السيرياليّة في زمن «كورونا»!
بليد... بليد جدًا هذا الوقت...
عالَم غريب لم نألفه من قبل...
كأن شيئًا كونيًّا قد حدث...
ينفث ما جعبته... يزفر... يتأفّف...
نعوم في النور بوهجه الوضّاء...
لكنّه لا يكشف مجهول الأبعاد...
يسبح تردّده في كل مكان...
قيثارة أورفيوس توقّفت عن الغناء...
ذبُلت الألوان، وصمتٌ يصمّ الآذان
الخوف مدهون في الوجوه والأجساد...
مثقلٌ بالدلالات والإشارات...
أهي من قصص الجدّات...؟
طريح فراش في حالة هذيان...
ونصّ دون إضافات أو تعديلات...
مفتوح للتأويلات حيث تتكدّس الحكايات
صخبٌ وضجيجٌ يملأ الفضاء...
أهو ثاناتوس أم كيريس...؟
أسمعه يتمتم: قد آنَ الأوان...
مقهقهًا يتعجّل القرار...
وأسئلةٌ دون إجابات...
فقط... لا شيء يحدُث قبل الأوان...
ماذا ينتظرك في وحشة ما قبل السفر...؟
ليس سوى هاديس هناك...
وضيوف في العالم السُّفلي... في القاع...
«هكذا الحياة بفوضاها، بتقلّباتها وثوراتها العارمة بين الحين والآخر ودون إنذار، وكأنها تُفصح بصرامة عن استيائها وغضبها الشديدين لعدم إيلائها الانتباه اللازم الذي تفرضه علينا...»!
هذا ما تبادر إلى ذهني عندما فاجأتني القهوة بفورانها على موقد الغاز في لحظة «لخمة»، وفي طرفة عين أثناء تحضيرها.
وها أنا أجلس بجانب النافذة والقطة بجانبي، وفنجان قهوة مطعّمة بالهيل، وعلبة سجائر، وروح تموج بالكثير من الأحاسيس والأفكار.
الساعة السادسة صباحًا... أنظر حولي، الغرفة يتقاسمها النور والعتمة بتؤدة وهدوء، سكون عميق صاخب يحفّ حولي، يهرول في جميع الأرجاء، بدا لي امتدادًا لما هو في الخارج.
أرتشف قهوتي على مهل، وقد بدت عاجزة عن إمدادي بالقوّة والنشاط. بينما النافذة تدعوني إلى أن أُرسل بصري بنهمٍ عبرها، كي أمارس مهنة التحديق في تفاصيل مدينتي.
أنا عادة أستمدّ قوتي من إيقاع الحركة في الخارج، لكنّه اليوم الرابع منذ بدء حظر التجوّل الثاني، إنها «الذروة الثانية...» هكذا يقولون. الطقس بارد، والسماء ملبّدة بالغيوم وكل شيء يبدو هادئًا في مكانه لم يتغيّر كصحراء مقفرة، يملؤها الفراغ، مستكينًا لوحشة الفضاء الخالي من الحركة والبشر، وكأنّ جرسًا استحال أخرسًا لم يُقرع.
كانت الشمس قد استيقظت للتوّ في سفوح الجبل، وبدأت ترسل شعاعها الباهت لتتلألأ بِرَك المطر الليلي في الشوارع وهي تدعوني كي أطرقها بنظري مستعرضةً نفسها أمامي بفخر واعتزاز وثقة. هي تبدو أوسع وأعرض ممّا هي عليه في بقيّة الأيام العاديّة، مهجورة وكأنّ ليس في المدينة بشَر، وكلاب وقطط شاردة تتجوّل آمنة، تفعل ما يحلو لها في خلوتها دون أن تجفل، أو يعيقها أحد، مستمتعة بالحريّة إلى حد الأنانيّة والتشفّي.
- إنه انتصار البيوت على الشوارع...
حدّثت نفسي.
صحيح أشعر أنني حُرّة، أعبث في مكاني الضيق فقط دون غيره، لكنّها تلك الحرية التي تبقيك مقيّدًا...!
كانت كل رشفة قهوة تحدثني: «نهار آخر، كسابقيه، بليد، لا شيء جديداً فيه، بطيء كالسلحفاة، خالٍ من النكهة الدسمة، تلك النكهة التي استحالت إضافتها كما تفعل للأكل». أما علاقتي بالزمن فقد خلت من الأحداث واقتصرت على مؤشر عقارب إحدى الساعات الثلاث والوحيدة التي ما زالت تتكتك صامدة رغم توقّف الأخريين، وكأنني أعيش في زمن خاص بي وحدي لا حاجة لي بهما.
هذه الحرب الكونيّة، لا نعلم بالضبط أصلها وفصلها، كم ستدوم... ومتى تنتهي...! وكيف أصبحت عابرة للقارات حتى غمرت الكون كلّه، فوجدنا أنفسنا نخوض غمارها. لا متفرّج، الجميع منخرط فيها. كلعبة خرقاء، أو فيلم هوليوودي خيالي فيه الأرض تتعرّض للغزو على حين غفلة من قِبَل كائنات غريبة غير مرئيّة من كوكب آخر.
سيلٌ عارم من الأسئلة دهمني، أسئلة صعبة مقلقة، ما زال يغلّفها الغموض حتى الآن.
أهي بمنزلة حرب على البشريّة جمعاء لتنقيتها من «الشوائب»...؟ ربما!
مجرد خلق نتيجة خطأ بشري، أو متعمدّ؟!! ربما...!
بمنزلة توعية وخلق ضمير خاص وعام جديدين...؟ ربما!...
نقمة من السماء كتكفير عن ذنوبنا وقَدَر مكتوب علينا التعامل معها بخنوع واستسلام...؟ ربما...!
واكتفيت بهزّ كتفيّ، فهي في النهاية تساؤلات متناسلة لسنا مضطرين للإجابة عنها، فليس من المفترض أن يفهم الإنسان كل شيء عمّا يسير في هذا الكون وما يرسمه من خطط بالغة التعقيد، ليألف ما قد خفي عنه.
وشعرت بالوحدة تمسك بتلابيبي.
فيا لها من سيمفونيّة فوضى منظمة، محطة زمنيّة غريبة عجيبة تحفل بالصور الضبابيّة القاتمة تضعنا في حالة من اللايقين، ولكن كشريك في الجدليّة، كالكومبارس فُرِضَ علينا نمطٌ سلوكي جديد فيه الاكتفاء بالمخالطة من خلال الكمبيوتر والموبايل، والتشبث ببريق الأمل والرغبة في الحياة بواسطة الكمّامات - والتي نبدو فيها ككائنات غريبة من كوكب آخر - والقفازات واللقاحات، وغيرها من الوسائل الوقائيّة، كمنطوق لأزليّة إدمان الحياة وتوسّل بقايا نكهتها، وكمًّا من الغواية لا تقاوم، والرغبة في الاندماج مع الكون وتجديد صلته به.
وهكذا خطر لي أن أجعل التلفزيون شريكي في احتساء القهوة، لأتقلّب بين باقة الفضائيّات، ملتمسًا الأصوات المنبعثة منها كسكين حادّ يكسر حاجز السكون، ويملأ ثواني الوقت بالصخب والضجيج، فيشعرني بأنني حيّة، وأن الحياة حقيقيّة، أذني وعيني ما زالت تعمل.
تحليلات وآخر مستجدات الوباء الكوني الذي فرض صراعًا غير مألوف، صراع الوجود والكيْنونة، ومعمعات حروب يتردّد فيها صدى أصوات قذائف مدافعها ودبّاباتها وطيّاراتها الشرسة في مواجهة تغيّرات سياسيّة وصراعات ماديّة وتمزّق داخلي في معظم أرجاء الكوْن، وحوارات معظمها عقيمة أو تفتقر إلى ثقافة الحوار قد لا تُفاجأ عندما تنحدر إلى مستوى الردح، أو عندما يختلط فيها الذمّ بالقدح، وحتى الأيدي والسلاح...! ومسلسلات وأفلام، البعض منها جيّد، والبعض الآخر ساذج، وأغاني هابطة تعزّز من ذكرى الزمن الجميل الذي عاشه جيلنا والترحّم عليه، وحنين وشجن لأيام مضت وولّت.
لم يَرُق لي ما شاهدت، فخطرت لي الحاجة لفعل أشياء مجنونة.
فكرتُ في أن أنظف حافة نافذتي التي تعاني مخلّفات العصافير والحمام التي تستكين إليها...!
أتفقّد صفوف الكتب المقروءة وغير المقروءة المتراصّة على أرفف مكتبتي الصغيرة السبعة، والتي بدت كعجوز محدودبة فقدت قدرتها على الانتصاب جرّاء فقدان توازنها التدريجي بالميلان، وإزالة الغبار عنها!
أغوص في المطبخ لتحضير طبق يستغرق وقتًا طويلًا لا أشعر بالرغبة أو الشهوة نحوه...!
لكنّ صورًا وأحاديث وحكايا ملغّزة وضحكات صاخبة، وتعليقات ساخرة بدأت تتداعى أمامي، فملأت الأركان حولي.
صوت سامية في إحدى مكالماتها بعد أن أجرت عمليّة ترميم لوجهها وهي تقول لي ضاحكة، إن وجهها يبدو ملطّخًا بجميع ألوان الطيْف كإحدى رسومات الأطفال العشوائيّة وهي تحذّرني من محاولة زيارتها حتى إشعار آخر، حينها ضحكتُ كثيرًا وأنا أتخيّل المنظر.
مشهد نورا في زيارة مفاجئة في إحدى ساعات الصباح انقضت وهي تحدّثني بإسهاب ممّل عن انهماكها في التحضير لحفلة عرس ابنها البِكر وحيرتها في اختيار لون زهور الزينة ما بين الورديّ والأصفر.
كثيرًا ما يدور في ذهننا ما يجعلنا نبتسم، وها أنا أبتسم...!
فقد يصبح الإحباط قرين الفرحة، دون أن نعي أن الحياة لها قوانينها المتغيّرة بين ليلة وضحاها، تمليها علينا عندما تأتينا من حيث لا نحتسب، فهي ليست معطاءة طوال الوقت حتى تقودنا إلى النتائج المرجوّة، بل تعبث بكل تفاعل من مقتضيات الحياة، تيّسره... تؤجّله... تسرعّه... أو تلغيه...!
عندما كلّمت آمال أمس، وهي مدرّسة لغة عربيّة في إحدى المدارس الخاصّة، وسألتها:
- كيف تسير الأمور معك في هذا الذي يسمونه «التعليم عن بُعد»...؟
أجابت بتنهيدة حارّة:
- آه هذا «التعليم عن بُعد»!. مصطلح أوجدته الظروف الطارئة مثله مثل «التعليم وجاهة»، لكنّه الأجدر أن يسمّونه بأسمائه الحقيقيّة. المحاولة المستميتة للدخول إلى أذهان الطلاب في أجواء لا تمتُّ بصلة للتعليم، وحركات الغشّ، والكتاب المفتوح، وتواطؤ الأهالي عندما يُمتحنون بالنيابة عن أبنائهم.
شرحتُ لها
- من الطبيعي أن يكون هناك خفّة من قبل البعض في الالتزام بالقوانين التي تشرّعها الدولة، فما بالك بالقوانين التي تسنّها ظروف طارئة كصراع ضد الأقدار؛ كل شيء أصبح يتلخّص بطريقة تفاعلنا معها، هم لا يعترفون بها كمحاولة لاختزال المسافة بين المتاح وغير المتاح، إنّها إحدى المحاولات لخرقها.
أما نداء... فقد فوجئتُ بصوتها الأخير مصحوبًا بنغمة قلق وخوف، وهو الذي ألفته متهدّجًا بالفرح الغامر والحيويّة، حاملًا خبر إدخال قريب لها، شخصية عامة ويشغل منصبًا رفيعًا في إحدى الوزارات، في حالة حرجة إلى مركز العناية المركّزة في أحد المستشفيات.
وها هو الحاكم والثريّ والمتغطرس والقامع والمقموع، فليتضرّع إلى الله ويرجو رحمته من عناء وعذاب هذا العدو اللئيم كبقيّة العوام.
إنها «السيرياليّة الغرائبيّة»!
... تعبير أيقوني لهذه الأجواء المشوّهة، والمأساويّة، والمجنونة، التي وجدنا أنفسنا وسطها، فيها الإقرار والاعتراف القاسي بحقيقة هشاشة الوجود البشري والفروقات في أشكاله المتعددة بالتفاوت الاجتماعي، والجنسيّات، والأعراق، واللغات. والاعتراف القاسي بأن الإنسان ليس مركز الكون، فما عليه إلّا الانصياع لإملاءاته.
حدّثت الفراغ حولي...!.
لقد بدا لي بكل وضوح أن علاقتنا مع الكون والبيئة وأناسها لم تعدّ كما كانت.
أشياء كثيرة تغيّرت حتى طالت أحلامنا، إنها عملية محاولة خلق أسلوب حياة جديد، تلك هي لعبة الحياة في أحدث صورها، أحاديثها وحكاياها الملتوية، القادرة على أن تحدث فرقًا لا فرار منه.
وفجأة غرقت في الطابع التمرّدي على الواقع، لقد سقط الخيال على أرض الواقع، لأعود إلى طفولة البشريّة... تلك الطفولة الأسطوريّة الدينيّة والتي قدّمت للمرحلة الميتافيزيقية، فقادتنا إلى مرحلة النضج البشريّة. ليقف أمامي منتصبًا ذلك الذي يتباهى بنتوءاته السطحيّة كتيجان الزينة. لينضم إليه «زيوس» متجهم الوجه حاملًا جرسه متأهبًا لاغتيال مَن اقترف خطيئة حبّ الحياة ومهنة اللهو فيها...!
هو لم يقرع الجرس... ولم أسمع صوته... ولم يتكلم...! فقط شعرت بتواطؤ غريب بينهما اختزلته إيماءات لم تستغرق الكثير من الوقت، بل ثوان، ثمّ تمتمة كلمات مشوّشة وابتسامات صامتة. بعدها شعرت بنفسي أتلاشى جسديًا! لقد تلاشى وجودي المادي وامتدادي، لا شيء بقي من فيزيائيّة الجسد... وفي غيابه أفضت الروح هائمة في فضاء مغاير.
أحاسيس غريبة، وكأنني في قمّة الفرح!
لقد شعرت بأنّني فقدت علاقتي مع محيطي الموبوء...! تحرّرت من لحظات الوحدة والخواء والإحساس بالعجز، لأغوص في الطريق إلى العالم السفلي في رحلة تطهّر، والبحث عن جوهر الإنسان، أنضمّ إلى فوْج بشري هائل في فضاء يموج بين المعتم والمظلم والمضيء، يتوسّلون التوْبة والاستغفار! ■