بيروت بدايات اليقظة الثقافية

بيروت بدايات اليقظة الثقافية

1 - التعليم
في القرن الخامس بعد الميلاد، كتب الشاعر الملحمي الإغريقي ملحمة «بيروت الميمونة» من ستة وعشرين ألف بيت، فيها: «ربّ مدينة تدعى بيرويه موئل الحياة، مرفأ ألوان الحب... بيرويه أصل الحياة، حاضنة المدائن، شرف الملوك، حمى العدالة، مدينة المشرّعين، نجمة بلاد لبنان».
وذلك بعد أن تهدّمت فيها «كلية الحقوق»، مع منابر ثقافية كثيرة، لكن بيروت، مثل طائر الفينيق، عادت إلى الحياة، ساعية إلى استعادة مجدها الثقافي، فأضاءت مشاعل إبداعية متنوّعة، من مدارس وجامعات، ومن صحافة ومؤلفات، ومن جمعيات وأندية طليعية، وحضنت أعلامًا في التعليم والإعلام والتجديد الفكري.

كان الجهل متفشيًا في مدن لبنان كله، رغم تواصل الأوربيين مع الموارنة، منذ خروج الصليبيين من لبنان والمنطقة، إلى أن أنشأ البابا غريغوريوس الثالث عشر معهد رومية عام 1584، مع انبعاث حركة اليقظة في أوربا. وقد خرّج هذا المعهد أفواجًا من الكهنة عادوا إلى لبنان ليؤسسوا المدارس، وينشروا وعيًا لم تعهده البلاد.
لم يكن اهتمام الموارنة بالتعليم، أقل من تشجيعهم على التأليف والترجمة، فقد جاء في اجتماعهم إثر مجمع اللويزة عام 1736: «نأمر بأن تقام المدارس في المدن والقرى والأديار الكبيرة... فيتعلم فيها صبيان تلك المدينة أو القرى المجاورة، ثم إذا توسَّموا في بعضهم مزيد الأهلية لتحصيل العلوم، فليعلّموهم قواعد النحو والصرف في السريانية والعربية... وبأن يؤلفوا في العربية الكتب المدرسية، مقتطفة من مؤلفين معروفين بالفضل، وإمّا أن يترجموها من اللغة اللاتينية إلى العربية على الأقل...».  
كان عدد كبير من الأوربيين قد استوطن بيروت، ومدنًا أخرى، للقيام بأعمالٍ تجارية. وفي عام 1819 وصلت أولى بعثات المبشِّرين الأمريكيين، التي رأت أنه لا بدّ من إنشاء كنيسةٍ إنجيلية ومدارس لتعليم الصغار لنشر الوعي، فثارت ثائرة الكاثوليك لهذا الأمر، وسرعان ما وصل اليسوعيون، ثم اللعازاريون الذين أسسوا مدرسة عينطورة عام 1834.

المدارس الإرسالية والخاصّة
  حتى بداية القرن التاسع عشر، لم يكن في بيروت «مدرسة» واحدة تكتمل فيها الشروط الضرورية لتكون «مؤسسة تعليمية»، إذ لم توفّر الحالة الاجتماعية، ولا الاقتصادية، تسهيلات لإنشائها، و «الأعلام» الذين عرفتهم بيروت وقتذاك، درسوا على أنفسهم، أو على بعض رجال الدين، فقط. وكانت «الكتاتيب» التي يديرها علماء مسلمون ورهبان مسيحيون تعلّم مبادئ القراءة، ونصوصًا دينية، في وسائل بدائية.
لكنها كانت «يقظة» للطوائف المسيحية، بتأسيس الأديرة ومدارسها، بينما كان جهل المسلمين بالأساليب التعليمية الحديثة، وانقطاعهم عن التواصل مع مراكز علمية متقدِّمة، هو ما جعلهم يكتفون بالزوايا والمساجد للأخذ فيها عن قرَّاء القرآن الكريم، وحفظة علومه، وبالمدارس العثمانية. وقد يكون الحافظ للقرآن أمّيًا، أو قارئًا غير مُلمّ بالحساب، فالمعلمون نادرون، والمثقفون قلَّة، بعضهم كان محظوظًا إذا جاور الأزهر الشريف بمصر فترة، أو اقتنى مخطوطًا طالع فيه.
بدايات اليقظة هذه، لم تحسر الجهل كله، ففي عام 1840، ثم في عام 1860، حصلت حوادث طائفية دامية في جبل لبنان، وذلك بعد أن ترك إبراهيم باشا البلاد، وانحلَّ مجلس الشورى الذي أسَّسه في الجبل، والذي أسسه في بيروت، وفي كل البلاد، محاولًا به وعبر سياسته، أن يُرسي حقوقًا متساوية للجميع، بلا تفريق بين الطوائف والمذاهب.
إثر هذه الحوادث، أسس المعلم بطرس البستاني «المدرسة الوطنية»، كما نشر صحيفته «نفير سورية» ثم «الجنة» و«الجنينة»، متوسلًا التئام الشرخ، وبثّ الوعي الوطني، وهو الذي كتب عن مدرسته أنها تقبل تلامذة من جميع الطوائف والملل والأجناس، من دون أن تتعرَّض لمذاهبهم الخصوصية... كما أنها تستخدم معلمين من مذاهب وأجناس مختلفة، ناظرة إلى كفاءتهم وحُسن تقواهم واقتدارهم على التعليم.

المدرسة الوطنية الأولى
كانت مدرسة المعلم بطرس البستاني، فعلًا، المدرسة الوطنية الأولى، بنظرتها الإصلاحية،  وتوجهها غير الطائفي، وأسلوبها التربوي العلمي، ودعوتها إلى تحرير المرأة وتعليمها، كانت لغاتها: «العربية والتركية والفرنساوية والإنجليزية واليونانية واللاتينية، مع تعليم صناعة الخط في جميع هذه اللغات، وعلومها هي الصرف والنحو والعَروض والمعاني والبيان والبديع والمنطق والجغرافيا والتاريخ والحساب والجبر والهندسة والمساحة والطبيعيات والكيمياء والفسيولوجيا والجيولوجيا والنبات والفقه وفن الترجمة وصناعة الإنشاء والتأليف، والخطب، ويضاف إليها علم آلات الموسيقى وصناعة التصوير والحفر لدى الطلب... كما كانت داخلية، في جميع الساعات ليلًا ونهارًا تحت مناظرة رئيسها، وذلك بنفسه أو بواسطة نائبه والمعلمين، ولها طبيب من أشهر الأطباء، ويكون دائمًا في الليل حرّاس يوثق بهم...».
إزاء هذه «الوطنية» الجامعة في مدرسة البستاني، كانت مدارس الإرساليات في صراعٍ تبشيري، بين الكاثوليكية والبروتستانتية، متوسِّلةً التربية، فنظام الامتيازات، ونظام الملل العثماني سمحا «لرؤساء الملل من غير المسلمين بإنشاء مدارس وفق أنظمةٍ خاصة بهم، واختيار لغة التدريس التي يريدونها في معاهدهم»، وهكذا قامت «دول مصغَّرة داخل الدولة الكبيرة... فصار الموارنة والكاثوليك دينيًا في صفٍ واحد مع فرنسا، والروم الأرثوذكس مع روسيا، والبروتستانت مع بريطانيا وأمربكا».
لكنّ افتتاح المدارس لاقى استحسانًا من الناس جميعًا، لطرد الجهل من العقول، وتربية الأولاد في انفتاحٍ جديد، وسعي إلى الترقي.
وقد سعى اليسوعيون إلى إكثار مدارسهم، فردّوا على إنشاء «الكلية الإنجيلية السورية» (الجامعة الأمريكية في بيروت - لاحقًا)، التي بدأت كليتها للآداب عام 1866 ثم كليتها للطب، وذلك بإنشاء الجامعة اليسوعية عام 1875.
وقد استهوت الكليات التطبيقية في «الجامعة الأمريكية» أبناء الطبقات الميسورة التي تسعى إلى تسلُّم الزعامة السياسية، في لبنان والعالم العربي، كما حصل لكليات القديس يوسف التي انتسب إليها أبناء الأسر الغنية الموالية لفرنسا وسياستها، فخرَّجت مَن تسَلَّم الإدارة اللبنانية، وتوجهاتها، خلال السنوات الطويلة القادمة.

في المدارس العثمانية
 في عام 1846 صدر أول قانون عثماني لإصلاح التعليم، ينص على إشراف الحكومة على التعليم وإبطال دور رجال الدين في ذلك، فقد كان التعليم آنذاك تحت إشراف العلماء والمشايخ. وبعد 10 سنوات، صدر قانون آخر لتنظيم مؤسسات التعليم العائدة لغير الطوائف الإسلامية، يشير في مادته الخامسة عشرة إلى أن كل طائفة من الطوائف المسيحية لها الحق في إنشاء وتنظيم مدارسها، وتعليم الفنون والعلوم، ولها الحرية في اختيار المناهج والهيئات التعليمية لها، لكنّ أمر مراقبتها يعود إلى إشراف السلطات العثمانية المختصة.
وفي عهد السلطان عبدالعزيز، صدر قانون المعارف العمومية عام 1869، مبنيًا على أسسٍ حديثة، أشار إلى أن المدارس هي «عمومية» (للدولة)، و«خصوصية» (للأفراد والجمعيات والطوائف)، ولا بدَّ من ترخيصٍ رسمي من نظارة المعارف لكل مدرسة خصوصية، ومع منح الحرية للنموذج الثقافي المعتمد، على المدرسة عدم تجاوز توجهاتها نطاق السياسة والأخلاق العامة.
وأول مدرسة في بيروت، كانت «عسكرية» عام 1852، ثم «المدرسة الرشدية الحربية» (في منطقة حوض الولاية) عام 1867، وكان الإقبال عليها - وعلى المدارس الابتدائية الأخرى - قليلًا جدًا، لا يتجاوز العشرات في الواحدة، فالتعليم فيها كان باللغة التركية، وهدف أكثرها تخريج موظفين يخدمون الدوائر الحكومية، أو الأجهزة العسكرية.
ويظهر أن التعليم في هذه المدارس لم يَرُق كثيرًا لأهالي بيروت، فقد كان توجّههم إليها قليلًا، وطالما شكوا من عدم تدريسها اللغة العربية، ومن شدة انضباطها وغربتها، فالمعلمون جلّهم أتراك قساة، وقد استمرّ الوضع هكذا طويلًا.

في التعليم الإسلامي
كان التعليم الإسلامي، أول أمره، في الكتاتيب، و«الخوجاية أو الشيخة، وهي عبارة عن تلك الكتاتيب الصغيرة التي كان يفتحها أشباه المتعلمين الذين جعلوا من بيوتهم أو دكاكينهم التجارية مدارس بدائية، يستقبلون فيها الصبيان، حيث يلقنونهم مبادئ القراءة والكتابة، مع مبادئ أوّلية في علم الحساب إلى جانب الخط العربي». ومن أراد من المسلمين تمكين أولاده من التعليم الديني، كان يُرسله إلى دمشق أو القاهرة، رغم أن بيروت قد «أدركت جلَّة من العلماء: الكامل العارف الشيخ محمد الحوت الكبير... والعلّامة الفهّامة الشيخ عبدالله خالد، والعالم الزاهد عبدالقادر النحاس، والشيخ عبدالرحمن المجذوب، والشيخ مصطفى وأخاه الشيخ علوان الأغر، ابنا الشيخ أحمد الأغر، وكان هذا قاضيًا لبيروت معاصرًا للعلّامة الشيخ عبداللطيف فتح الله المفتي. 
أما المدرسة الإسلامية التي نالت شهرة، وعاشت طويلًا، فهي «المدرسة العثمانية» أو «الأزهرية» أو «العباسية»، نسبة إلى مؤسسها ورئيسها الشيخ أحمد عباس الأزهري.  وقد لاقى التشجيع على العلم وتأسيس المدارس كثيرًا من الروّاد الموسرين، والمفكرين العلماء، ومن الوجهاء والأدباء محمد عبدالله بيهم، المعروف
بـ «الصارخ المكتوم بل الصائح المكلوم»، والذي درج على إرسال نشرات ودعوات إلى فتح المدارس، قال في إحداها:
إذا لم يكن للعــلم عون فباطلًا 
نــعالـــج أمراضــًا بــــنــــا ودواهــــيــــا
فهيّا بني الأوطان هيّا وأسسـوا
مدارس تحيينا وتنفي العواديا
وكان يكلف من يكتب على جدران الشوارع «إلى العلم إلى العلم» أو «تعلَّم يا فتى، فالجهل عار».
وكانت هذه المدارس الإسلامية تؤكد على دور الأخلاق، لتخرِّج البنت أو الصبي كما ينبغي أن يكون المسلم العامل، فقد طلبت جمعية المقاصد الإسلامية من الشاعر أبي الحسن الكستي وضع أرجوزة لتعليم البنات سلَّم الأخلاق ومعاشرة الأهل والأزواج، واكتساب آداب المعيشة وسياسة المنزل.

جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت
في تاريخ اليقظة العربية، أن «أسسها أدبية ثقافية، كانت نتيجة للحركة الفكرية التي أعقبت أعمال الإرساليات التبشيرية في التربية والتعليم»، وهكذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يعمل رائدا النهضة العربية الفكرية ناصيف اليازجي وبطرس البستاني مع زملائهما الأمريكيين عام 1847 على تأسيس أول جمعية في العالم العربي الحديث هي «جمعية الآداب والعلوم»، وأن يعاودوا الكَرَّة عام 1857 لتأسيس جمعية ثانية أكبر عددًا وأوسع نشاطًا، هي «الجمعية العلمية السورية». وفي اجتماعٍ سرّي لهذه الجمعية الأخيرة، أنشد الشيخ إبراهيم اليازجي عام 1868 قصيدة مطلعها:
تنبَّهـــوا واستفيقــوا أيـها الـعربُ         
فقد طمى الخطب حتى غاصت الرُّكبُ 
وكرَّت سبحة الجمعيات الأدبية العاملة على نشر الوعي، ثم الجمعيات الإصلاحية التي أوضحت أهدافها الثورية التغييرية.
وكان بعض الوجهاء المسلمين، ممَّن أصابوا قدرًا من المعرفة، وتوفَّرت لهم وسائل التواصل مع مجتمعهم، قد حثّوا على طلب العلم، ومنهم المشايخ الفقهاء الذين كانوا يعقدون مجالس العلم، أو يتدارسون الفقه في المساجد.
هؤلاء الوجهاء المسلمون من المتنورين، اجتمع بعضهم في دار أحدهم، عبدالقادر قباني، وتدارسوا واقع طائفتهم، فتبيَّن لهم، ولكلّ ذي بصيرةٍ من أبناء الوطن، أنه منذ مدةٍ ليست بقصيرة، أخذت الطوائف المختلفة الموجودة فيه تؤلف جمعياتٍ خيرية تقوم بمصالحها اللازمة، كافتتاح مدارس للذكور والإناث يتعلَّمون بها أنواع العلوم والمعارف واللغات.

جمعية المقاصد
إذًا، لانتفاء وجود جمعياتٍ إسلامية تهتم بافتتاح المدارس، ولأن المدارس الموجودة، إمّا تبشيرية تساعد الطوائف الأخرى على النهضة، وإمّا مدارس عمومية لا تقبل المبتدئين، فقد «اتحدت الهمم الشبانية في بيروت على تأليف جمعيةٍ إسلامية خيرية، ليلة غرة شعبان المعظَّم لسنة خمسٍ وتسعين ومئتين وألف من الهجرة النبوية» (31 يوليو 1878م)، وهي «جمعية المقاصد». وفي الاجتماع الأول للمؤسسين، وضع كل منهم ما ألهمه الله من النقود رأسمالٍ لصندوقها، ثم كتبوا لها تعليماتٍ على شكل قانون لترتيب داخليتها واجتماعها ومذاكراتها، كما قدَّموا بذلك عريضة لجانب الحكومة طالبين مساعدة الجمعية في عملها الخيري.
وقد كتب المؤسسون في «الفجر الصادق» (أول سجّل مطبوع لأعمال الجمعية): «فأخذنا في أول الأمر نبحث عن الأشد لزومًا لطائفتنا، فوجدنا أن أحسن وسيلة لنشر المعارف فيها هي تعليم الإناث طرق التربية وما يحتجن إليه من العلوم والصنائع».
وهكذا، لم يمرّ سوى شهرين على تأسيس الجمعية، حتى افتتحت «مدرسة البنات الأولى»، في محلة الباشورة، وبلغ عدد تلميذاتها 230 تلميذة وعدد معلماتها خمسًا... كان تدريس البنات يشمل القراءة البسيطة، والقرآن الكريم، والعقائد، والتوحيد، وتهذيب الأخلاق، والآداب، والكتابة، والحساب. و«في سنة التأسيس نفسها، افتتحت جمعية المقاصد مدرسة الذكور الأولى بحضور الوالي مدحت باشا، وبلغ عدد تلامذتها 118 ومعلّميها ثلاثة، ومدرسة الذكور الثانية، في السنة التالية، وبلغ عدد تلامذتها 200 ومعلّميها أربعة، وعيّنت الجمعية طه النصولي رئيسًا للّجنة المشرفة عليها، وكان تعليمها مطابقًا لما يُعلَّم للبنات» ■

مبنى الجامعة اليسوعية

 

 

2 - الصحافة
كتب الصحافي اللبناني الكبير غسان تويني: «الحريّة ممارسة مناضلة، تنطلق من نفس حُرّة وفكر حرّ، بحيث لا يخاف القلم الحرّ سلطانًا مهمًا علا كعبه، والصحافي في الأصل رولي في نظرته، يؤثر إيمانه بالحقوق على منافعه من السلطة».
وتابع: «حرية الصحافة مرتبطة إذًا بتمكّنها من أن تقيم بينها وبين الجمهور حوارًا يتجوهر بالثقة والاطمئنان والشغف المتبادل، فيتحول الصحافي عندئذٍ مرشدًا وموجّهًا، بل قائدًا».

نعم، سارت الصحافة في لبنان مع الحرية جنبًا إلى جنب في العهد العثماني وما بعده، والصحافيون اللبنانيون: الأدباء والمهنيون والفنيون في صناعة الصحيفة حتى وصولها إلى القارئ، طوّروا كفاءاتهم حتى صاروا مدارس تحتذى، وأسسوا الصحف في لبنان والبلاد العربية والمهاجر، وكانوا في أساس النهضة الفكرية حيثما حلّوا.
في عام 1858، ولدت الصحافة في لبنان على يد خليل الخوري، الذي أصدر «جورنال الأخبار»، وهي أول صحيفة عربية يصدرها عربي في بلد عربي.
وفي عام 1860، إثر الحرب الأهلية التي عمّت لبنان، تقدّم المعلم بطرس البستاني، الأديب المربّي، والرائد في فن الصحافة والتأليف وكتابة الموسوعات، ومؤسس «المدرسة الوطنية» في بيروت، لإصدار «نفير سورية» في صفحتين صغيرتين، يدعو فيها، كما كتب: 

يا أبناء الوطن...
 إن الفظائع والمنكرات التي ارتكبها أشقياؤنا هذه السنة كسرت القلوب وأسالت الدموع وعكّرت صفاء الألفة، وأضاعت حق الجوار. أما تمالح الجاران؟ أما شربتم ماء واحدًا؟ أما تنشقتم هواء واحدًا؟ أما رأيتم العقلاء ساعين في تشييد أركان الألفة ورفع منار العلم رغبة منهم في ارتقاء البلاد وسعادة أبنائها؟ اعلموا أنكم بعملكم المنكر قد أرجعتم الوطن إلى الوراء نصف قرن. هدانا الله وإياكم إلى سواء السبيل».

لبنان والمطابع 
في عام 1865 صدر أول قانون للصحافة في العهد العثماني، نشره السلطان عبدالعزيز (1861 - 1871) باسم «نظام المطبوعات الصحفية والرقابة عليها»، وذلك بعد أن اختبر حضارة الأوربيين في رحلته إلى باريس.
ومن المعروف أن لبنان هو أول من عرف المطابع في الشرق، حين عمل عبدالله الزاخر على سبك حروف الطباعة، وبعد ذلك أُسست «المطبعة الأمريكية» التي انتقلت من مالطا إلى بيروت، ثم المطبعة الكاثوليكية.
أمّا صحيفة «لبنان الرسمية» باللغتين العربية والفرنسية، فقد صدرت عام 1867 في 4 صفحات، وطبعت في «بيت الدين» بإشراف يوسف الشلفون.
في تلك السنوات التأسيسية (1858 - 1870) كانت الصحف في دور التكوين، (لغة ومصطلحًا وتبويبًا وعدد صفحات...) تحبو مع روّاد أحبوا المعرفة ورغبوا في نشرها، فتنوعت تجاربهم، وقد اهتم بعضهم بالأخبار السياسية أو أخبار المؤسسات الدينية، وآخرون بالقصص المترجمة، أو الكتب القديمة، أو إعلانات الدولة،... فكانت مرحلة تأسيسية مهمّة لمسيرة الصحافة والحرية في لبنان.
لكنّ قضية الحرية استمرَّت في أزمة، فانتشار الصحف الذي زاد، بقي محدودًا رغم ذلك، فالصحيفة لم تكن تُباع، بل توزَّع على المشتركين - وأسعارها التي تشير إليها هي سنوية فقط - وبعض الصحف كان يتعرَّض للمراقبة الدائبة، وذلك بوضع طابع على كل عددٍ منها بإشراف عثماني مباشر.

دولة الصحافة
ثم ظهرت صحف أكثر تقدّمًا وجرأة بعد هذه السنوات، حين خشي السلطان عبدالحميد الثاني عواقب «دولة الصحافة»، فأصدر أوامره بتقييد حرّيتها وتشديد الرقابة عليها، فتذمّر الصحافيون الأحرار من قلم «المكتوبجي» وتعسّفه، وسئموا خنق حرياتهم، فترك بعضهم بيروت مرغمًا إلى مصر وبلاد أوربا، حيث أسسوا صحفًا نالت شهرة كبيرة.
ولأن «بيروت» لم تكن «ولاية» مستقلة حتى عام 1877، فحين صدر الفرمان العثماني، استنادًا لرغبة أهلها، بجعلها ولاية تتبعها ألوية عكار وطرابلس واللاذقية ونابلس، أصدر والي بيروت علي باشا صحيفة الولاية الرسمية باسم: «بيروت الولاية» عام 1888، وهي أول صحيفة رسمية بطبعتين عربية وتركية، أسبوعيًا.
ويمكن القول إن معظم الصحف، حتى هذه الفترة، كانت صحافة أفراد، وإن كان كل من أصحابها محسوبًا على طائفة ما يفضّل نشر أخبارها، وفي هذا السياق، نلحظ أن الطوائف جميعًا استكملت تمثيلها في الصحف.
لم تكن لغة هذه الصحف فصيحة العبارة تمامًا، أو بليغة الأسلوب، وقد انتقدها روّاد النهضة آنذاك، أمثال أحمد فارس الشدياق، والشيخ إبراهيم اليازجي، الذي جعل همّه إصلاح لغة الصحف.
وحين أُسست «الجمعية العلمية السورية» عام 1868 برئاسة الحاج حسين بيهم العيتاني، أصدرت صحيفة «مجموعة العلوم»، فيها مباحث في التاريخ والأدب والزراعة والصناعة والتجارة، مرّة واحدة في الشهر.
وأصدر الأديب سليم البستاني، ابن المعلم بطرس البستاني، صحيفة «الجنة» عام 1870، وكانت «أسبوعية سياسية تجارية».

صحافة الأطفال
كانت تلك السنوات قد عرفت «صحافة الأطفال» مع «كوكب الصبح المنير» عام 1871، ثم أُسست «جمعية الفنون» عام 1875 وقررت إصدار صحيفة تُعنى بشؤون المسلمين، أسوة بصحيفة «الجوائب» التي كان يصدرها في اسطنبول الأديب اللبناني الكبير أحمد فارس الشدياق، فاستحدثت هذه الجمعية أول «شركة مساهمة» من اثني عشر سهمًا، قيمة الواحد منها خمسمئة قرش، لإصدار صحيفة ثمرات الفنون، وفوضت إدارتها إلى الشيخ عبدالقادر القباني، الذي كان على رأس الكوكبة الريادية التي أسست عام 1878 جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، أكبر الجمعيات التي تضم المدارس والمستشفى والجوامع والمرافق الاجتماعية في بيروت وخارجها.
فكانت باكورة هذا النوع من الصحف، تبعتها صحيفة التقدّم عام 1874 ليوسف الشلفون، وهي نصف أسبوعية، في صفحتين، ثم «ثمرات الفنون».
أمّا أطول الصحف اللبنانية عمرًا، فهي صحيفة «لسان الحال» التي أصدرها خليل سركيس عام 1877، وكانت «تجارية زراعية صناعية معتدلة».
في عام 1886 أصدر محمد رشيد الدنا صحيفة «بيروت» (علمية سياسية تجارية أدبية) مرتين في الأسبوع.
وكتب عبدالقادر القباني حين صدر الدستور العثماني عام 1908 في صحيفته «ثمرات الفنون»: «إن مسؤولية أصحاب الجرائد في زمن الدستور أعظم منها في دور الاستبداد، لذلك يلزم أن يقوم بتحرير كل جريدة نخبة من الكتاب من جميع العناصر للمحافظة على تأليف وحدة عثمانية من عناصر الوطن، فتعتزّ الجامعة العثمانية بهذه الوحدة، ولا أحد أقدر من الجرائد لتحقيق هذه الأمنية التي هي روح الدستور إذا اتفق كتّابها على التفاهم ونبذ كل ما يدعو إلى سوء التفاهم».

دوريات علمية متخصّصة
قبل ذلك كانت بيروت قد عرفت «الدوريات العلمية المتخصّصة» ففي عام 1876 صدرت «المقتطف» للأستاذين في الطبيعيات والرياضيات يعقوب صرّوف وفارس نمر، اللذين كتبا عن مجلتهما: «هي آمَنُ السبل لتنوير الأذهان وانتزاع ما فيها من تقاليد مضرّة، وإن المقتطف هو الوسيلة الناجعة لنقل خلاصات الأبحاث العلمية والاكتشافات إلى اللغة العربية». وصدرت أيضًا «الطبيب» مجلة طبية شهرية للدكتور جورج بوست، أستاذ الجراحة والنبات في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية)، وكان يستحدث مصطلحات في مقالاته، منها: الخرشوف (الأرضي شوكي) - الطلاء (الفرنيش) - فيالج (شرانق) - ورق مقوّى (كرتون) - الآح (زلال البيض) - المُح (صفار البيض).
وفي سياق الرغبة لنشر المعرفة، صدرت عام 1884 سلسلة «الفكاهات في أطايب الروايات» للأديب نخلة قلفاط، لنشر الروايات التاريخية والأدبية متسلسلة.
وكانت للجامعات دوريّاتها أيضًا، فصدرت عن الجامعة الأمريكية: الروضة - الحديقة - الكنانة، وعن جامعة القديس يوسف صدرت «المشرق» عام 1898، صاحب امتيازها الأب لويس شيخو اليسوعي، الذي كان يُعنى بتأليف الكتب العربية وقواميس اللغة، منافحًا عن اللغة العربية، وقد كتب في عددها الأول: «الحمد لله، تفتخر بلادنا بكرام نفضوا عن اللغة غبار الأيام، وشيّدوا فيها للعلن بيتًا عالي المنار، بيد أنهم نزر يسير أيّدهم الله وكلّل بالنجاح أعمالهم وحفظنا من شر سواهم، وما أدراك من سواهم، هم قوم نزلوا بشرف الكتابة إلى حضيض الهوان، وبذلوا ماء وجه العربية وهو أولى بأن يُصان، شوّهوا صفحات الجرائد وأفسدوا بطون الكتب... فجنوا على أنفسهم وجنوا على الكتّاب المجيدين، وجنوا على القراء فاستنزفوا أموالهم وأوقاتهم وعوضوهم منها سآمة ونفورًا».

أول صحيفة نسائية
كان الكلام الهزلي و«الصور الكاريكاتورية» تعبيرًا سياسيًا، فتبنته دوريات كثيرة منها: حمارة بلدنا -  يأجوج ومأجوج - كركوز - أبو النواس - جراب الكردي - السعدان - جحى.
أمّا الدوريات باللغة الفرنسية، فكانت أوّلها صــحــيفة Correspendant d’Orient  لجــورج سمنة وخليل غانم ثم  Le   Reveil   تباعًا عام 1908 و1909. ومع بداية الوعي الاجتماعي بدور «المرأة» صدرت أول صحيفة نسائية للأديبة سليمة أبي راشد هي «فتاة لبنان».
وهكذا استقطبت بيروت أكثر الصحف الصادرة، وذلك نتيجة لما شهدته المدينة من حركة علمية، وثقافية، وأدبية متنوعة، مع تركّز المدارس والجامعات فيها، الخاصة والتابعة للإرساليات، فهي جميعًا حرّكت البحث العلمي، وأثارت المواهب الأدبية باللغة العربية وباللغات الأجنبية، وإن كانت اللغة التركية في مدارس المعارف تتصدر اللغات ومواد التدريس فيها.
وهكذا أقبل المثقفون والمهنيون على «الصحافة» كتّابًا وقرّاء، فبرزت، مع نهاية القرن التاسع عشر، صحف متميّزة، وإن مثلّت طوائفها، طوعًا أو تبعيّة، وأجرت سجالات عقائدية أحيانًا فيما بينها، فقد أوضحت أن هذه المواضيع المثارة تخدم المؤمنين، وتعلّمهم أصول دينهم عن طريق الشرح والتأويل والنقاش، ففي بسط هذه المواضيع ثقافة، من خلالها لمسنا، أيضًا، الحضّ على الأخلاق الكريمة، والتفريق بين ما هو ضارّ وما هو نافع من العادات.

مهمة تنويرية
هذا الطابع الديني، والعلماني الذي قابله أحيانًا، انعكس على مضامين الدوريات المدرسية والجامعية: خطيّة ومطبوعة، معلنًا ولادة أدباء وصحافيين ومهتمين بالشأن العام.
وقبيل حلول الانتداب الفرنسي على لبنان، أي مع انتهاء زمن «اليقظة الثقافية» في بيروت، صدرت صحيفة الإقبال للشيخ عبدالباسط الأنسي عام 1902، ثم «البرق» للشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، أمير الشعراء عام 1908، وفي السنة نفسها أصدر صديقه (الشهيد) عبدالغني العريسي صحيفة «المفيد».
كانت مهمة الصحافيين (والمفكرين والأدباء) تنويرية واستنهاضية، فناضل بعضهم في التعليم وفي السياسة إلى جانب الصحافة، والسلطان عبدالحميد هو القائل «لو قُيّض لي العودة إلى يلدز لوضعتُ الصحافيين في أتون كبريت»، لكنّ المدارس والجامعات كانت قد كثُرت وتنوّعت، «فتقدّم الدور الثقافي لمختلف الدوريات في بيروت، لكونها المنابر النهضوية لشباب العرب وعلمائهم وأدبائهم، في كلّ ما له صلة بالعروبة وتاريخها ولغتها وحقوقها، دعمًا لهذه الفكرة الجديدة الناشئة» في التزام ميّز النهضويين اللبنانيين، ولو تعدّدت دعواتهم أو تواجهت، فالجميع كانوا يتطلّعون إلى حياة أفضل ■

خليل الخوري

 

3 - بيروت في عيونٍ عربية وغربية

أنشدت الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة في بيروت:

يا بنتَ سـبعةِ آلافٍ ومـا بَرِحـت  
صبيـــــةً تشـتهي الدنيا مُقَبَّلها 
عَـصِيَّةٌ لا توالي القهـر بدَّلها
ولا الــــــدمارُ ولا العدوانُ ذلَّلَها
قصـيدةٌ أنتِ يا بيـروتُ مـبهــمةٌ
ما قالها شــــاعرٌ لكـن تخـيـلهــا
أراد مُعجزةً في الفنّ خالقُهــا
فَلَـمَّ من أجمـل الأشياء أجملها
وصبَّ من روحــه في ناسها ألقًا
وحيــن أكملهـــا، صلّـى وقبّلهـــا

 

ما زلنا نعمل على قراءة تاريخ بيروت واسمها، في آثارها، فهي «بيروتوس»، و«بيروتا»، و«بئروت» وقيل إن اسمها فينيقي، وإنه ورد في الكتابات الهيروغليفية وفي التوراة. وفي أيام الرومان سمّيت المدينة على اسم ابنة أغسطس «بريتوس»، حين عرفت بجامعتها القانونية الكبيرة.
والعرب عرفوها «ثغرًا» و«مربطًا»، والعثمانيون سمّوها «درّة تاج آل عثمان»... فتعدّدت أسماؤها، وظلت «ملكة» خالدة، منبسطة عند سفح الجبال، يحيط بها البحر من ثلاث جهات، بلدةً ومرفأ، وولاية عثمانية في عام 1888، ثم عاصمة للدولة اللبنانية.

تاريخها العربي
في عام 635 م دخل معاوية بن أبي سفيان إلى بيروت، في أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فحصّن قلاعها، ثم جلب إليها «مرابطين»، فأصبحت في العهود التي تلت قاعدة عسكرية إسلامية تابعة لدمشق، ومنها انطلقت حملة معاوية البحرية لفتح جزيرة قبرص.
ونقلت المصادر التاريخية العربية القديمة أن بيروت «كانت خصبة التربة، محاطة بالبساتين لها برجان، وقناة محفورة تجلب المياه بواسطتها إلى قلب المدينة».
و«تقصدها مراكب الإفرنج ببضائعهم، وجماعة التجار يسكنون فيها الخانات... وكانت ضرائب الواردات والصادرات تؤخذ في بيروت، وهي تبلغ جملة مستكثرة، وعلى باب الميناء دواوين وعامل وناظر ومشرف يوليهم والي نائب دمشق الشام».
وبقيت بيروت في أيدي المسلمين حتى هاجمتها جيوش الصليبيين عامَي 1102 و1110، فدمّرت مساكنها وهدمت قلاعها، فاستخلصها من بين أيديهم السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 1187، قبل أن تتبع سلطة المماليك، وتلحق بنيابة طرابلس.
حصّن المماليك قلاع المدينة، وشادوا فيها المساجد والبيوت التجارية، فكتب فيها الإصطخري في هذا الوقت «في بيروت كان مقام الإمام الأوزاعي، وفيها نخيل وقصب سكر والغلاّت المتوافرة، وتجارات البحر، وهي مع حصنها حصينة، منيعة السور، جيدة الأهل، مع منعةٍ فيهم في عدوّهم وصلاح في عامّة أمورهم». 
وفي عام 1516، بعد انتصار العثمانيين على المماليك، حكمها أول عثماني هو محمد بن قرقماز الجركسي.

تاريخها العثماني
امتد الحكم العثماني منذ عام 1516 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تخلّله الحكم المصري من عام 1832 إلى 1841، في مطالعه حلّ المعنيوّن محل التنوخيين في السيطرة على بيروت، فكانت «العاصمة الشتائية» لهم، وفيها، نشّطوا الصناعات وغرس الأشجار وترويج تربية «دود القز» المنتجة للحرير. وبنى الأمير فخر الدين المعني فيها برج الكشاف (في ساحة البرج وسط العاصمة اليوم) وجسورًا على مداخلها، وخانات للتجار الأجانب، وزرع غابة الصنوبر الكبيرة، خارج بيروت (القديمة)، فعرفت بيروت رخاء، ومكانة بارزة اقتصاديًا واجتماعيًا.
في عام 1888 جعل السلطان العثماني بيروت «ولاية»، ففُصلت عن دمشق، وتبعتها ألوية طرابلس واللاذقية وصيدا وصور ومرجعيون وعكا ونابلس وطبريا... وما لبثت بيروت أن عرفت «نظام حماية الأجانب»، بإعطائهم امتيازات وحقوقًا لم يتمتع بها أبناء الدولة العثمانية ورعاياها.

بذور النهضة 
حين تركّزت في بيروت رؤوس أموال أجنبية، وكثر الوافدون إليها من سيّاح وتجّار، بدأت المدينة تؤسس لنهضة جديدة، فعُبّدت طريق بيروت دمشق عام 1869، وتم تحديث مرفأها عام 1894، وأُسست وكالات سفر وتجارة عالمية فيها، ومؤسسات مالية عثمانية ومحلية وأجنبية، في خضم تزاحم الدول الأجنبية لامتيازات خاصة في بلادنا، بالتعاون مع «عائلات برجوازية» من المدينة، من المسيحيين والمسلمين، وكانت فرنسا سبّاقة في ذلك.
هذا الانفتاح في بيروت، يسّر ازدهار حركة فكرية، ومظاهر روح قومية عربية، فظهرت في بيروت «صحيفة الآداب والعلوم» و«الجمعية الشرقية» عام 1847، و«الجمعية العلمية السورية» عام 1868 و«جمعية بيروت السريّة» عام 1875، لتؤسس المدارس والجامعات وتصدر الصحف على أنواعها. فأُنشئت «الجامعة الأمريكية» عام 1866 ثم «الجامعة اليسوعية» عام 1875 ومدارس جمعية المقاصد ابتداء من عام 1878، وصحف صديقة الأخبار، وبيروت، وثمرات الفنون، ولسان الحال. واتسعت بيروت جغرافيًا، فامتدت مساحتها المحصورة داخل سورها إلى الضواحي، وتجاوز سكانها في أواخر القرن التاسع عشر المئة والعشرين ألفًا.
وشوارعها التي كانت «رملية ضيقة تحدّها إما شجيرات الصبّار أو الحيطان المتداعية الأحجار، توسّعت وصارت تضاء بمصابيح الغاز الذي يُمدّ بأنابيب تأتي رأسًا من الشركة الفرنسية».
  وصارت بيروت مركزًا تجاريًا، «فالثورة الصناعية التي استلزمت افتتاح الأسواق الخارجية للبضائع الأجنبية والتقدم الحاصل في وسائل النقل البحرية، اضطر ولاة الأمر إلى أن يعيروا التفاتتهم لمرفأها»، فصارت بيروت مقصدًا للتجار الأوربيين والسوريين وأهل الجبل.

بيروت بأقلام القناصل والرحّالة
يمتعنا الشيخ طه الولي في كتابه عن «بيروت في التاريخ والحضارة والعمران» بما نقله عن زائرين لبيروت مثل: أولدنبرغ وديودوريتش ونيقولا بوجي بونسي... يصفون في رسائل لهم طبيعة بيروت، وبحرها، والقصور الصليبية فيها، ومعابدها من جوامع وكنائس، ويكتبون عن حُسن تعامل البيروتيين معهم.
  ونقل عن الرحّالة الفرنسي برتراندون دو لا برّوكيه، الذي زار بلادنا عام 1432: «.. ورأيـت المسلميـن في بيروت يحتفلون بعيدهم على طريقتهم التقليدية، بدأ الاحتفال مساءً عند الغروب، فأخذت جماعاتهم تسير هنا وهناك فرحةً العيد، تهزج بالأناشيد، وأخذت مدافع القلعة ترمي قذائفها، وأخذ الناس يطلقون عاليًا في الفضاء صواريخ يفوق حجم الواحد منها حجم أكبر فانوس عرفته، وقد أخبرت أنهم يستعملونها أيضًا لإشعال النار في أشرعة سفن أعدائهم». وتقل عن سائح أوربي اسمه بوكوك زار بيروت عام 1637 أنه كتب: «أمّا اصطبلات قصر الأمير فخرالدين فهي مبنية في أسواق قائمة على أعمدة مربعة، وبكل حجرة منها معلف وكوة للتهوية، وقد وزّع الأمير على كل قسم من القصر أقنية للمياه مخبأة في بطن الجدران».
وفي عام 1784 زار النبيل الفرنسي الدبلوماسي والمستكشف فولني بيروت، وكتب فيها مذكرات جذابة، إذ لفته وجود «وكلاء وطنيين من أصحاب الطقس اللاتيني» للتجار الأوربيين، وفي طرقها «كان لا يجد إلّا أناسًا في أيديهم المسابح، وإذا استفز أحدهم الحديث قال: يا الله... وإذا باع أحدهم خبزًا نادى: الله كريم، وإذا باع ماء قال: الله جواد». 
أما القنصل الفرنسي هنري غيز فننقل من كتابه عن «بيروت ولبنان» (1828)، الذي ترجمه الأديب مارون عبود: «... وسكان بيروت يضيفون أبناء الجبل ورجالات الأساكل الذين تجتذبهم أعمالهم التجارية إلى مدينتهم، لأنّ الأهلين في الشرق هم الذين يهتمون بإيواء من يأتي راكبًا أو على الأقدام.. وهذا ما يُتعب ويدعو إلى النفقات»، ويتابع في مكان آخر: «والبيروتيون يحتلّون المكانة الأولى بالتقتير على أنفسهم في جميع ضروب المعيشة، إلّا أنني بعد أن تعرّفت بأهالي حلب، أقول، اعترافًا بالحقيقة، إن سكان بيروت يتخلّون لهؤلاء عن الأوّلية».

الوجه الأوربي والحديث لبيروت
حين تسلّمت الإدارة الفرنسية الانتداب على البلاد، كتب أحد دبلوماسييها عام 1921: «تبدو بيروت اليوم حفنة خراب، وعما قريب لن تسمح المباني الحديثة لعالِم الآثار بأن يتمكن من التعرّف إلى معالم المدينة القديمة»، وفعلًا، بعد سنوات قليلة قرأنا في دليل سياحي يعود إلى عام 1932 «بيروت متغربنة جدًا... نجدها نسخة عن نيس»، فهنا نخبة اجتماعية واقتصادية «أغواها» الغرب فقلّدته.
وفضلًا عن الشوارع العريضة والمباني السكنية المترفة، ارتفعت الفنادق، وانتشرت دور السينما ووسائل التسلية، بل وأنشئت «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» عام 1937، لترعى التعليم الفني، وسجّلت الأغنية الأجنبية والعربية نجاحًا ملحوظًا، فرحبت بيروت بأم كلثوم وعبدالوهاب وبديعة مصابني، ونافست القاهرة في صحافتها الأدبية، وراح التعليم فيها ينسجم مع المعايير الغربية، فتعدّدت «المدارس» وتم تحديث الجهاز التعليمي.
واكتملت عناصر الحداثة في مدينة تتوق لتبقى «لؤلؤة الشرق»، فصارت منتجعًا للعرب، في الصيف والشتاء، ومصحًّا وفندقًا وجامعة... بل وأفضل مكان لعقد الصفقات والتواصل مع الغرب، ومع بلدان الخليج النفطية، واللجوء الاجتماعي والسياسي والمالي. ويكتب الصحافي الشهيد سمير قصير في كتابه «تاريخ بيروت» أنه في عام 1974 «استعرض الفنان زياد الرحباني، ابن المعجزة فيروز في مسرحيته الغنائية «نزل السرور» مشهدًا فيه أحد الجائعين المنادين بالثورة، إذ المدينة المختلطة اجتذبت الأضداد، وكانت عاجزة عن صهرها، فاتسعت الهوّة بين التحضر والمواطنة، ولم تلبث بيروت أن صارت: عاصمة الألم».

بيروت اليوم ... وغدًا
بعد اندلاع الأحداث الأليمة، من تاريخ 13 أبريل 1975، صارت بيروت «صورة» أخرى رآها أهلها والعالم تحترق وتتهدّم، وانطفأ البريق الذي عملت على إضاءته سنوات، فتحوّلت خرابًا مس الحجر والإنسان، وقوّض النظام... والأحلام، وملّ المشاهدون والقرّاء، في العالم، مشاهد وأخبار «عاصمة الألم» سنوات طويلة. واليوم، مع مطلع القرن الحادي والعشرين، ومع أحلام حاول رفيق الحريري أن يعيد بها لبيروت حياةً جديدة، ما زالت تتخبط في «صور مخادعة»، لم تثبت بعد، ولم تتضح... فالمساحات المشتركة ( في الجغرافيا والاجتماع) ندرت، والضغوط عليها تكاد تكتم أنفاس الحرية فيها، أزماتها تدور ولا تنتهي، و«الإعمار» الحجري والإنساني ما زال يفتش عن صيغة لتميّز المدينة، وأختم مع عنوان صغير لسمير قصير في كتابه «أية مدينة لأي دور؟»، إذا كان للمدينة دور، ولبيروت مكانة، فـ «قدَرُها أن تعيش وأن تعود إلى الحياة مهما كان، يمرّ «الغزاة» بها وتُبعث المدينة بعدهم»، كما كتب أليزيه روكلو عام 1905 ■