صورة المرأة في شعر أبو ريشة من النواحي الاجتماعية والوطنية والعاطفية

صورة المرأة في شعر أبو ريشة  من النواحي الاجتماعية  والوطنية والعاطفية

لا شك في أن الشعر العربي اهتمّ بالمرأة اهتمامًا بالغًا، فتنوعت الاتجاهات العاطفية، واختلف الشعراء في أهدافهم ومراميهم. ولا شكّ في أن «دائرة الأغراض الشعرية قد اتسعت في العصر الحديث، نظرًا إلى اتساع الثقافة والاطلاع على الآداب العالمية، والفكر الغربي، والتأثر ببعض الشعراء الغربيين». وعمر أبو ريشة شاعر عصري خصّص أكثر من نصف ديوانه بقليل في المرأة التي نظر إليها بعين سينمائية خاصة وخيال مجنّح، وحاول استكناه عواطفها بعيدًا عن وصف مفاتنها الجسدية وتحريك الغرائز البشرية، فانتقل في لوحاته من كريمة إلى كريمة، ومن شقية إلى شقية، حتى بدا مجدّدًا في قصائده، ومميّزًا في أسلوبه وطريقته تجاه المرأة التي تناولها كقضية إنسانية اجتماعية، ووطنية قومية.

 تغزّل أبو ريشة بالمرأة من دون أن يجرح مشاعرها أو ينتقم؛ هذا إضافة إلى أنه كان يمتلك الأوزان كالعصفور المتنقّل بين الأغصان، مما جعل لشعره لحنًا عذبًا، لا يتذوّقه إلّا أصحاب الذوق الرفيع والحسّ الرهيف.
فعلى الصعيد الاجتماعي مثلًا، صوّر الشاعر فتاة الصليب الأحمر التي تقوم بعملها من أجل إنقاذ حياة الآخرين والسهر على راحة المرضى والمصابين، حيث تمنحهم الابتسامة اللطيفة التي تبعث في روحهم الانتعاش، فقال:
كم في ابتسام الفجر من أسرارها
    نُعمى ترفّ على الحياة وتزهر
ولّت كما ولّى الربيع فسرحــــة
    صفراء باقية وأخرى تكـــسر
ما للّيالي الخُرس ليس يســـلّها
    من صمتها إلّا النشيج المسعر
وصوّر أبو ريشة كذلك المرأة المظلومة في المجتمع من رجال الدين والأغنياء والأزواج، حتى دافع عن البغاء في بعض الأحيان، ففي مسرحية الطوفان تحدّث الشاعر عن فتاة وُلدت حرّة طاهرة، لكنها تيتمت في صغرها، والدهر أساء إليها، إذ لم تجد مَن يمدّ لها يد العون والعطف والمساعدة، ولم تجد مجتمعًا يرعى ذلك البرعم المتفتح على وجه الأرض، فداس عليه بأرجله، فقال على لسانها:

أيعفو الله عن ذنب
    عليّ الدهر قد جرّه؟
وُلدتُ كما يشاء الطهر
    في مهد النُّهى حرّه
ولكن قد سقاني اليُتم
    من كأس الملا مرّه
هي البشرية الخرقـا
    ءُ كم داست على زهره

وعلى الصعيد الوطني والقومي كان لعمر محطات تاريخية في المسألة الفلسطينية. ففي قصيدة «بعد النكبة» هاجم المسؤولين الذين قصّروا في واجباتهم وباعوا القضية، مصوّرًا حال البنات المشرّدات المستنجدات بـ «معتصم جديد»، لكنّ هؤلاء المسؤولين لم ينبض لهم عرق نخوة أو تتحرك ضمائرهم أو تهتز بنادقهم، فخاطبهم قائلًا:
ودعي القادة في أهوائها
    تتفانى في خسيس المغنم 
ربّ «وامعتصماه» انطلقت
    ملء أفـــواه البنات اليُتَّم
لامست أسماعهم لكنها
    لم تلامس نخوة المعتصم

وفي قصيدة «في طائرة» التي نظّمها بعد رحلة إلى تشيلي، حيث كانت تجلس إلى جانبه حسناء إسبانيولية، وراحت تحدّثه عن أمجاد أجدادها العرب القدامى دون أن تعرف جنسيته، إنه شعَرَ بحماستها وإبائها وتمسّكها بمبادئها وعاداتها القيّمة؛ لأنه كان يحمل في طياته ذلّ النكبة وعار الهزيمة التي حلّت بالعرب، فقال:
وأجابت: أنا من أندلس
    جنّة الدنيا سهولًا وجبالا
وجدودي ألمح الدهـر على
    ذكرهم يطوي جناحيه جلالا
بوركت صحراؤهم كم زخرت
    بالمروءات رياحــًـا ورمالا
حملوا الشرق سناء وسَنَى 
    وتخطّوا ملعب الغرب نضالا
فنما المجــــد على آثارهم
    وتحدّى بعدما زالوا الزوالا
هؤلاء الصِّيد قومي فانتسب
    إن لم تجد أكرمَ من قومي رجالا 
أطرق القلب وغامت أعيُني
    برؤاها، وتجاهلتُ الســــــؤالا 
ولقد سما الشاعر على الصعيد العاطفي بغزله حتى صوّر المرأة ملاكًا بشريًا طاهرًا يأنف أن يدنّسه أحد، فقال:
والطُّهر حارس خدرها جاثٍ على
    أقدامها كالفارس المســتلئم
 والسحر كاهن ديرها يقرأ لها 
    ما في حقيبة علمه من طلسم
هذي ملاك الحب هذي بسمة
    لمعت على ثغر الزمان الأقتم   

وفي لوحة أخرى صوّرها مصدر هداية وسبيلًا إلى الإيمان والسعادة، كما أن الكون بأسره صار يضحك ويتطرّب بالقرب منها، فقال:
عرفت بك الله بعد الضــــلال
    فدلّ البديعُ على المُبدع
فأصبحت نجوى الهنا في فمي 
    وسرّ السعادة في أدمعي
أغنيك حبّي وهذا الوجــــود
    ضحوك الثنايا يغنّي معي
  
ورأى أبو ريشة أن المرأة هي الهدف الأسمى والمثل الأعلى والأمل المنشود في الحياة، إنها أسنى من النجوم، إنها المرأة، فقال:
لست نجمًا كما ادّعوا
     في الأفق عاف مخبأه
أنت أسنى من السّنا
     أنت في الأرض امرأة

ولا أحد ينكر أن أجواء الرومانسية سيطرت على معظم قصائد الشاعر، وخصوصًا عندما راح يكبر في السن، فقال لإحداهن بعد أن هجرته وعادت إليه:
عُدتِ لي؟ يا طولها من غربة
     خدر الصبر بها والألم 
كيف ألقاك؟ وهل يرضيك أن
     يتعرّى جرحي الملتئم؟
أمنياتي ذهب الماضي بها
     وخيالاتي طواها العدم
وبقــايا ذكريــاتي تعبـــت
     فهي لا تبكي ولا تبتسم

وفي الواقع أن الكلام عن أبي ريشة يطول ويطول، لكن مــــا نراه في شعـــره هو صورة راقيـــة للشعر النسوي، وخصوصًا الغزلي منه. فهو لم يجرح مشاعرها أو يعرّيها أو يحقد أو ينتقم، ولم يَغْو كغيره من الشعراء بالوصف أو الإغراق في الإباحية، بل أثبت أن لديه رؤية خصوصية في الحياة، تبلورت في أحكامه التي وظّف من خلالها ثقافته المتنوعة وأخيلته المجنحة، فأبدعت صورًا شعرية أخّاذة خلابة، عكست لطفه ودماثته في معاملة المرأة ورفع شأنها وإثبات دورها الرسالي والريادي في المجتمع ■