصوّر كان سائق «التاكسي» الشاب ظريفًا بما بدّد التعب... والزحام الذي أصبحت عليه المدينة، لدرجة أننا خشينا من هذه «الظرافة» فتتجاوز الحدّ الفاصل بينها... والجنون.
‏ تبدو إسطنبول جميلة، وأنيقة، رغم زحامها، متعة التجوال متاحة ليل نهار، فميدان تقسيم عامر بالحركة على مدار الساعة، ومنتصف ليله يكون حيويًا أكثر من منتصف النهار، والمدينة تصبح أجمل ما تكون حينما تتوارى شمس المساء وراء تلك البحار والمضايق، وهي تودع قارتين معا خلال دقائق فقط، وشارع الاستقلال به من المبهجات ما يجعل التسكع جميلًا، العازفون بقصد جمع بضع من النقود المعدنية، وباعة «البوظة» أو الآيسكريم بحركاتهم التي أضحت معروفة، لكنها ممتعة ومسلية، فجملتهم «حركات بركات» بيّنة في علاقتهم مع ذلك الشكل المخروطي من الحلوى المثلّجة وهي تراوغ اليد التي تنتظر الإمساك بها، فتجفل الضحكات حتى من المارّة وهم يشاهدون حفلة سيرك مصغّرة قوامها ألوان شتى بنكهات مختلفة، ومن يمر... فله الفرجة مجانا!

تطواف في «البوسفور»
كان الليل بهيًّا ونحن نعبر البوسفور في «يخت» سياحي، مضيئًا كما تشتهي الروح، مريحًا كما يرغب الجسد، وقد أنهكه المشي والتجوال ساعات طوال، جاء الراقص الصوفي فأدخلنا في تحليقه كأنما يريدنا أن نجرب حالة «الكشف» فنستعيد أشعار جلال الدين الرومي، و«نتجلّى» أمام سطوة جمال المدينة، ونحن نمشي على سطح الماء، بين ضفتين من ضوء، فكانت قصور بني عثمان عن يمين وشمال، وأعمدة المآذن التي رفعوها تضوي كأرواح فوق التلال، شواهد الأمس تتداخل مع نزعة قومية معاصرة من أبرز دلالاتها «البصرية» كثرة الأعلام التركية الكبيرة ترفرف على ساريات مغروسة فوق تلالها السبعة، وكان السمّار على سطح اليخت / السفينة عين على ما تهبهم إياه إسطنبول من جمال، وأخرى على ما يعرضه منظمو الرحلة من برنامج فنّي، تدفأ آخر المساء برقصات فرح أدّاها سياح من دول شتّى دلّت عليها ألسنتهم وهي تتحدث الإنجليزية والإسبانية كمثال، ومن لم يشارك في «الفسحة الراقصة» فإن عينيه رقصتا بابتهاج.
كنّا بين قارتين، أوربا وآسيا، يأخذ البوسفور عبر بحرين: الأسود ومرمرة، وهناك مضيق الدردنيل، كان مزاج «البوسفور» على درجة من البهجة، يبلغ طوله 30 كم، أما عرضه فمتفاوت بين 550 مترًا و3000 متر، ولأن مياهه مصنّفة ضمن مجال الملاحة الدولية، فيعدّ من أهم نقاط الملاحة البحرية في العالم، وتعبره عشرات الآلاف من السفن سنويًا.
هل حقًا نحن في ممر البقرة؟!
هكذا كانت اليونان تراه في معتقداتها القديمة فأطلقت عليه اسم بوس هوروس، الأسطورة تروي عن الإله زيوس الذي حوّل محبوبته أيبو إلى صورة بقرة خشية عليها من غيرة زوجته، لكن زوجته عرفت خدعته فسلطت الذباب على إيبو التي هربت عبر هذا المضيق، فجاءت كلمة بوس (البقرة) و(هوروس) المضيق، فتشكلا: بوسفور.
أجمل ما في المشهد تلك الجسور الممتدة بين ضفّتين / قارتين، في الليل تبدو مشاهدتها غاية في الروعة، خاصة جسر البوسفور الذي لم يعد يسمع أزيز الرصاص، ولا تزعج سكونه طلقات المدافع، منذ أن مات «الرجل المريض» على وقع تنامي القوة الأوروبية الجديدة، وحده بياض فقاعات الماء يسير وراء السفن حيث لم يعد للون الدم حضور على خارطته الزرقاء، وتحولت القلاع، تلك التي خلّفها البيزنطيون الغزاة أو أبناء الأرض من آل عثمان، على جانبيه إلى مشاهد جمالية تشدّ زوّارها من مختلف دول العالم، وهم يسيرون في سفنهم السياحية أو قواربهم الشراعية، بينما يكاد المضيق من تلك الحمولات التجارية كونه رئة اقتصاد لا تهدأ.
كان جسر البوسفور متألقًا أكثر من غيره، صوّبت كل عدسات التصوير إليه، ونسي السائرون على ظهر المركب اتصالاتهم ورسائلهم لتغدو هواتفهم (كاميرات) ربما تبثّ المشهد مباشرة إلى حبيب على البعد، يعيش جوهر الحكاية وجماليتها، أو ستغدو المشاهد المصورة دفئًا حقيقيًا حينما تستعاد كذكريات للذين ساروا يومًا على صفحات الماء، تحت جسر الضوء، لكن قلّة سيتذكرون ما يطلق عليه مؤخرا بأنه جسر الشهداء، حيث تاريخ محاولة الانقلاب قبل أربع سنوات، فسقط نحو 150 شخصا في تلك المواجهات، من «الوطنيين»/ أنصار الرئيس إردوغان.
يمتد الجسر طولًا عبر المضيق على مسافة 1560 مترًا، وعلى عرض أكثر من 33 مترًا، وبدأت عملية إنشائه عام 1970 بعد أن وضع مهندسين إنجليز المخطط الهندسي، وتولت شركة تركية بالتعاون مع أخريات أجنبية مهمة بناء استمرت ثلاث سنوات، ليكتمل عام 1973، علما بأن رئيس الوزراء التركي في عام 1957 كان عدنان مندريس، رأى أهمية بناء جسر يربط بين ضفتي إسطنبول الآسيوية والتركية.
تشير المعلومات إلى أن 35 مهندسًا أشرفوا على بناء المشروع بوجود 400 عامل، وبتكلفة بلغت حينئذ 200 مليون دولار، وبعد المعاناة مع الزحام عليه اتخذ القرار ببناء جسر آخر سمي باسم السلطان محمد الفاتح الذي فتح مدينة إسطنبول في العام 1453، وافتتح عام 1988، وطوله 1090 مترًا، وارتفاعه 164 مترًا، أما ثالث الجسور فهو جسر السلطان سليم الأول الذي بني في المرحلة الإردوغانية الحديثة، بعرض 59 مترًا، وبطول 2164 مترًا، وارتفاع 320 مترًا، وإضافة إلى ميزته على خارطة الأماكن السياحية في المدينة فهو يعد من أطول وأعرض الجسور المعلقة في العالم. 

قناة إسطنبول الجديدة
أشار مرافقنا السياحي، السوري محمود، إلى ما يشبه الوادي، متحدثا عن مشروع آخر تحضّر له الحكومة التركية، كرّرها عدة مرات، حينما يتعلق الأمر بإقامته في تركيا، يقول «لم نجد إلا الخير منها تجاه السوريين» الذين هاجروا، أو هجّروا، من وطنهم، لاجئين يبحثون عن فرصتهم في حياة بعيدًا عن أشباح الموت.
وكان الفضول حاضرًا بقوة للبحث عمّا تعنيه هذه الإشارة نحو «قناة إسطنبول»، المجرى المائي الذي يقع على بعد 30 كيلو مترًا في اتجاه الغرب من مضيق البوسفور، فتمتد هذه القناة رابطة البحر الأسود في الشمال ببحر مرمرة جنوبًا، على مسافة 45 كيلو مترًا وعمق 25 مترًا، وعرض 400 مترًا قد تصل إلى نحو كيلومتر في إحدى نقاطها، وتقدر تكلفته المبدئية بنحو ثمانية مليارات دولار (الأرقام تتباين هنا)، وبموازاة ذلك سيتم بناء عشرة جسور عليها.
المؤيدون يشيرون إلى فوائد عظيمة ستعود على بلادهم، حيث إن القنوات المائية الصناعية تتيح للبلد تحصيل رسوم عبور عكس القنوات الطبيعية، وسيخفف الضغط على مضيق البوسفور بتوفير مجرى مائي آمن حيث تشير الإحصائيات عام 2017 إلى عبور 53 ألف سفينة مدنية وعسكرية لهذا المضيق مقابل 17 ألفاً في قناة السويس و12 ألفاً في قناة بنما، وتتوقع الحكومة التركية دخلا يبلغ ثمانية مليارات سنويًا من القناة الجديدة، فيما هناك حركة اقتصادية على جانبي القناة جعلت من سعر متر الأرض يرتفع على نحو هائل، ووفق بيانات رسمية تركية على الموقع الترويجي للقناة فإنها ستسمح بمرور 185 سفينة يوميًا، فيما يعبر البوسفور حاليًا ما بين 118-125 سفينة كل يوم.
بعد سبع سنوات، أو أقل، ستعرف إسطنبول وجهًا سياحيًا إضافيًا، ومثلما ستعبره السفن التجارية والعسكرية في العالم، سيعرف أيضًا عبور مئات المراكب واليخوت السياحية ليرون إنجازًا آخر في الحقبة الإردوغانية، رغم أنف المتشككين والمعارضين لهذا المشروع الضخم، قال لنا أحدهم إن الرئيس إردوغان أسكتهم بموافقة من مائة عالم تركي أكدوا أنّه لا يسبب أية أضرار بيئية أو ديموغرافية في هذه المدينة التي تحدق بها الزلازل على مر عصورها.
 
بورصة: بقايا حكايات عثمانية
جرّبت السير سابقًا إلى بورصة، لكنني أتكئ هذه المرة على خبرة مصور لينقل المشاهد عبر احترافية تصويرية لا أملكها، فكيف بي أدّعيها!
كانت بداية اليوم على نحو حالم...
على مدخل مبنى الإقامة قهوة تقع بجوار السلالم الكهربائية الصاعدة والهابطة من أمام صالة الاستقبال التابعة للفندق، ردهة صغيرة لكنها كانت كافية لوقوف فاتنة تعزف على الكمان مقطوعات لم توقفنا وحدنا فقط، بل هناك العابرين في الشارع الذين لفتتهم هذه التغذية الروحية الصباحية فوقفوا مأخوذين بعبقي القهوة والموسيقى، وبجوار آلتها ترتسم ابتسامتها الطفولية الآسرة وكأن حركة يدها تسير على أوتار مشاعرهم، فلا يميّزون بين الصوت المنبعث من الكمان أو من دقات قلوبهم الطربة مما يصل إليها.
من الذي لا يتوقف أمام الإبداع والجمال؟!!
أحسسنا أكثر بقوة حضورهما حينما أدركنا أن السماء كانت تمطر، فتركنا الحسناء وكمانها إلى الاستمتاع بأنشودة المطر، كثالثة المعاني، في طريقنا نحو حافلة تترقبنا.
كان المرشد السياحي يتحدث العربية بطريقة أقرب للظرف، محاولاً أن يؤكد هذه الظرافة بتعليقاته واختباراته لثقافة الذين ضجّت بعددهم الحافلة، وقد أثار غضب بعض العائلات الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على وضع أطفالهم في حجورهم طالما أنهم لم يحجزوا لهم تذكرة!
يخبرنا أبو طارق، كما عرّف نفسه، عن تقاليد عثمانية قديمة، ففي القرى إذا رأى السائر وردة صفراء على شبّاك بيت فذلك يعني أن في البيت شخص مريض فيرجى عدم الازعاج، «غيّروا طريقكم»، والوردة البيضاء: داخل البيت هناك متزوجون... فغيّروا طريقكم أيضا، وهكذا الحال مع الوردة الحمراء، لوجود شخص متوفّ في المنزل.
سألنا عن الخمس مآذن في المساجد، أجاب البعض أنها دلالة على أركان الإسلام، وأن القبّة ترمز إلى التوحيد، وعن الضيف إذا شرب الماء قبل القهوة فذلك يعني أنه جائع فيسرع أهل البيت بتقديم الطعام له، أما إذا فعل العكس فإنهم يأتون إليه بحلوى «راحة الحلقوم» التركية الشهيرة.
لا يقطع اختباراته إلا وجود صرح يشير إليه ليتحدث عنه، وبعد أقل من ساعة كانت العبّارة تحمل الحافلة لتنقلها بين ضفتي ماء، بينما توزّع الركّاب / السيّاح على مقاعد مطعم علوي يتيح الرؤية... والتقاط الصور، ومن لا يجد رفيقًا يصوّره بإمكانه التعويل على... «السيلفي».
قال أحد السيّاح إن في هذه الرحلة تكمن حقيقة مهمة: «لا تزور إلا ما يريدون لك زيارته، ولا ترى إلا ما يسمحون لك برؤيته»، ولذلك توقّفت الحافلة بالعشرات فيها للجلوس في استراحة صغيرة تحيط بها الأشجار، عارضين عليهم ركوب الدراجات أو سيارات الدفع الرباعي أو الجلوس في المقاهي المتوفرة... وفي كل ذلك عليك أن تدفع المزيد! 
تكمن الأهمية التاريخية لمدينة بورصة كونها أول عاصمة للعثمانيين، وسياحيًا لوجود المرتفعات التي لا تبخل بالثلج حتى في أيام الصيف، كانت الحافلة تصعد وتصعد عبر طريق ملتو على تلك الجبال الخضراء، وبعد فرصة تناول الغداء أكملت رحلته صعودًا، وكنّا على أمل أن التلفريك سيصعد بنا أكثر، لكن المفاجأة قالت كلمتها: سيهبط بنا!! والحافلة ستنتظرنا في الأسفل، ريثما نتمكن من تجربة هذا النقل المعلق، ونحن نهبط من سحابة إلى أخرى، بياض يغشى العربة السائرة على حبلها فتحجب اللون الأخضر كما نراه أسفلنا، مساحات مدهشة من ألوان تزهو بها الروح وتزهر.
المشهد الختامي للجولة «البورصية» كان مثيرًا، ليس جماليًا فحسب، بل تاريخيًا، هناك أسواق الحرير، والمسجد الأخضر.
في محلات متداخلة، ومتجاورة، تعرض بضاعة تكاد تتشابه مع كثر غيرها، لكنهم في هذه الأمكنة يؤكدون على «الأصلي»، وكانت الصبايا «السوريات» باللهجة الشامية العذبة يشرحن عن الملابس والعطور ومفروشات الصوف والأحجار الكريمة والخواتم التي تتغير ألوان فصوصها... في مشهد متكرر عرفناه عبر أمكنة عدّة.

المسجد الأخضر... والأضرحة
تهت بين صفة «الأخضر» حيث على يميني ويساري ما توقعته أنهما مسجدان، لكن أحدهما هو المسجد الأخضر، ولا سطوة لهذا اللون عليه، أما البناء الآخر فهو ما أدهشني: يقال إنه كان مقر حكم السلطان محمد شلبي أو (جلبي بوجود ثلاث نقاط تحت الجيم) بينما يضم حاليًا ضريحه مع قبور زوجاته وأبنائه.
هذا السلطان له بصمته في مسار الدولة العثمانية الطويل، فابنه هو السلطان مراد، وحفيده السلطان محمد الثاني، وأشار المؤرخون إلى الدور العظيم للسلطان محمد شلبي في الحفاظ على دولة بني عثمان حينما أنقذها من الغرق وسط الغزوات المغولية وتفتت الجبهة الداخلية بالحروب بين أركانها حينما تركوا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ترعى بحريّة.
لم يكن من أشهر سلاطين بني عثمان، فهناك كثر يفوقونه شهرة، لكنه يعدّ المؤسس الثاني لهذه الدولة، رغم فترة حكمه القصيرة، وكلمة شلبي تعني بالتركية الظرف والظرافة، وأيضًا الحسن والجمال، تولّى عرش الدولة العثمانية بين عامي 804 – 816 للهجرة (1402 – 1413 للميلاد) بعد 11 عامًا من الصراع مع إخوته المتنازعين على أشلاء دولة تمزقت من كل جانب، خاصة على يد ضربات المغولي تيمور لنك، فجمع شلبي ما تفتت، وأسس الدولة من جديد مقدرًا العلوم والفنون بما عرف عنه من موهبة في نظم الشعر باللغتين الفارسية والعربية، ويعد أول سلطان عثماني يرسل هدية سنوية إلى شريف مكة، وكانت «الصرّة» تضمّ نقودا توزّع على فقراء مكة والمدينة المنورة، ونقل عاصمة ملكه من أدرنة «مدينة الغُزاة»، إلى بورصة المُلقبة «مدينة الفُقهاء»، كدلالة على شغفه بالمعرفة، بموازة ما عرف عنه من هوسه بأفعال الخير والبر.
 يوجد على الأضرحة نقوش جميلة باللغة العربية، ومحاطة بجمال سقف البناء الذي يعكس روعته في الداخل بهاء جمال شكله الخارجي، وتعد أحداث موته إضافة ثرية إلى سطوة المكان الروحية، فالسلطان محمد شلبي توفي في أدرنة عام 1421م عن عمر 43 عامًا، وتروي المصادر التاريخية أنه توفي بسبب مرض عانى منه نحو ستة أشهر، وأن الصدر الأعظم امتثل لِرغبة السُلطان، «فتعاون مع الوزير إبراهيم باشا الجندرلي على إخفاء موت مُحمَّد الأوَّل عن الجُند حتَّى يحضر ابنه، فأشاعا أنَّ السُلطان مريض، وأمرا بِإغلاق كُل الحُدُود خوفًا من قُدُوم مُصطفى چلبي من جزيرة لمنى (امنوس) وهي قريبة من أدرنة وجُلُوسه على العرش، فلم يُذع خبر وفاة السُلطان طيلة 41 يومًا».
وتمضي الروايات أنه حتى من في القصر لم يكونوا على علم بخبر موت السلطان الذي حنّط جثمانه للحفاظ على جسده دون تحلل ريثما يصل ولي العهد، إلا أن الجند أصروا على رؤية سلطانهم، فما كان من طبيبه كزوزان إلا أن اقترح بأن يجلس السلطان على كرسيه وكأنه حي، ويقوم أحدهم من خلفه بتحريك يديه ورأسه للتدليل على ذلك، فيما تخفي الغرفة المظلمة بقية التفاصيل، كون أن العتمة أرادها السلطان لراحته في مرضه، وتولّى الطبيب إضفاء المشهد الدرامي حيث دخل عليهم صائحًا وشاتمًا هؤلاء الذين لا يريدون الصحة لسلطانهم بينما هو يقوم بعلاجه.
وبعد وصول مراد إلى بورصة أعلن خبر وفاة السلطان محمد شلبي، بعد فترة حكم (منفردة) امتدت نحو سبع سنوات وما يقارب من عشرة أشهر، لكن هناك فترة سابقة احتسبها المؤرخون، وسميت «دور الفترة»، ومجموعهما معًا أكثر من 18 سنة.

أوزنجول... الغيم يصحو مبكرًا
أوزنجول... قرية تبعد عن إسطنبول أكثر من 1300 كيلومتر، حكاية بلون آخر، أخضر في دلال اللون ودلالته، وعلى القلوب ينعكس اخضرارًا، فلا شيء يمازجه رغم كل الألوان الممكنة التي تتداخل في المسافة بين بياض الغيم المتدلّي من السماء أعلى البشر المبتهجين... وانعكاس بياضه على «البحيرة الطويلة» التي يعنيها اسم القرية: أوزنجول، كما تسمّى أيضًا بحيرة الصنوبر.
هبطنا في مطار طرابزون في أقل من ساعتين من الطيران بينها وإسطنبول، ثم ما يقارب من ذلك الوقت لنعبر نحو 100 كيلو متر، نسيرها عبر تلال وجبال وأنفاق للوصول إلى هذه البقعة الرائقة خلف تلك الجبال المتدثّرة بأشجارها، وكأن كلمة «جبل» تكتسب معنى آخر عمّا نعرفه في أذهاننا، حيث الصخور وحدها علامة تلك الشوامخ، بينما في أوزنجول: تلة ضخمة من الأشجار، تلتقي أوراقها بالسحب والضباب المتكاثف، وكأنها في حالة إقناع دائمة ليهبط الغيم إلى متناول أيدي البشر، فيمرحون.. ويفرحون بأنهم قبضوا على ما كانوا يحسبونه عاليًا وغاليًا... خاصة في شبه جزيرتنا العربية.
البيوت الخشبية، والفنادق المقامة بالخشب... وكذلك المطاعم، وأجمل من كل ذلك تلك البحيرة الأنيقة، وانعكاس المسجد عليها... أتساءل: لو لم يكن المسجد هناك هل بقي كل ذلك الجمال حيًا كما يبدو عليه في آلاف الصور الملتقطة له يوميًا؟!
وجدتها لمسة فنية مقصودة، المئذنتان البيضاويتان ترتفعان فوق المسجد فيسري انعكاسهما، مع بقيّة المبنى بما يشكّله من راحة نفسية، روحًا أخرى على صفحة الماء، فإذا سكن كان الانعكاس جميلاً، وإذا هزّته النسمات تمايس انعكاسه دهشة، وإن عانقته غيمة اشتعل البياض أناقة على الصفحة المائية وهي تغيّر ألوانها، وفي الليل فإن المصابيح توقد شموعًا أجمل تضوي على امتداد البحيرة، فلا يدري الزائر هل يقرأ الجمال على طبيعته فوق تخوم الأرض، أو يتمعن في انعكاساته على تخوم الماء المنساب بردًا وسلامًا!
تبعد أوزنجول عن وسط مدينة تشيكارا نحو 19 كيلومتراً، ومرتبطة بالبحيرة كأنها روحها الحقيقية، هذه البحيرة البالغ محيطها نحو سبعة كيلومترات، تكوّنت من انهيار أرضي جعل من مجرى نهر هالديزين سدًّا طبيعيًا لكنّها تحوّلت إلى بقعة سياحية تجذب الآلاف إليها يوميًا، وأحيطت البحيرة، وجدول النهر على امتداده داخل الجبال، بمقاه ومطاعم وفنادق، إضافة إلى مدينة ألعاب تقدم خدماتها لمختلف أفراد العائلة، عدا الاستمتاع بقيادة الدراجات الهوائية، ثنائية العجلات أو رباعيتها، وكم كان مدهشًا أن نرى الفتيات، صغارًا وكبارًا، من العائلات المحافظة يتمتعن بما يصعب عليهن ممارسته في بلدانهن من حرية وحيوية بمنأى عن قيود العادات والتقاليد المجتمعية، بينما لا يرى أولياء الأمور في ذلك، وخلال السفر، عيبًا أو منقصة!
كل ما تبتغيه النفس حاضر في هذه البقعة من الجمال الكوني، تشرق الشمس صباحا على مشاهد تغتسل فيها الروح حدّ السكينة والتأمل، فالضباب يهبط من قمم الجبال كشلالات بخور تعطّر الفضاء بدهشة تتلاقى مع اللون الأخضر المحيط كسوار في معصم فاتنة، في هذه المساحة الجمالية المبهرة يمكن للسياح ممارسة شتى الرياضات، خاصة رياضة المشي حول البحيرة، ومنها إلى بطون تلك الجبال عبر امتداد مياه النهر وهو يضع على مساره مجموعة من الشلالات، وخلف كل شلال بحيرة، فسمّيت منطقة البحيرات السبع، وفي كل منها تفاصيل حكاية للوحة فوق ما يمكن وصفها بالطبيعية، تتبع أخرى بتفاصيل لا تحصى.
صعدنا، ما استطعنا، من تلك الهضاب المحيطة، وكلما التقطنا صورة قلنا إن هذه أفضل من سابقاتها، والمكاتب السياحية تحفّزنا للانطلاق إلى مباهج أخرى، فهناك السوق الشعبي، أو سوق مولوز، وفرن القرية، وبحيرة السمك، ومرتفعات السلطان مراد، ورغم أنه يوليو والصيف القادر على إذابة الحديد في منطقتنا الخليجية، إلا أن هذه المرتفعات تتحدّى زوارها بقسوة البرد، والمطر الذي لا يكاد يتوقف، لكن هناك من يقاوم، ناصباً خيمته، ومستمتعًا بحالة برد ممطرة لا يعرفها صيف بلاده.
المكان يتحدث بلسان خليجي مبين، العائلات المتناثرة على شتى مباهج البحيرة وما حولها، أو تلك التي تسير مجتمعة، تشير لهجاتها إلى منطقتنا، فيما تكمل اللوحة تلك المسميات المرفوعة على واجهات المطاعم، فهناك مطعم «مستر الكويت» وآخر «مستر السعودية»، بينما لا بد من الحضور اليمني عبر مطعم يقدم الأكلات الشهيرة من مندي وفحسة وغيرهما مما عرفته تلك الديار، وقد فاضت على جميع بلدان العالم تقريبًا، فحيثما ولّيت وجهي في بلاد الأرض وجدت مطعماً يمنياً، لكن الأكثر إثارة هو ذلك الشاب التركي، بلحيته التي أطلقها، وقد ارتدى الغترة والعقال ليقدم القهوة العربية وشاي الكرك مع صيحات يرى أنها «بدوية» فيما يغنّي كل حين مقطع الأغنية الشهيرة «يا نار شبّي من ضلوعي حطبك»، آوينا إلى مشروباته الساخنة، نستريح قليلاً من سطوة القهوة التركية، ويا للمفارقة... لم يكن إلا نصفه الأعلى يمثّل به علينا أنه بدوي!
لم نعد نشعر بغربة اللغة في هذه القرية كما في إسطنبول، حين كانت تأتي استجابتنا متأخرة لأن محدثنا يطلق في وجهنا كلماته التركية أولاً قبل أن يفطن إلى لساننا العربي فيغيّر وجهته إلى اللغة الإنجليزية، أو يتكلم بالعربية كونه من أبناء الضاد أيضًا، لكن فاض وطنه بمواجعه فجاء إلى هنا باحثًا عن لقمة عيش... وعن وطن بديل، ريثما يكتمل الربيع في بلاده، أو يعود هذا الربيع أدراجه حيث لم يكن إلا خريفًا أسقط الأوراق من قمم الأشجار، أخضرها ويابسها!
نستعيد الحكايات عن جماليات المكان، والإحساس بالأمان وكأننا بين أهلنا، في هذه الديار التركية، ولوحات الخالق تحيط بنا بحسن آسر، نتنفّسها بهاء ونقاء، حتى كدنا ننسى «كوفيد 19» لولا تلك الكمامة التي نتذكّرها أحيانًا فنضعها كقناع لا يلبث أن يبتلّ بفعل المطر، خاصة حينما أردنا أن نستعيد أكثر بهجة الطفولة بقيادة الدراجات، للمضي أكثر في تلك الشوارع الملتفة داخل الجبال، واكتشاف إلى أي قدر يمكن للنفس أن تحلق، حتى وهي تسير على الأرض، رغم أن ارتفاع المكان عن سطح البحر يبلغ أكثر من ألف متر، صعدنا ما يشبه منصّة على صدر جبال يطل على القرية وسحر البحيرة، أكثر من 400 درجة صعوداً لننعم برؤية علويّة جرّبنا سطوة سحرها في مقهى سنان بإسطنبول.
محفّزات لا تنتهي، تحت الرذاذ الناعم أحيانًا، بينما يختال الضباب هابطاً ليكسو الجبال حتى منتصفها، ويغدو لشلالات البخور معنى أقرب من أي وقت مضى.

كورونا: وإن عدتم تعود
اليوم الأخير في إسطنبول له نكهة البن العميقة، تجوال في السوق المصري، وفي مقابله قاومنا روائح السمك لنتخذ من مركب واسع فسحة نهارية في مضيق البوسفور، جولة رائعة لأكثر من ساعة بأقل من ثلاثة دولارات، رأيت فيها الضفاف على جانبي الزرقة كما لم أرها من قبل، لم تكن تختبرها جماليات الضوء وانعكاسها على بحر مرمرة والبحر الأسود، بل بدت كما هي على واقعها، بألوانها الحقيقية، وشموخها، قصر دولما بخشه، أو بهجة، وبجانبه المسجد، وبينهما المقهى الذي عرفت فيه أول فنجان قهوة تركية قبل عشرة أيام، حيث أول نهارات اللقاء بالمدينة.
استعدنا قصة «كورونا» من جديد، الشاب الذي جاء إلى غرفتنا الفندقية لأخذ «الفحص» بانتظار النتيجة بعد عدة ساعات، وقبل أن نقول وداعًا لموظف الاستقبال تسلّمنا منه تقارير خلوّ أجسادنا من إقامة «كوفيد التاسع عشر» فيه، وفي مطار مسقط توجّب علينا الوقوف من جديد أمام «فحص» آخر، وخرجنا من هذا المبنى بسوار إلكتروني يجبرنا على البقاء حبيسي منازلنا نحو أسبوع، كأنما ينتزع فرحة السفر من قلوبنا، يعاقبنا أننا سافرنا في الزمن «الكوروني»! ■

 

جامع تقسيم يشمخ في الميدان الشهير، مضفيًا مسحة روحية، بجوار كونه مركزًا ثقافيًا وفنيًا يقدّم الوجه الحديث للبلاد

 

لقطة عامة لمدينة إسطنبول من أعلى أحد الأبراج المشكّلة في طوابقها الأولى أكبر مجمّع تجاري فيها

 

مسجد ضولمه باهشة الذي أنشئ بأمر من والدة السلطان بزمي عالم، وبعد وفاتها انتهى البناء في عهد ابنها السلطان عبدالمجيد، وافتتح عام 1853م، ليشكّل التقاء حضارات في معماره، بالأسلوب الباروك والروكو والإمبراطوري

 

منطقة السلطان أحمد، عامرة بالحياة، حيث آلاف السياح يؤمّونها يوميًا لزيارة المساجد والمتاحف، ويبدو الجامع الأزرق قبلة المكان

 

متحف ضولما باغجه كما يبدو للسائرين على دروب الماء في طقس نهاري أخّاذ

الجوامع والأعلام التركية، تنتشر في تلال إسطنبول السبعة للدلالة على عمق الماضي، والنزعة القومية المؤكد عليها دومًا

 

حركة السفن السياحية وخلفها مطاعم السمك، وعلى التلة يبدو مسجد السليمانية منارة حيّة   

الصور بعدسة : عبدالله بن خميس العبري