سيرفانتيس و«دون كيخوتي دي لا مانشا» لعبة الأصل والظلال

سيرفانتيس و«دون كيخوتي دي لا مانشا»   لعبة الأصل والظلال

ميغيل دي سيرفانتيس مؤلف وأديب إسباني ذاع صيته وراج اسمه إلى درجة اعتبره البعض شخصية روائية؛ أو شخصية متخيلة ربما تكون قد تسللت من الرواية الشهيرة «دون كيخوتي دي لامانشا»، في حين أنه هو من وقَّع وأبدع هذا العمل العلامة في تاريخ الرواية والأدب العالميين.  عرفت حياة دي سيرفانتيس انعطافات عدة ومطبّات ولحظات زهو قليلة وتجارب رهيبة، كانت كفيلة، بالفعل، بأن تجعل منه شخصية روائية جذابة.

وُلد سيرفانتيس عام 1547 في بلدة صغيرة قرب العاصمة الإسبانية مدريد، تسمى ألكالا دي إيناريس، وهذا الاسم هو تحريف لاتيني لكلمة القلعة، مما يدلّ على مرور العرب من هناك في فترة من الفترات التاريخية، وقد نعتبر ذلك إشارة مبكّرة إلى أن سيرفانتيس سيعيش تجربة من نوع خاص بفضاء عربي إسلامي.
كانت بلدة ألكالا هذه إحدى أهم المدن الأوربية في القرن السادس عشر، وبها توجد، إلى الآن، جامعة كومبلوتينسي الشهيرة، وبها تابع سيرفانتيس دراسته، كما درس في إشبيلية ومدريد، وكانت إسبانيا حينذاك تعيش لحظة مجد وتوسُّع، أو ما كان يُعرف بالقرن الذهبي الذي جعل من هذا البلد الإيبيري مرجعًا في الآداب والعلوم وعلوم اللاهوت والاكتشافات الجغرافية، إذ برزت وقتئذ أسماء لامعة في مختلف المجالات المذكورة، مثل لويس دي كونكورا، وفرانسيسكو دي كيفيدو، ولوبي دي فيكا، وفيلاسكيز، وسيرفانتيس نفسه.
ترعرع سيرفانتيس في أجواء تسودها روح المغامرة والمنافسة، حيث كان الجند الإسبان يعودون غانمين من إيطاليا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، مستمتعين بامتيازات مادية ووجاهة أكيدة. وكان مَن لا يسعى إلى المجازفة ويقبل بالحياة السهلة يُعتبر خانعًا ومستسلمًا.
كانت وجهة سيرفانتيس الأولى هي إيطاليا، حيث تنقل بين روما والبندقية ونابولي، بحثًا عن حصته ونصيبه من الشرف والمجد، وشارك في معركة ضد الأتراك عُرفت بمعركة ليبانتو، وهي إحدى أكبر المعارك البحرية في التاريخ، وكان النصر فيها حليف مملكة البندقية، لكنّ سيرفانتيس أصيب إصابة بليغة في ذراعه، ليستحق عن جدارة لقب «أكتع ليبانتو»، وليَعْبر تجربة أليمة ومريرة خبر فيها معاني العجز والهوان. وكأن ذلك لم يكن كافيًا، فقد أُسر، وهو في طريق عودته إلى إسبانيا عام 1575، من طرف قراصنة جزائريين، وسُجن بأحد سجون الجزائر خمس سنوات كاملة.
 
أسير زاده الخيال
كان سيرفانتيس أسيرًا زاده الخيال والملاحظة الثاقبة، وأتيحت له خلال تجربة الاعتقال القاسية فرصة أن يتأمل حالات يتأرجح فيها الكائن الإنساني بين الكبرياء والبؤس، بين الثقة بالنفس والخضوع المهين، ليصبح السجن بالنسبة له بوتقة لحكايات مذهلة وفضاء لتفتّق العبقرية. وحين رجوعه إلى الوطن، صدمته اللامبالاة التي استُقبل بها من طرف مواطنيه، وكأنه لم يعش كل تلك الأهوال والفجائع، فلجأ، وهو حزين، إلى الكتابة والأدب، وأبدع في الشعر والمسرح، وبدأ اسمه يلمع في المنتديات الثقافية بمدريد. 
كانت زوجته الرائعة كاتالينا دي بالاسيوس سنده الدائم وغير المشروط في كل وقت وحين. ولضمان قوت يومه، انتقل سيرفانتيس للعمل جابيًا للضرائب بإقليم الأندلس، وهناك سجن مرة أخرى بتهمة تزوير وثائق رسمية. وبذلك السجن الثاني، تقوّت مهاراته التخييلية أكثر، وتخلّق معظم أعماله الإبداعية.
بعد ذلك، وقد تجاوز سيرفانتيس سنّ الخمسين، استقر مجددًا في مدريد، وقرر التفرغ للكتابة، وتوزعت إبداعاته بين الرواية والمسرح والشِّعر، إلى أن شرع في كتابة عمله الخرافي «دون كيخوتي دي لامانشا»، الذي أخذ منه وقتًا وجهدًا كبيرين. وقد استلهم في كتابته تجاربه بالحرب والسجن وفي التعامل مع الناس البسطاء، مما جعل شخصيات هذا العمل تضجّ بالحياة والعنفوان والصدق، خاصة أنه اعتمد لغة سهلة ومتداولة ومباشرة، وفيها الكثير من الشاعرية والمكر. 
وقد نُشر «دون كيخوتي دي لامانشا» في بداية القرن السادس عشر، وحقق نجاحًا باهرًا في المبيعات وفي الطبعات المتوالية. وهنالك من حاول «السطو» على فكرته وعوالمه، لكن سرعان ما نشر سيرفانتيس الجزء الثاني من روايته، وعادت الأمور إلى سابق هدوئها. ومع ذلك عانى كاتبنا العوَز، واشتغل بحِرَف ومهامّ منهكة ما كان يطيقها. ومات وهو يشعر بالحُرقة، معاندًا، ليتم الاعتراف بوضعه الاعتباري كمبدع، وهو الأمر الذي تم بعد رحيله، إذ أُعليَ من قيمته ومن قيمة «دون كيخوتي دي لامانشا»، التي اعتبرها القراء والنقاد والخبراء أفضل رواية كُتبت على مر العصور. 

عالمٌ موازٍ
كان سيرفانتيس يريد أن يُضحك الناس من مغامرات بطله دون كيخوتي ومرافقه القروي البسيط سانشو بانشا، لكنّه كان يدرك بأن ذلك الضحك يخلّف مرارة، مردّها إلى أن القراء يتفطنون إلى أن الشرفاء هم طرف في معارك يعرفون منذ البدء أنهم سيخسرونها، لذا، فإن دون كيخوتي خلق عالمًا موازيًا للعالم القائم، كان يحلم بأن يتحقق فيه العدل والمساواة، وبأن تسوده قيَم نبيلة إلى درجة أنه أصبح أسير استيهاماته وتهيؤاته وتأثّره بقراءاته لروايات الفروسية وعدم تمييزه بين ما هو واقعي وبين ما هو متخيّل، سواء حينما كان يتجول دون وجهة محددة، رفقة سانشو، بقرى لامانشا وطرقها المغبرة، أو حينما تعلّق الأمر بطواحين الهواء التي اعتبرها دون كيخوتي عمالقة ينبغي مواجهتهم، أو قطيع الغنم الذي تعامل معه بعدوانية، باعتباره جيشًا عدوًا، أو بائعات الهوى اللواتي أصبحن، في رمشة عين، أميرات متمنعات.
عاد دون كيخوتي بعد مغامرات فاشلة عدة وإخفاقات باهرة إلى بلدته ليسترجع كل ما حدث له، وليموت بهدوء بعد أن توقّف عن قراءة روايات الفروسية اللعينة التي تسببت له فيما يشبه الجنون، وبعد أن حارب السراب ولم يتردد في مواجهة رتابة العالم وتفاهة الحياة اليومية، دون أن يعي أن زمن الفروسية والفرسان قد ولّى، وأن صورته كمصارع من أجل الحقيقة أصبحت مدعاة للسخرية، ولتصبح رؤيته للعالم أحيانًا رؤية مأساوية لا تجد حلًا للمعضلات التي تواجهها، فيلجأ إلى الانتقال بهوس من مكان إلى آخر فيما يشبه فيلم سفر road Movie، وليهذب جنونه ويعلن عدم خشيته من الموت.

بطل إشكالي
إن دون كيخوتي، إذا ما استعرنا تعابير منظر البنيوية التكوينية لوسيان غولدمان، هو بطل إشكالي يسعى للإجابة عن أوضاع محجوزة، ويجد نفسه بحكم نوعية القيم التي يحملها أمام أوضاع ورهانات لا تُحل ولا يستطيع إزاءها أن يتخذ وعيًا واضحًا ودقيقًا، لأنّ الرواية هي بالتحديد، كما يؤكد غولدمان دائمًا، «قصة البحث المنحط عن قيم أصيلة في عالم منحط هو الآخر». ودون كيخوتي كان بالفعل يبحث عن قيم مغايرة للقيم التي كانت سائدة ورائجة، لكنّه اصطدم في معظم تجاربه ومحطات مغامراته المتفردة بجدار سميك من التوجس والانغلاق. إن هذه الرواية تعلن عن ميلاد عالم جديد، عالم حديث بقيم حديثة، عالم يُعلي من قيمة الفرد وقيمة الحرية، عالم كان قيد التشكّل. 
وبهذا المعنى، فـ «دون كيخوتي دي لامانشا» هي رواية حديثة قبل الأوان، رواية متعددة الأصوات تؤزّم روايات الفروسية وتتهكم منها، رواية مرحة، تكره التجهّم، متبنيّة مفهوم اللعب، وجاعلةً منه مكونًا أساسيًا من مكونات العملية الإبداعية. كما تعمّد سيرفانتيس خلق قدر كبير من الالتباس، باعتماده تقنية التضعيف، حيث يخبر قراءه بأن «دون كيخوتي دي لامانشا» ما هي سوى ترجمة لمخطوط عثر عليه مكتوبًا بالعربية من توقيع كاتب موريسكي أو مغربي يدعى Cide Hamete Benengeli، وهنا نعود إلى مسألة تمت الإشارة إليها في البداية، وهي العلاقة الرمزية اللافتة للانتباه التي ربطت سيرفانتيس مع العالَمين العربي الإسلامي، وهي علاقة مبنية على المصادفة، مجسّدة في القبض عليه من طرف قراصنة جزائريين وقضائه سنوات طويلة بمعتقل جزائري.
إن هذه الرواية، بمستوياتها الغنية المتداخلة وبجرأة طروحاتها الفكرية واقتراحاتها الجمالية، ولكونها كتبت بحُريّة لا تعترف بحواجز الأنواع الأدبية، تعد عملًا عبقريًا تعددت قراءاته وتباينت تأويلاته، وتجمع بين شخصيتها الرئيسية دون كيخوتي ومؤلفها سيرفانتيس بعض السمات، مثل العناد والتشبث بالأحلام والتعرّض لكثير من الإحباطات وصفعات القدر. كما أنها رواية أرخت بظلالها على مجموع الأعمال الأدبية الحديثة وأصبحت أصلًا استحضره العديد من المبدعين واستلهمه السينمائيون والمسرحيّون والتشكيليون، ونسجوا على منواله وجعلوا منه نصًا عابرًا للقرون والثقافات ■