الشاعر المغربي صلاح بوسريف: الزمن لا يكفيني لأنجز ما أريد

الشاعر المغربي صلاح بوسريف: الزمن لا يكفيني لأنجز ما أريد

صدر، أخيرًا، الجزء الثالث من أعماله الشعرية الكاملة عن دار فضاءات في عمان، وانتهى مؤخرًا من عمل شعري ضخم مكون من جزأين، أصدر العديد من المجموعات الشعرية، من بينها «فاكهة الليل»، و«على إثر سماء»، و«شجر النوم»، و«نتوءات زرقاء»، و«حامل المرآة».  له عدد من الكتب النقدية المهمة منها: «رهانات الحداثة»، و«أفق لأشكال محتملة»، و«نداء الشعر»، و«فخاخ المعنى»، و«قراءات في الشعر المغربي المعاصر»، و«مضايق الكتابة»، و«مقدمات لما بعد القصيدة». حصل على الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، ودرس إلى جانب الأدب التاريخ القديم في بغداد، هو رئيس سابق لاتحاد كتّاب المغرب فرع الدار البيضاء، وعضو مؤسس لبيت الشعر بالمغرب، وعضو في المنتدى العالمي للشعر. إنه الشاعر والناقد المغربي د. صلاح بوسريف، الذي كان لي معه هذا الحوار.

●  منذ صدور ديوانك الأول «فاكهة الليل» (1994) وحتى «ياااا هذا تكلّم لأراك» (2018)، ثمة تطورات حدثت. كيف ترى تجربتك الآن؟
- لا يمكن للشِّعر أن يكون كتابة على النمط نفسه، ولا على التصور نفسه، والرؤية نفسها، الشِّعر بطبيعته نهر متدفق، مياهه لا تقبل الاستقرار، بل هي مياه لا يمكنك أن تسبح فيها أكثر من مرة.
 الشاعر، إذا كان يكتب بوعي شعري، أو بالأحرى، له مشروع شعري ما، لا بدّ أن يعي ما يمكن أن يكون في شعره من تحوّلات، لأنه أصلًا، هو يعمل على الكتابة خارج الأنساق والثوابت، وخارج المُسَلَّمات، فالشِّعر، منذ «ملحمة جلجامش»، التي هي أول عمل شعري وصلنا، كان بهذا المعنى، وأنا، منذ «فاكهة الليل»، بَدَا ما أكتبه، وهذا كلام النقاد آنذاك، غير ما كان سائدًا في المشهد الشعري المغربي، وحتى العربي، لأنّني لم أغرق في الأيديولوجيا والصراخ، هذه كانت موضة الشِّعر بذلك الزمن، واستغرقت أكثر من جيلين من الشعراء العرب. أهم ما سَعَيْتُ إلى الخروج منه، هو الغنائية، أعني الصوت الواحد المفرد، والبناء الشِّعري البسيط، وهذا ما تجده في الديوان الأول الذي تأخرتُ كثيرًا في نشره، كما تجده، بصورة أوضح في «حامل المرآة»، الذي أعتبره النقلة الفعلية إلى النص الملحمي الشبكي المركّب، الذي امْتَحَى فيه الصوت الواحد، وباتت الغنائية فيه جزءًا من البناء المعماري للنص أو العمل الشِّعري. لم أمِلْ إلى البقاء في بناء «القصيدة»، وهو بناء، كما سبق أن سميتُه، مسكون، مُمْتَلِئ بشكل مسبق، في حين أن العمل في البناء الملحمي، هو عمل في أرض خلاء، أنت مَنْ عليك أن تعمل على وضع تصاميم بنائها، وفق ما تذهب إليه من معمار شعري. هذا هو ما يمكن، باختصار، اعتباره مسافة حقيقية فيما أكتبه اليوم، قياسًا بما كنتُ عليه من قبل.

أُرمِّم الفراغات
● هل لديك طقوس خاصة أثناء الكتابة؟
- مشكلتي، أنني أقرأ أكثر مما أكتب. القراءة تأخذ منّي وقتًا كبيرًا، لأنني أقرأ في أكثر من حقل، ولا أكتفي بالشعر، وهذا يتطلّب منّي أن يكون وقتي هو وقت قراءة. الكتابة عندي مبنية على سؤال، أو أسئلة، على موقف ورؤية، وليست كتابة باللغة فقط. الجميع يعرفون اللغة، لكن ليس الجميع يكتبون، وهذا يعني أن الكتابة هي مشروع فكري ونظري، ومشروع إبداعي، وأفق وطريق بالمعنى الهايدغري (نسبة إلى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي اهتمّ بمشكلات الوجود والتقنية والحريّة والحقيقة، وغيرها). إنني أعمل طوال النهار، أينما كنت، في بيتي، في المقهى، في القطار، في الطائرة، في السفر، وخلفية سيارتي هي مكتبة متنقلة. لا أعتبر أن الزمن يكفيني، لأنجز ما أرغب فيه؛ فأنا أُرمِّم الشُّروخ والفراغات التي تَحْدُث لي، بهذه الطريقة. لا أشاهد التلفزيون، إلّا نادرًا، أكتفي بأن أختلي بنفسي بين كتبي وأوراقي، وأعمل دون انقطاع، خصوصًا حين يكون الزمن كاملًا رَهْنَ يديَّ. ثم إنني شخص مُنظَّم في عملي، ولا أهمل أي شيء عليَّ القيام به، ولا أضيّع وقتي في اللقاءات غير المنتجة، التي لا يكون فيها عمل، أو حوار ونقاش يصبّان فيما هو ثقافي وإبداعي.

علامة فارقة
● قلتَ إن طه حسين هو كاتبك المفضل... لماذا؟
-  طه حسين، قرأته كاملًا، وأنا في مراحل التعليم الجامعي الأولى. وما زلتُ إلى اليوم أعود إلى قراءته بوعي آخر، وبنوع من المسافة النقدية. لقد جرَّنِي إلى ماضي الشِّعر العربي، وحبَّب إليَّ التراث، وأضاء ما كنتُ في حاجة إليه من طُرُق، كما نبَّهَني إلى المعرفة بالتاريخ، الذي لا يمكن الاقتراب من الأدب ومن الشِّعر دون معرفة السياقات التي منها تحدَّرت هذه الأعمال والنصوص والكتابات، وما تحتمله من أفكار ومشكلات. 
  طه حسين كان مؤثِّرًا في أكثر من جيل، وكان فكره ووعيه النقديان، بين ما تأثَّرْتُ به. علَّمَنِي السؤال والقلق، والشك، الذي سأعود فيما بعد لأُطالعَه في مصادره الأولى عند ديكارت، وعند بعض فلاسفة ما قبل سقراط. هو عندي إحدى العلامات الفارقة في ثقافتنا، لأنه خرج من التعليم والمعرفة التقليديين، لينفتح على العالم، وعلى الآخر، وعلى ثقافة هذا الآخر؛ الذي لا يمكن أن نتعرَّف على أنفسنا، دون التعرُّف عليه، والاقتراب منه، ومجاورته، وأيضًا محاورته.

عمل ملحمي أسطوري
● في عام 2018 حصلت على جائزة المغرب للكتاب فرع الشعر عن ديوانك «رفات جلجامش»... لِمَ هذا الديوان تحديدًا؟
- «رفات جلجامش» عمل ملحمي أسطوري، بناؤه شبكي مركّب، وهو عمل شعري لا علاقة له ببناء القصيدة، كما نعرفها في سياقها الإنشادي الغنائي. لهذا؛ فمن تَوَّجُوه، رأوا فيه استثناءً، ليس بالنسبة للأعمال التي كانت معه، بل بالنسبة للشِّعر المغربي والعربي، وهذا مهم جدًا، بالنسبة لي. والجائزة، عمومًا، هي اعتراف فقط، وهي نوع من إضاءة طريق ما في الكتابة والإبداع.

● لماذا لا تفضّل القراءة ليلًا؟
- منذ زمان، الليل بالنسبة لي، هو نوع من الاستعداد لنهار ثقيل، مليء بالعمل، وأنا كائن مبكر، أستيقظ في الرابعة أو الخامسة صباحًا، وأعمل إلى منتصف النهار، ثم أواصل العمل فيما تبقّى من اليوم، وهذا فيه عناء وإرهاق، مما يجعل الليل عندي لحظة استعداد لنهار آخر. الزمن بالنهار أوسع وأرحب، بعكس الليل، كم ساعة سنعمل في الليل، وذلك يكون على حساب الزمن البيولوجي الذي أحترمه، وأعتبره جزءًا من يقظة الدماغ، وعمله بصورة طبيعية. ثم ما الفرق، ولماذا بالضرورة العمل بالليل؟ فالليل فيه مهام أخرى، ينبغي ألّا نتخلَّى عنها ونتركها.

إعادة تفكير
● لكل شاعر مشروعه الشعري... فما مشروعك الذي تعمل عليه؟
- هو المشروع نفسه الذي اشتغلتُ عليه نظريًا ونقديًا في كتاب «حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر»، وفي «الشعر وأفق الكتابة»، وغيرهما من الكتابات النظرية المنشورة والمعروفة. وهو إعادة تفكير بناء الشِّعر العربي، بإبعاده عن البنية الشفاهية التي ظلّت تهيمن عليه، وإخراجه من بناء «القصيدة» إلى بناء الكتابة أو الشِّعر. الشِّعر ليس هو «القصيدة»، فالقصيدة هي أحد أنواع الشِّعر، لأنّ الشعر جامع أنواع.
أنا حين أستعمل مفهوم الكتابة، أعتبر أن على الشعر أن يوسع دوَالَّهُ، وألّا يبقى الشِّعر هو ما نقرأه من حروف وكلمات وجمل وصور، للبياض، للفراغ، لتوزيع النص على الصفحة، ما يمكن اعتباره دوَالّ شعرية، لا يمكن تفاديها، أو إهمالها، لأنّ قراءتنا في هذه الحالة ستكون ناقصة أو عمياء، تكتفي بالحبر والسواد، ولا تنبّه إلى الحذف والفراغ والبياض، ما يمكن أن يكون في النص من رسومات وأشكال هندسية.
 إذا عدتَ إلى «حامل المرآة» و«شرفة يتيمة» بأجزائه الثلاثة، وإلى «رفات جلجامش» و«ياااا هذا تكلّم لأراك»، والعمل الذي سيصدر قريبًا، وهو من جزأين، ستلاحظ أن ثمَّة أفقًا وطريقًا، هو ما يأخذني في الشِّعر، بعكس الصوت الواحد المفرد، الذي ظل مهيمنًا على الشعرية العربية منذ قرون. هل الغنائية والشفاهة قدرنا؟! 

موضة الرواية
● ثمة انتصار ملحوظ لأجناس أدبية بعينها كالرواية مثلًا. إلى أيّ مدى أنت قلِق على مستقبل الشعر أمام رواج الراوية؟
- أبدًا، وانتبه إلى أن أهم الروايات هي التي تختفي وراء الشِّعر، وأن كبار الروائيين الذين نقرأهم بإعجاب في الأعمال الكبرى، يدهم مبتلّة بماء الشِّعر، وكذلك طبيعة الرؤية التي تَحْكُم كتابتهم. الرواية اليوم هي موضة، وقد لعبت الجوائز والإعلام والجامعات العربية، والنقد، إضافة إلى الناشرين؛ دورًا كبيرًا في دعم انتشارها، قياسًا بالشِّعر الذي أهملوه وحشروه في زاوية ضيقة. لكن أغلب ما يُكْتَب اليوم باسم الرواية، لا علاقة له بها، فهو استيهامات، وأعمال ينقصها البناء، وتفتقر إلى رؤية حقيقية في تفكير العالم، وفي تفكير الكتابة ذاتها، حتى الأعمال التي تحصل على جوائز، تنطفئ في فترة وجيزة، وتُنْسَى. 
أما قوّة الشِّعر، فهي في وجوده معنا دائمًا، نحتاج إلى أن نعود إليه باستمرار، ولا نستنفده، وأنا، هنا، أتحدث عن النصوص والأعمال التي هي طُرُق ومشاريع جديدة مغايرة، وفيها اختراقات. ومستقبل الشِّعر، هو هذه الاستمرارية في الحياة، التي هي اكتشاف دائم، ودهشة دائمة، وهذا هو فرق المسافة بين الشِّعر اليوم، والرواية.

تحدّ صعب
● عملك الشعري «شرفة يتيمة»؛ هل يلخّص سيرتك الذاتية من حيث علاقتك بذاتك وبالبيئة التي نشأت فيها؟
- هذا العمل، هو سيرتي الذاتية، كتبتها شعرًا في ثلاثة أجزاء. ليس من السهل كتابة السيرة شعرًا، بعكس النثر. ففي الشِّعر، أنت تتخلَّى عن كثير من التفاصيل والجزئيات، وتختزلها في صور، ومجازات، وتعابير مكثفة خاطفة، يمكنك أن تقول فيها كل هذه التفاصيل. وهذا تحدّ صعب في الكتابة السيرية حين تُدْخِلُها إلى الشِّعر. أعتقد أنني استطعتُ قول ما عليَّ قوله في هذا العمل، وفيه بقي الشِّعر هو ما يحكم البناء، ويحكم الصور، والإيقاعات، والسرد والحوار، والتداعيات الحرة، والاسترجاع، وغيرها مما نحتاجه في عمل بهذا المعنى. فأنت تقول كل شيء، بكثافة واختزال، وبصور مثل البرق، يكشف فجأة ما يُحيط بك، ليُخْفِيه في الوقت نفسه.

أخطر انهيار
● حصلتَ على الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها عن موضوع الكتابة في الشعر العربي المعاصر، وتعتني باللغة في شعرك ونثرك وحديثك. لماذا أنت مشغول باللغة إلى هذه الدرجة؟
- مثلما أنت مشغول بالوجود، بالهواء الذي تتنفسه، وبه تحيا. أنا أحيا باللغة العربية التي هي لغتي، هي هوائي، وهي طريقة وجودي وإقامتي على الأرض. وأعني العربية التي بها أكتب، وهي غير العربية التي استقرَّت في المدرسة والجامعة. فحين تُزِيل هذه اللغة أو تقتلها، فأنت تزيلني أنا أيضًا وتقتلني. 
العربية كيان، وهي تعبير أنطولوجي عن وجودنا أنا وأنت، فكيف يمكن أن نترك هذه اللغة تتعرّض للهجوم، والرغبة في إبعادها عنّا، مقابل غيرها من لغات، هي لغات شعوب وثقافات وأمم أخرى. أنا لا أقبل أن ألبس أثواب الآخرين، لأنّ استعارة الألسن أخطر انهيار يمكن أن يصيب أمة من الأمم، أو شعبًا من الشعوب.

مراجعة المفاهيم
● الحركة النقدية لا تواكب ما يصدر من دواوين. أسباب ذلك من وجهة نظرك؟
- الشِّعر ليس مُتاحًا لأيّ كان، فهو مُتقَلِّب، فيه اختراقات بالبناء والرؤية والكتابة، وهذا يتطلَّب إعادة مراجعة المفاهيم والقراءات التي نذهب بها إلى الشِّعر، بمعنى؛ أن نُغيِّر وِجْهَتَنا بحسب طبيعة التجربة، ولا نبقى مُقِيمِين في الثوابت والمُسلَّمات، كما أشرتُ، وهذا لا يستطيع أن يقوم به ناقد ليست له معرفة، أولًا، بالنص، ثم بما يطرأ من تحوُّلات في النظريات والمفاهيم. لذا، بقي الشِّعر خارج المُتابعة والاهتمام، لأنه ينتظر ناقدًا، يقبل بتجديد نفسه، وبتجديد رؤيته، ومفاهيمه، والخروج من ماضي النقد كما كرَّسَه الستينيون والسبعينيون من النقاد الذين ذهب أغلبهم إلى الرواية، فرارًا من جحيم الشِّعر.
● على أي شيء يراهن الشاعر صلاح بوسريف؟
- أراهن على إقامتي الشعرية، وإقامتي في اللغة التي بها أكتب وأحيا، لأن الشِّعر، هو ما يطور اللغة، يجددها، ويُبدع فيها، لذلك؛ فالشِّعر له خطر كبير على بقاء اللغة، وعلى بقائنا نحن، لأنّ الشِّعر، هو شكل وجودنا على الأرض، مَنْ نحن، كيف نفكر ونتخيل، وكيف ننظر إلى العالم وإلى الوجود؟ ■