مساحة ود

مساحة ود
        

«سلّامة».. أن تعيش هناك!

          الساعة الواحدة صباحًا، في غرفة قاتمة في مستشفى باريسي كئيب، وضمن سياق حديث نظمت إيقاعه أنّات أم  مريضة  ودقات  رتيبة  لجهاز قياس ضغط الدم،  كنت أستمع إلى قصة حياة «سلاّمة»: لاجئة شيشانية، جميلة، فقيرة، وحالمة،  تعمل ممرضة ليلية في هذا المستشفى.

          ربما من أجل أن ترفع معنوياتي، حدثتني سلاّمة عن ظروفها الحرجة والتعسة ماليًا وعائليًا ، وكيف طوعت هذه الظروف بإرادتها وانتقلت بها من مرحلة الأحلام إلى مرحلة الواقع.

          وصلت سلاّمة إلى باريس منذ بضع سنوات فقط. خلالها، تعلمت الفرنسية التي لم تكن تجيد منها حرفًا واحدًا، اشترت - براتبها المضحك كمهرج سيرك اشتراكي قديم - البيت الجميل ذي الحديقة الواسعة، الذي طالما علقت صورته في غرفتها، ابنها الآن عضو في الفريق القومي الفرنسي لرياضة  ما (لم أفهم ما هي تحديدًا. لأن فرنسيتي، بالرغم من ادّعائي، متواضعة)، وهي الآن في طريقها للحصول على الجنسية الفرنسية. هل يمكن للاجئ بائس أن يتمنى أكثر من ذلك؟

          من حديثها، فهمت أن سلاّمة لا تخطط، هي فقط «تحلم». وعندما تحلم، لا تخضع سلاّمة أحلامها لقوانين الواقع ومعطياته. هي فقط تحلم وتؤمن، بشدة وبإخلاص.

          هي لم تشرح ولكنني فهمت التكنيك فورًا، لا لذكائي الاستثنائي، ولكن لأن حديثها لمس في داخلي وترًا أعرف رنته جيدًا. نحن نتشابه، (سلاّمة وأنا). أنا مثلها، لا يعجبني الواقع فلا أتعب نفسي كثيرًا في الاصطدام به أو في الالتفاف حوله بمساعدة كتب المساعدة الذاتية. لست بحاجة إلى ذلك، أقصد مكانًا آخر، يسميه الآخرون حلمًا، وأسميه أنا واقعًا افتراضيًا (بالمعنى الدقيق، لا وفق الاصطلاح الإنترنتي).

          أنا - كسلاّمة - لست هنا، أنا أعيش «هناك»، في أحلامي، لقد اتبعت الوجهة. لعل الفرق بيننا (أنا وسلاّمة)، وبين عدانا من الحالمين يكمن في التعاطي مع الأحلام. أعرف الكثيرين ممن يتعاملون مع أحلامهم كجدران عالية  محبطة، يكتفون معها بالتطلع إلى لونها الوردي من الخارج, أما أنا وسلاّمة فنحن لا نحلم الحلم، لقد اجتزنا تلك المرحلة منذ زمن طويل، ربما لأنها ترفٌ لا نقدر على كلفته (من أنا حتى أحتمل تبعة التعامل مع شفاء الأم المريضة كحلم بعيد؟).

          النتيجة؟ لم نعد حالمين، لقد اجتزنا ماورائيات الحلم منذ زمن بعيد، فصرنا «هناك». لعل هذا هو السبب في كون أحلامنا، أنا وسلامة، متعبة نفسيًا ومنهكة جسديًا، فيما أحلام الآخرين وردية.

          الساعة الآن هي الرابعة صباحًا. بدأت الكتابة بتأثير أصوات ثقيلة على النفس، وأنهيها على خلفية من صوت آخر  لا يختلف عنها كثيرًا: نوم قلق لأمي, أجزم بأن الأرق يصبح إلى جنبه راحة ومع ذلك، فأنا وسلاّمة - رغم أنني أسهر بجانب سرير أمي بمعية كاتب مرتبك مثلي، ورغم أنها تمضي وردية الليل الطويلة في طابق ما من الطوابق الستة للمبنى الباريسي الحزين ذاته رغم ذلك، فنحن لسنا هنا، نحن «هناك». والمكان نقطة في أفق رمادي بعيد، ولكنه يستحق العناء. زورونا.
---------------------------------
* كاتبة من الكويت.

 

 

 

مشاعل الهاجري*