هل كتبَ محمود درويش قصيدةَ النثر؟ «المزامير» بين أمجد ناصر وعبدالمنعم رمضان... ودرويش يجيب
من الرفض الصارم لقصيدة النثر، والعداوة الشرسة مع شعرائها، إلى الرفض الليّن لها، والعداوة باستراتيجية «شَعرة معاوية» مع شعرائها، تتلخص معركة درويش مع قصيدة النثر، منذ بدأها بمقاله الشهير «أنقذونا من هذا الشعر» في مجلته الكرمل 1982، إلى حواره الشهير مع مجلة أخبار الأدب المصرية عام 1997، واصفًا قصيدة النثر بـ «جنس أدبي ما» ومع قناة mbc عام 1997، واصفًا شعراءها بالأصدقاء الذين يسعون إلى نفي وإلغاء قصيدته، ولا يحترمون خياره الشعري، والذين يشكّلون ميليشيات تمارس إرهابًا لا مثيل له، على حدّ قوله الضاحك، لصديقه الشاعر والناقد الفلسطيني د. عزالدين المناصرة.
هل كتب درويش قصيدة النثر؟ هذا السؤال يقع في بؤرة المعركة بين درويش وشعراء قصيدة النثر، لأنّ إثباته أو نفيه هو دلالة عميقة على طبيعة موقف درويش منها، وهو الذي رفض أن يكون من شعرائها حتى رحيله عام 2008، ودلالة على طبيعة نظر شعراء قصيدة النثر ومؤيديها من النقاد إلى موقف درويش.
وقد تصدى للإجابة عن هذا السؤال كثير من النقاد والشعراء، من أصدقاء درويش وأعدائه، لذا حرصنا على أن نرصد ونبحث عن إجابة للسؤال، من خلال الذين وصفهم بـ «الأصدقاء الأعداء» الذين يخافهم - تصريحه لـ «أخبار الأدب» المصرية - لأن رؤيتهم ستتحرى الموضوعية في الطرح، مما لا يضرّ البحث، والشاعران هما الفلسطيني أمجد ناصر في مقالته بـ «الكرمل»، والمصري عبدالمنعم رمضان في مقالته بمجلة الفيصل.
المزامير
نشـر الشـاعر قصيـدة «مزاميـر» فـي ديوان «أحبك أو لا أحبك» (1972)، وكانت تتشكّل من سبعة عشر مقطعًا، وبدت في الأعمال الكاملة عام 1996 مختلفة، فقد تكونت من اثني عشر مقطعًا فقط، خمسة مقاطع موزونة، وستة غير موزونة، ومقطع مقفّى من دون وزن، والمزامير المحذوفة هي: الثامن والتاسع والحادي عشر والثاني عشر والخامس عشر.
تبدأ مزامير درويش بهذه الأبيات:
أُحبُّكِ، أو لا أُحبُّك
أذهبُ، أترك خلفي عناوين قابلة للضياعْ.
وأنتظر العائدين، وهم يعرفون مواعيد موتي ويأتون.
أنت التي لا أحبُّك حين أحبّك، أسوارُ بابلَ
ضيّقَةٌ في النهار، وعيناك واسعتان، ووجهك
منتشر في الشعاع
كأنكِ لم تُولدي بعد. لم نفترق بعد. لم تصرعيني
وفوق سطوح الزوابع كلُّ كلام جميل، وكلُّ
لقاء وداع
وما بيننا غيرُ هذا اللقاء
وما بيننا غير هذا الوداع
كثير من النقّاد والشعراء اعتبروا المزامير أولى محاولات درويش مع قصيدة النثر، ومنهم مَن نفى ذلك، وهذا الموقف بين التأييد والرفض يتجلّى في رأيين مهمّين، لشاعرين من كبار شعراء قصيدة النثر عاصرا درويش، وكتبا عنه بعد رحيله.
أمجد ناصر: درويش سدٌّ منيع
لم يكن درويش شاعر قصيدة نثر، هذا معروف، بل لعله من أكثر شعراء الوزن والتفعيلة الذين ساجلوا، سلبًا وإيجابًا، شعراء قصيدة النثر. يمكن، أيضًا، أن يبدو للمنحازين إلى «الوزن» سدًا منيعًا، إن لم يكن أخيرًا، في وجه «طوفان النثر».
هكذا يبدأ الشاعر الفلسطيني أمجد ناصر مقالته «محمود درويش وقصيدة النثر»، المنشورة في العدد 90 من مجلة الكرمل، الذي أصدره أصدقاؤه، تلبية لرغبته التي لم يستطع تحقيقها، وهي أن يصدر العدد رقم 90 من مجلته، التي أصدر أول عدد منها عام 1981 .
في هذا المقال، يدلل أمجد على أن درويش كتب قصيدة النثر، بادئًا باستهلال درويش لديوانه «كزهر اللوز أو أبعد»، ومقتبسًا مقولة أبي حيان التوحيدي: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم»، ويرى أن هذا الاقتباس هو اقتراب مقصود من درويش تجاه قصيدة النثر، حتى وإن لم يكن في الكتاب «شبهة نثر واحدة» لعلّه كان يمهّد لنقلة محتملة لا يريدها أن تفاجئ متلقّيه ونقاده الذين اعتبروه «حارس الوزن» - على حد قوله - ويصل في نهاية المقالة إلى استنتاجه الشخصي بأن درويش كتب قصيدة النثر في اليوميات: «اليوميات»، هنا، ليست يوميات بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. سبق لدرويش أن كتب يوميات ونشرها في «الكرمل»، لكنّها لا تشبه هذه «اليوميات» التي تتّشح بكل مواصفات قصيدة النثر كما هي عليه عند الموجة الجديدة من شعراء قصيدة النثر الأمريكية: البنية اللغوية المُحكمة، والسطر الطويل، بل الكتلة الطباعية العريضة على الصفحة، الحادثة العادية، أو التأملية التي لا تقصد إِخبارًا بحد ذاته وإن انطوت على إخبار ما، التخفّف، ما أمكن، من عبء البلاغي والغنائي، التوتر الداخلي الذي يصنع عصبًا يشد الكلام بعضه ببعض، الإيقاع العريض ولكن المضطرد.
رغبة في التجريب
ثم يصل ناصر إلى التأكيد - حتى وان كان حدسًا -: «إنها، في زعمي، قصائد نثر تقتفي السجال الذي خُضناه في السنين الأخيرة حول شكل قصيدة النثر ومضمونها. كان درويش يتابع هذا السجال. أنا أعرف ذلك من خلال أكثر من حديث معه. ربما أخذ على هذا السجال «تشدده»، لكنّه كان يتابعه. ليس لديّ «برهان» مادي ملموس على تأثُّر درويش بهذا السجال الذي قدّم «نماذج» و«تطبيقات» لقصيدة النثر الحقيقية على صفحات الصحف. «ذلك مجرد حدس، هذا ليس مهمًا بالطبع، ما يهمّ، بالنسبة لي أن درويش لم يكن ممكنًا أن يكتب هذه «اليوميات» لولا رغبته في تجريب كتابة قصيدة النثر من دون أن يقول إنه يكتبها، خصوصًا، في ظل ما هو شائع عنه: العداء لقصيدة النثر»، على حد قول ناصر.
لكن ماذا كتب ناصر في هذا المقال عن مزامير درويش، موضوع بحثنا؟ لقد عرض وجهة نظره من القصيدة، وما ذكره بعض النقاد عن أنها أولى محاولات درويش لكتابة قصيدة النثر، حتى وإن لم يعلن، وذلك من خلال رفض ما طرحه الناقد السوري صبحي الحديدي في هذا الشأن، وهنا يقف ناصر موقف النافي أن تكون المزامير احتوت نثرًا لدرويش، كما قال الحديدي: (... هناك من يعتبر البداية أقدم بكثير: في «المزامير» التي تضمّنها ديوانه «أحبك أو لا أحبك») بحسب الحديدي. لا أميل إلى رأي صديقي الناقد الفذّ لسبب بسيط: «قصائد» المزامير النثرية هي أقرب شيء إلى ما نسمّيه «النثر الشعري»، وليست قصائد نثر بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. تحديدًا، كما هي عليه في المدوّنة الشعرية الغربية الأوربية والأمريكية، القصيدة في أصلها، مصدرًا لغويًا وممارسة أيضًا، قصد، توجّه واعٍ، ممارسة داخل حقل وبنية. هذا ما يعنيه اسمها في العربية. وبذلك قد لا يتشابه اسمها عربيًا مع أي اسم آخر لها في الشعريات التي نعرفها. المصدر اللغوي لـ «قصيدة» في العربية يرجع، كما نعرف، إلى «قصد»، أي «توجه».
عبدالمنعم رمضان: شعر يثير الحيرة والارتباك
«محمود درويش... أشهر شاعر للأسف»، هذا عنوان مقال رمضان، في عدد مارس عام 2016 من مجلة الفيصل، وهو يعترف في بداية المقال بأن عنوانه تقليد مقصود للعبارة الفرنسية التي تمنّى أن تكون شائعة «فيكتور هوجو أشهر شاعر فرنسي للأسف».
وفي هذه المقالة، وهو يحتفي بدرويش، تحدّث عن الأفضل والأسوأ الذي تركه لنا درويش «ما نعرفه الآن أن أجمل ما تركه لنا محمود درويش هو شعره، وهو شعر قد يصيب محبّيه إذا عكفوا عليه لاختيار أفضله، قد يصيبهم بالحيرة والارتباك، وأسوأ ما تركه لنا درويش هو نقّاده الذين جهلوه مرات، والذين تواطأوا على الحفاوة به مرات أكثر».
لقد ولج رمضان في مقالته إلى مزامير درويش من خلال الحديث عن ديوان «أحبك أو لا أحبك» الذي تضمّنها، ولوجًا مغايرًا، لغيره من النقاد أو الشعراء، لقد ولج إليها من باب الشفاهة «قرأت شعر درويش؛ كانت دواوينه الستة الأولى ظاهرة السذاجة، ظاهرة الابتداء، وإن امتلأت ببذور وجذور وطرائف، وأيضًا ببعض أخطاء في العروض واللغة، هذه الدواوين تضع الخط الواضح عند قراءة درويش، لا بدّ أن تنتبه لشروط الصوت، متى تقف، ومتى تستمر، شعر درويش الذي يستند إلى الموسيقا، يضيع إذا قرأه وأهمل صوته هؤلاء الباحثون عن المعنى، جرّبت أن أستمع إلى قراءات بعض نقاده المفتونين، فاكتشفت أنهم لا يراعون أهم خصائصه، شفاهة درويش يقينية مثل فلسطينيته، في الديوان السادس «أحبك أو لا أحبك» الصادر سنة 1972، أي بعد خروجه من حيفا، واصطدامه، وجهه وفمه وجسده ولسانه وماء عينيه، بالقصيدة الحديثة آنذاك، والتي شاعت في بيروت، وامتدت منها إلى العواصم كافة، أعني قصيدة النثر».
المزامير
ثم ينتقل رمضان إلى المزامير، مؤكدًا احتواءها لقصيدة النثر بعكس ما رأى أمجد ناصر: «يجب ألا ننسى أن درويشًا بدأ وظل سريع التأثر بما يقرأ، سريع الاستجابة؛ لذا اشتمل الديوان على المزامير التي جاء أغلبها على هيئة قصيدة النثر، ولأنه بدأ وظل شديد الذكاء والفطنة، وأدرك أن هذه القصيدة ليست أرضه، وأنها حتى ليست منفاه، فامتنع عنها نهائيًّا، وعاد ليتشبث بغنائيته».
إن موقف رمضان هذا الذي يتضاد مع رأي ناصر، لا يقف عند إقراره بأن المزامير تضمّنت قصيدة النثر، بل إنه ينفي ما توصّل إلى ناصر، بأن ديوان درويش «أثر الفراشة» هو الدليل على أنه - أي درويش - كتب قصيدة النثر، وأن الديوان ما هو إلّا نافذة على قصيدة النثر، فيقول رمضان: «نعرف أنه حارب على استحياء قصيدة النثر، نعرف أنه لم يكن يحب المواجهة، كان يتفاداها، في أواخر عمره، كتب «في حضرة الغياب»، و«أثر الفراشة»، كتبهما تحت تسميتين: نَصّ، ويوميات، وقصد بهما أن يكونا نافذة على قصيدة نثره، ولا أقول قصيدة النثر، فالخمر في كتابَيه هي الخمر في غيرهما، وماء الشعر فيهما هو ماء الشعر في غيرهما، إنهما شعر عَروضي تخلّى عن الوزن وأبقى على بقية العناصر، حتى الموسيقا ظلّت رغم غياب العروض».
درويش يجيب
«أحب النثر أكثر من الشعر»، «أحب النثر وأمجّده»، قولان لدرويش يوضحان موقفه من النثر كجنس أدبي، لذا لا يمكن القول إن موقفه من قصيدة النثر، هو تجسيد لفوقية شعرية تجاه النثر، فهو القائل: «النثر جنس أدبي نبيل جدًا، وأرستقراطي»، وإنما هو دفاع عن خياره الشعري، هو القصيدة التي لا تشبه قصيدة النثر، لأنه يرفض مسمى «قصيدة التفعيلة» بصرامة ساخرة، ويتعجب من الأصدقاء الأعداء الذين يصفونه بشاعر التفعيلة!! «في يوم وليلة صحيت لقيت نفسي شاعر تفعيلة»!! (من حواره مع الـ «MBC»).
لا يمكن أيضًا اعتبار موقف درويش من قصيدة النثر، سببه الهوس بالوزن الشعري، فهو القائل: «الأوزان لاحقة للقصائد، والعروض عِلمٌ لاحق للشعر»، لذا ليس من المستبعد نظريًا أن يكتب درويش قصيدة نثر، لكن هل كتب؟
في حوار درويش مع نشوى الرويني في قناة MBC التلفزيونية عام 1997، نفى أن يكون كتب قصيدة النثر، عندما قال: «وأنا شعري الموزون يمتص قصيدة النثر، إذا كان بَدّنا نقول إن قصيدة النثر هي طريقة تناول وطريقة نظر الأشياء وطريقة سرد، سرد ماكر لصرامة الحالة الكثافية الشعرية، فأنا شعري كله يحمل هذه العناصر، وأحيانًا شعري الموزون قد يخفى على بعض شعراء النثر، فيظنونه منثورًا أحيانًا».
لكن في نهاية الحوار التلفزيوني نفسه، سُئل درويش من قِبل الشاعر والكاتب أنطوان رعد عن تفسيره لبعض النشوز في مجموعة «لماذا تركت الحصان وحيدًا؟» وكانت إجابة درويش المقتضبة، نظرًا لضيق الوقت المتاح له، حيث كان البرنامج في نهايته «لا، شوف، تنشيزًا دي إذا كان فيه تنشيز، هو تنشيز بصري، بس عندما تقرأ النص كله، أنا أحاول أن أتقدّم،... هو قائم على البنية الإيقاعية الكلاسيكية الكاملة، لكن أنثر لكي أعطي فيه شوية إحساس باليومي والمعاش والخروج من الغنائية بمعناها الصارم».
أظن أن الإجابة التي تحصّل عليها الكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي في حوار مع درويش، منشور في مجلة الشعراء الفلسطينية، ربما يكون أكثر وضوحًا في تحديد رأيه بتجربته مع النثر في قصيدته المزامير، فيجيب درويش: «هذه التجربة التي تتكلم عنها جزء من مجموعة مزامير حاولت أن أستحضر فيها أبعاد التراث المزموري، وأقدّم حنينًا فلسطينيًا في حواره مع حنين توراتي، وهذا يقتضي أن تتحاور مع نصوص موجودة هي المزامير.
إذن هناك مرجعية جاهزة، مهما كانت مصداقيتها التاريخية، أي أدبيًا أو ثقافيًا، على الأقل هناك مرجعية، وهذا اقتضى التشكيل بين القصيدة الغنائية والنثر، ليست كل التجربة نثر، بل هي تشكيل، وبعد أن مرّت سنوات على هذه التجربة، لم أجد أنها نجحت، فكانت عبارة عن خواطر سجّلت نثرًا، وسط عمل شعري بالمعنى الإيقاعي، أنا لا أحاكمها بجدية، ولا أعتبرها محطة أساسية، بل مرحلة تجريبية» ■