تراثنا النقدي والسياق الحداثي تشكيل النّص وفاعلية القارئ

تراثنا النقدي والسياق الحداثي تشكيل النّص وفاعلية القارئ

يَعتبر إيزر أنّ أصل نظرية التّلَقّي ينبني على عنصرين أساسيين؛ أوّلهما أن الدّلالة الشِّعْرية لا تُتصور خارج المركب، فيقول: «مادامت الدّلالة لا تنجلي من خلال الكلمات، وما دام مسلسل القراءة لا يمكن أن يُتصور في مطابقة العلامات اللّسانية المعزولة، فإنّ المجموعات الشّكلية (أو المشكّلة) هي التي تجعل فهم النّص ممكنًا»؛ وثانيهما الفصل بين الرّسالة كغرض والرسالة كمَعْنى شعري، إذ يقول: «إن عدم فقدان القدرة على التواصل ظاهرة صحية في النصوص الأدبية. فكثير من النصوص تستطيع أن تتكلم وإن ماتت رسائلها ولم يعد لمعناها أية أهمية».

 

لا بدّ أن نستحضر، هنا، أن من أهم المبادئ التي قامت عليها تصورات عبدالقاهر الجرجاني:
أولًا: لا يمكن الحديث عن البلاغة أو الشِّعْرية إلّا في نطاق النّظم (التّركيب). 
ثانيًا: المحتوى أو الغرض يعتبر عنصرًا جزئيًا وثانويًا جدًا في إثارة الشِّعْرية.
ومن ثمّ لا يمكن تلقي النّص جماليًا، اعتمادًا على هذا الجزء منه. وهكذا يلتقي الجرجاني مع إيزر في تأكيد ضرورة خلق فضاء للتّلقي انطلاقًا من النّص في عملية التفاعل أثناء القراءة، فليس المَروم من التحليل النّقدي مثلًا ـ كقراءة ـ كشف مفهوم الغرض في النّص، لأنّ ذلك لا يعبّر عن الواقعة الشِّعْرية نفسها، وهي مَرْبِطُ الحديث، ولا يدخل في هموم التحليل البلاغي الواعي، لأنّ الغرض لا يعدو أن يكون سياقًا وبداية لمسلسل العملية الشِّعْرية، قد يطلقها ولا يتحكّم فيها، فعبارة «كثير رماد القدر» التي تتلخص في غرض المدح (إثبات الكرم) تنطلق من المَعْنى نفسه لتعود إليه، لأنّها في النهاية تعبّر عن الغرض نفسه، لكنّ جمالية التّلَقّي في هذا السِّياق، لا تقول باحتراق النّص، حين يؤدي وظيفته كما حصل الآن، بل يكون منطلقًا لعمليات جمالية مسترسلة يعيشها المتلقي بنوع من المتعة والدهشة بالانتقال من «إحراق الحطب الكثير» إلى «استقبال ضيوف كُثر» و«إطعام الطعام بكثرة» إلى «رجل كريم»، وبالتالي لا يكون المدح هو المَعْنى الشعري لهذه العبارة، كما بيّن الجرجاني، فالمعوّل عليه هو «استنفار كفاءة المتلقي وزاده الثقافي والمعرفي وتفاعله مع النّص».

القارئ وإنتاج النص (تقاسُم لعبة الخيال)
إن موضوع جمالية التّلَقّي هو اشتغال النُّصوص المُخيلة، أي النُّصوص الأدبية على أساس تدخُّل القارئ في عملية إنتاج النّص؛ فـ «ما دام النّص الأدبي لا يستطيع أن يعمل - كما يقول إيزر- قبل أن يُقرأ، فمن المستحيل وصف أثره دون تحليل عملية القراءة»، ومهمة المحلل هي وصف العملية التحويلية التي تجري حال لقاء النّص، كفضاء لنصوص أخرى محتملة لا تطابق النّص ولكن تشبهه، يكون فيها القارئ مزوّدًا بكفاءته ومرجعياته الخاصّة، وفي هذا اللقاء بين طرفَي العملية «يَصدر عن النّص تأثير لا يمكن أن يُدرس، لا من خلال النّص وحده ولا من سلوك القارئ وحده؛ فالنّص فعل كامن تُحّينه أو تحققه عملية القراءة في كل لحظة» على حدّ تعبير إيزر في مُقدمة كِتابه فعل القراءة.
والقارئ، إذن، هو وَحده الذي يستطيع تحقيق كوامن النّص، وتحيينها في وقائع، ولذلك فإنّ بنية النّص وعملية القراءة تتكاملان في تحقيق التواصل؛ ويتحقق التواصل عندما يرتبط النص بوعي القارئ، وهذا الوعي هو الذي سطّره الجرجاني في كل مقولاته، بتأسيسه لعدّة تحليلية دقيقة وواعية في البحث عن المكامن العميقة، بدل الاكتفاء بالتحليل السّطحي للنصوص.
وقد أشارَ إيزر إلى ورود «ضرورة إشراك القارئ» في الثقافة الغربية من وقت قديم نسبيًا، كما في قول لورانس ستيرن (القرن الثامن عشر): «إنّ أيّ مؤلف واعٍ بالحدود التي تفرضها اللياقة، والذوق السليم، لن يتجرّأ على تَخْمين كُل شيء (أو لن يفكّر في قول كل شيء)، فالاعتراف الصادق بِفطنةِ الآخرين مقرونًا بالاحترام، يقتضي هنا أن تُشطر الإجاصة، لكي تترك للقارئ شيئًا يتخيله بعدك».
وعلّق على هذا الكلام قائلًا: «فالكاتب والقارئ يقتسمان بالتساوي لعبة الخيال، ولن يكون لهذه اللعبة محلٌ، إذا ما ادّعى النّص أنه أكثر من قاعدة للعب».

تفاعل الخطاب والبنية (مؤشرات التلقي) 
إذن فالعمل الإبداعي نتاج تفاعل القارئ والنّص في مستواه الواضح والغامض، وحتّى المستوى الأول لا ينعدم فيه الاحتياج إلى آليات التأويل، كما يبدو للوهلة الأولى، فالمَعْنى الشعري لا يتعارض في نظر الجرجاني مع وضوح المعنى الذي يبثّه النّاص، إذْ إنّ مدار الشِّعْرية لا يقتصر على ضرورة إغماض الصّور المنقولة، وتمويه المقاصد وإخفائها، يقول عبدالقاهر: «هذا وليس إذا كان الكلامُ في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح، أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المَعْنى لطيفًا...».
المَعْنى بالنسبة للجرجاني قد يبدو واضحًا، والوصول إلى الغرض سهلًا، لكنّ أسرار الشِّعْرية المترتبة عنه، تحتاج دائمًا إلى إعمال الفكر واستثارة أدوات التحليل على مستوى التّلَقّي، ومعنى ذلك أن عملية التفاعل بين النّص والقارئ واردة باستمرار، رغم اختلاف مستويات النصوص ودرجات الشِّعْرية فيها، وهذا التفاعل يعتمد على جوانب جمّة من أهمها في هذا السِّياق (التفاعل بين دلالة الخطاب وبين بنيته اللّسانية)، والذي يعتمد على القرائن والمؤشرات في رأي الجرجاني، وليس على إيجاد التّفسير الشّكلي للانْزِياحات الشِّعْرية، كما دأب عليه اللغويون كالضرورة وما شابهها، فالمعاني تُسْتكمل ويُتبين وجه التأويل فيها بالنظر فيما قبلها وما بعدها، وهنا يصبح القَصْد خاضعًا للمسار العام للمَعْنى حسب السِّياق الدّاخلي للنص.

مستويات إدراك النص (مأزق التلقي)
لا بدّ أن مهمةَ القارئ تكبر مع تعقُّد العلاقات حتّى يكون أمام نصوص أو صور تقتضي الانتقال من مستوى إلى مستوى ثان وثالث حسب كفاءته قبل الوصول إلى منطقة المزية، والحوار الذي يقع بين التراكيب وبين تناقضاتها، يخلق تحديًا أمام القارئ في استيعاب مفهوم المزج الذي يكرّس الانتقال من الصور المفردة إلى الصورة الواحدة المركّبة والممزوجة بشكل لا يصحّ تفريقها، وهو تحدٍ طُرِح كإشكال أمام منظِّري جمالية التّلَقّي يتعلق بصورة إدراك النّص واستيعابه، هل تتم بتمثُّل كلّي وشمولي، أو أنّها تخضع للتدرج البنائي في خلق العلاقات الضرورية بين أجزاء هذا النّص؟
عالج إيزر هذا الإشكال فيما أسماه « تحوّل وجهة النّظر»، واعتبره من المفاهيم الأساسية في عملية «فهم النّص»، ويستند هذا المفهوم إلى كون النّص المخيل (النّص الأدبي) لا يُدرك مرة واحدة ومن الخارج، كما هي الحال بالنسبة إلى الأشياء الجاهزة تجريبيًا، بل يُستكشف تدريجيًا من الداخل: «لا نستطيع الإحاطة بالنص دفعة واحدة، بخلاف ما يحدث عند تبيننا لموضوع ما، فحتى وإن لم نتبيّنه إلّا في جملته، في الوهلة الأولى، فإنه يكون شاخصًا أمامنا بحذافيره (...)، وهذا المسار الذي يتخذه القارئ، باعتباره وجهة نظر متحرّكة داخل حقل الفهم هو الذي يؤمن (أو يضمن) خصوصية الموضوع الجمالي في النّص المُخيّل».

إشارات عميقة
  نجد في كلام الجرجاني إشارات عميقة تسير في الاتجاه نفسه، وتؤكد هذا التكامل الضروري بين الإدراك الكلي الشمولي، وبين الوصف الجمالي القائم على إعادة تشكيل النص المُتبين، والمتلقي عامة يقف أمام صنفين من الإدراك والمعرفة: «اعلم أن معرفة الشيء من طريق الجملة غير معرفته من طريق التفصيل»، أي أنّ المعرفة الإجمالية عامة تشمل الغريب والمبتذل، فـ «الجملة أبدًا أسبق إلى النفوس من التفصيل»؛ «وإذا كانت هذه العبرة ثابتةً في المشاهدة وما يجري مجراها مما تناله الحاسّة، فالأمر في القلب كذلك تجد الجمل أبدًا هي التي تسبق إلى الأوهام وتقع في الخاطر أوّلًا، وتجد التفاصيل مغمورة فيما بينها، وتراها لا تحضر إلا بعد إعمال للرؤية واستعانةٍ بالتذكّر».
فإذا كان الإدراك الشمولي كافيًا بالنسبة للمبتذل المألوف البسيط التّركيب، فإنّ الغريب المركب يتطلب قراءة ثانية، قراءة تفصيلية تنطلق من الجزء إلى الكل، وتشكّل هيكلًا جديدًا يعتمد على استراتيجية الانتقاء، حيث إنه «بإدراك التَّفصيل يقع التفاضل بين راءٍ وراءٍ، وسامع وسامع، وهكذا، فأمَّا الجُمَل فتستوي فيها الأقدام، ثُمَّ تَعلم أنّك في إدراك تفصيل ما تراه وتسمعه أو تذوقه، كمن ينتقي الشيء من بين جملة، وكمن يميِّز الشيء مما قد اختلط به، فإنك حين لا يهمّك التفصيل، كمن يأخذ الشيء جُزَافًا وجَرْفًا».

تداعيات متعددة
«لقد أكّد إيزر أن النص هو تشكيل تخييلي لا تتحقق صورته الواقعية بشكل واحد ووحيد، رغم اعتباره محاكاة للعالم التجريبي الواقعي، وإنّما هو تداعيات متعددة تخرج في غالب الأحيان إلى المعاني التي لم يقدّمها النص، وفي أحايين كثيرة لم يفكر فيها حتى...»؛ ولعلّ هذا ما أكّده الجرجاني في مقاربته لمفهوم التّخييل، حيث اعتبر أنّ الجانب التّخييلي هو الأجدى لوصف الظاهرة الشعرية واستمرارها، وهو الجانب الوحيد الذي يجعل القارئ يسلب صورة المَعْنى الخيالي من النّاص، ويتخيّله حسب ما يتوافق مع رؤاه الخاصّة، وعلى هذا الأساس يكون الشّاعر مبتكرًا لصور وعوالم لم يتوقّعها أصلًا، وهو دائمًا يبذل جهدًا للاقتراب من المَعْنى الذي يريده، هذا المَعْنى الذي يبقى ممكنًا فقط، لكن غير متحقّق، والقارئ يحاول أن يستخلص المَعْنى نفسه أو على الأقل يصفه، ولأنّ الشّاعر لا يستطيع وصف ذلك المَعْنى، فالقارئ يفشل أيضًا، لكنّه فشل إيجابي وضروري، ولا يعدو ما يصفه أن يكون مَعْنى جديدًا لا يخلو من تداعيات المَعْنى الأصلي؛ بهذا الصدد يقول الجرجاني: «لا سبيل إلى أن تجيء إلى مَعْنى بيت من الشِّعْر، أو فصل من النثر، فتؤدّيه بعينه، وعلى خاصّيته وصفته بعبارة أخرى؛ حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك، لا يخالفه في صفة ولا وجه ولا أمر من الأمور، ولا يغرّنك قول الناس: «قد أتى بالمَعْنى بعينه، وأخذ مَعْنى كلامه فأدّاه على وجهه»، فإنّه تسامح منهم، والمُراد أنه أدى.
خلاصة القول أنّ الجرجاني بتطبيقه لهذا النموذج التحليلي التكاملي والبنائي المنهجي، الذي يرصد النّص في كلّيته، بناء على تفكيك أجزائه من أجل إعادة بناء العلاقات الدّلالية والجمالية بينها، يكون بذلك قد أسسّ فعلًا لأوّليات جمالية التّلَقّي كما تبلورت في النّقد الحداثي ■