لماذا وأدوها؟
لاح طيفُه من بعيد باهتًا كالظل، يرفس بأقدامه الغليظة الطين والمنحوتات الحديثة، فتبقى آثار حذائه الكبير منطبعة لتشي بالجريمة في حق ذلك الطين البكر، صرخت الدُّمى فزعةً صرخةً مكتومة، قبل أن يشرع في رميها واحدة تلو الأخرى في أعماق البحيرة... «الموت للكفرة»... «حطّموا هذه الأصنام»... «حطّموا الأوثان»... «الله أكبر».
أنَّت الموءودة في قاع مياه تلك البحيرة الراكدة. ردّد الغاب صوتها. جفلت القلوب. هل يموت الحلم عند الولادة؟ لا أحد يعلم هل يستفيق الربيع القادم من تلك الأجساد يومًا؟ تلك الموءودات حاملات أرواح «السّجْنانِيّات»؟ (نساء منطقة سجنان).
كنت أغمس يديّ حتى الذراعين في الطين اللّزج، أعجنه وأحاول دمج مكوّناته، بينما أجلس في ذلك المنحدر مشرفةً على الوهاد. أرسلت نظرة تائهة إلى عمق الوادي أسفل السفح، كانت السماء الغائمة ترسل نتفًا من الثلج تعتّم المشهد ونسمات باردة تلفح وجهي المحتقن.
مددتُ رجلين كبّلهما البرد وقد كنت مقرفصة، في محاولة لدفق الدم إليهما. تلمّست بأقدامي الحافية المتورّمة قطع حطب نديّة أسقطتها الرياح والأمطار عن الأشجار الجرداء. أسمالي المبللة لم تدفئني، فاجتاحتني رعشة قوية اعتصر لها قلبي، رغم أن شُعلة مضيئة قد توهّجت في القلب. استمدت نورها من لون الطين الأحمر، واستمدّت وقودها من رائحته النافذة تمتزج مع رائحة الثرى ومع رائحة أوراق الأشجار، وقد بلّلتها مزن السماء.
أحكمت لفّ الوشاح حول عنقي، بعد أن تلاعب الهواء بخصلات رقيقة منه وحاولت النهوض. استقبلتُ الطريق المنحدر نحو كوخنا هناك في القرية، كنت أبحث بعيني عن الحطب الذي نقاوم به غضب هذه الطبيعة الرعناء. تركت الطين الذي كنت أشكّله أجسادًا حارّة كجسدي الذي عجز البرد عن إطفاء ناره.
ألقيت نظرة على الدمية التي شكّلتها للتوّ، كم تشبهني! أسمع صوتها تغني، أسمع شكواها وأنينها، وأراها تسير في هذه الأرض وفي كل الكون غير عابئة بالعراقيل. تذكّرت أمي... كم صنعت من دُمى هي الأخرى؟ وكم توالدت روحها فيها وتناسخت؟ كنتُ أملُها مع الدُّمى! وما هو أملي الآن؟ أن أقترن بشاب من منطقتنا؟ أمّه تعمل خزافة هي الأخرى؟ وأنتقل من كوخ والدي إلى كوخه؟ لا بدّ أن أحلم حلمًا غير هذا الحلم العتيق... صحيح أن «عمران» بداخلي يسكن، لكن لا بدّ أن أعيد تشكيل حلمي... لن أسمح للرياح الآسنة أن تعبث بأهدافي ولا للوريقات أن تجفّ وتيبس ولا للأجساد أن تقتل! آه يا دمائي العزيزة! تجنّدن جيشًا للدفاع عنّي... نعم أنتن... أرى فيكن قوتي وقوة «السجنانيات»... تحملن في نقوشكن الصغيرة أسرارنا، وتتشكّل آلامُنا على وجوهكن حيرة مستفزة... ستوصلن تلك الحيرة لكل أرجاء المعمورة... ستوصلن صرخاتنا إلى المدن البعيدة العامرة حركة وحياة... وخلف البحار سيورق وجعُنا شجرًا يعبق بزفراتنا وتغسله دموعنا.
وعدني عمران أن نلتقي اليوم لنجمع الطين، لكنّه تأخر. ربما ظل يساعد أمه «جمعة» في المهمة نفسها... أنتظرُ مجيئك يا عمران، أنت رفيقي في مشواري مع الطين والدّمى والغاب... أطمئن إليك كما أطمئن لأشجار الفلّين والصنوبر... كما أطمئن لعرائسي ولرائحة الثرى يبلله المطر. أشجاري! طيني! لم يسمع أحد لغطنا وصخبنا ونحن هنا نجترّ عُزلتنا... نحارب بصمودنا وبعرائس الخزف الإهمال، ونعيش في أكواخنا على هامش الدنيا المتمدنة، رغم مناجم المعادن الثمينة التي تحيط بنا، وأغلبها تعطّل منذ زمن لأسباب مجهولة، مما زاد في عذابنا وفقرنا.
تورّمت أصابعنا من جمع الطين والحطب... آه يا «سجنان» الموت والحياة! عادت صورة أمي تملأ المشهد أمام عينيّ... أمي المرأة الصامدة بملامحها الأمازيغية وبقامتها الطويلة الفارعة... أراها تقفز بين التلال كالغزال، تجمع الحطب والطين بيدين متخشبتين وتحارب البؤس والشقاء.
أخرجتُ الدمية الفخارية من جرابي، ووضعتها على كفّي. تأملتُ الوشم مرسومًا على وجهها والنقوش السوداء بجسدها، ثم أرسلتُ زفرة تلاشت في الهواء، عانقت السحب والتوى الوشم بعد أن انزاح عن وجه الدمية وتبعته النقوش السوداء. تشكّلت نصًا مكتوبًا بحروف سوداء من كُحل عيون نساء سجنان.. ستحيا «السجنانية» ولن تفنى... اجتمعت الطلاسم وتشكّلت من جديد نساء بأثواب عتيقة ذات ألوان أمازيغية زاهية، تحلّقن وسط الغاب حول الدمية ورقصن رقصة سجنان... تحرّكت الدمية وغادرت وجوم التماثيل، استدارت حول نفسها مرتين في اتجاهين متعاكسين، ثم نطقت بصوت رخيم منغّم وقد ارتسمت على وجهها ملامح الحكماء:
«أنا عروسة سجنان... لست صنمًا يا بنات... أنا روحكن... أنا رسالتكن... أنا حلمكن... لا تسمحن لهم باغتيال الحلم».
اعترتني قشعريرة وذرفت دمعًا حارًا... تنبّهت لعمران يقف خلفي.
قال:
- دمية أمك صامدة لن تموت رغم ما فعلوه... هل علمت بما حصل؟
- ماذا هناك عمران؟
- متزعمو الإمارة الرجعية وأنصارها التعساء هجموا على القرية وورشات الخزف، سبَوْا العرائس الخزفية وألقوها «حية» في البحيرة.
أجهشت بالبكاء، فاحتضنني وربت على كتفي وردّد:
عروسة سجنان الموءودة لن تموت... عروسة سجنان باقية ما بقينا أحياء بهذه الربوع ■