الأديب السوداني معاوية محمد نور وبيت المتنبي

الأديب السوداني معاوية محمد نور وبيت المتنبي

يقول أبو الطيب المتنبي (915 - 965م)
    ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ
                 وأَخــو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
   لولا أن الشاعر قال هذا البيت قبل أكثر من 1000 عام لقلت إنه عنى به المفكر الفذّ والأديب السوداني معاوية محمد نور شخصيًا، ولو أدرك المتنبي هذا الزمان لخصّه بعبقـريته الباهرة بهذا القول فعليًا... وكلاهما أنموذج صارخ للنبوغ والطموح المفضي إلى النهايات التراجيدية. لم يخطر في بالي الكتابة عن القاصّ والناقد والمفكر الفذّ معاوية محمد نور، أحد أهم العلامات الفارقة في الفكر والأدب في ثلاثينيات القرن العشرين، وذاك لأسباب عدّة، منها ما هو موضوعي، ومنها غير ذلك، وأهمها قلّة ما قرأناه عن سيرته ومسيرته الفكرية والأدبية.

 

عندما قرأت بيت المتنبي، قفز إلى ذهني لأول وهلة، إذ يعد مثالًا جليًا لما عنى الشاعر، والغريب أن كليهما عاش حياة ملؤها النبوغ والتوثّب الدائم، والعنت والشقاء، والتطلع والطموح الجامح - المتنبي بالسعي نحو الإمارة، ونور بالسموّ لريادة الفكر.
ولأجل إنضاج الوعي وإثبات الذات، سعى كلاهما لتحقيق رغبته بجهده ووسائله الخاصة التي تتفق مع عصره، وخاضا تجارب قاسية ومريرة، وانتهى بهما المطاف نهاية درامية لم تخطر في الحسبان.
هذه ليست دراسة أو مقاربة بين المبدعين، رغم أنها متوافرة في بعض ما هو قدري، وما هو مكتسب، يتلمّسها القارئ في السياق، وإنّما خواطر انبثقت بغتة، رأيت أن أدوّنها بمناسبة مرور 80 عامًا على رحيله الذي حدث عام 1941م، وكان لا بدّ أن نقرأ معًا بعضًا مما جاء في مقالاته وكتاباته التي دوّنها خلال سني حياته القصيرة، وحوت لمحات موجزة عنه، لاستشفاف مكنون عقله وطرائق تفكيره، وأساليبه الكتابية، والجهود العقلية والمعاناة التي كان يبذلها للوصول إلى غاياته.

 عشــق مجــنون
خرج معاوية إلى الدنيا عام 1909م من صلب أسرة معروفة في السودان، فجدّه لأمه أحد أمراء دولة المهدية (1881- 1898م)، ووالده رجل ميسور الحال، يسكن حي الموردة بالعاصمة الوطنية أم درمان، على مرمى حجر من نهر النيل، وعلى نحو ميل عن مقرن النيلين. 
وكما جرت العادة ألحق في بواكير طفولته بالخلوة، فقرأ القرآن الكريم وتعلّم مبادئ الكتابة والقراءة، ثم ألحق بمدرسة أم درمان الأولية، وانتقل منها إلى مدرسة أم درمان الوسطى، وكان والداه قد توفيّا وهو دون العاشرة، فكفله خاله الدرديري محمد عثمان، وهو من المستنيرين، وأحد رواد الحركة الوطنية في السودان، وأول قاضٍ سوداني بالمحكمة العليا، وقد اختير عضوًا لأول مجلس سيادة عقب استقلال السودان (1956 - 1958م).
وفي مرحلة تعليمية مبكرة، انشغل نور وتعلّق بالكتب إلى حد لا يُوصف، يقول في مقال «الكتب وأنا أو أنا والكتب» - (جريدة مصر، العدد 10256 - 24 أغسطس سنة 1931م):
 «لا أعرف على وجه التحقيق متى أحببت الكتب، أو متى هامت الكتب عشقًا بطلعتي البهية - ذلك ما لا يتيسّر لي أمره الآن!... لكنني أدري أنني وصديق قديم لي حينما كنت في المدرسة الابتدائية، كنا نجمعها ونرّصها ونفخر بكثرتها ولا أقول قراءتها - فنحن قلّ أن نقرأها - وكل ما في الأمر «أهو عشق والسلام !»... (عشق مجنون لا عقل فيه).

تفوق باهر
وما هو مؤكد أنه أثبت تفوقًا باهرًا منذ البداية، وتم قبوله بالمرحلة الثانوية بكلية غردون (جامعة الخرطوم حاليًا)، وفيها سجّل نبوغًا لافتًا مُنح على أثره عام 1927م قبولًا مجانيًا للالتحاق بكلية كتشنر الطبية، إلّا أن الصبي ما لبث أن ترك دراسة الطب ليدرس الأدب الذي كان يميل إليه بشكل خاص، يقول أستاذه بالكلية وصديقه اللبناني إدوارد عطية (1903 - 1965م)، في كتابه الصادر بالإنجليزية «تلميذي معاوية محمد نور»، ترجمة د. محمد وقيع الله... «وكان معاوية في هذا الموقف المتأبي العجيب ظاهرة لم يشهدها السودان من قبل».
لكنّ ثمّة ضغوطًا أسرية منطقية دفعت به مُكرهًا لدراسة الطب، وإزاء عشقه المفرط للأدب لم يكن بوسعه المكوث بالطب كثيرًا، فغادر خلسة إلى مصر لتحقيق رغبته، إذ لم تكن بالسودان آنذاك كلية للآداب. لكن سرعان ما سعت أسرته إلى إرجاعه إلى السودان لصغر سنّه. لكنّ الواقع أنه كان ملك نفسه في السعي إلى تحقيق غاياته المعرفية. وبعد لأيٍ شديد توصلت الأسرة مع أستاذه إلى إمكانية إلحاقه بالجامعة الأمريكية في بيروت.
لما حطّ الطالب ذو الثمانية عشر عامًا رحاله في لبنان، فتنته مطابعها ومكتباتها الزاخرة، وتوطّدت علاقته بالكتب والمكتبات بصورة تدعو إلى الدهشة، وهام بها عشقًا بلغ حدّ الجنون... «لأن لمرأى الكتب عندي سحرًا خاصًا يزري بكل سحر. ولطلعتها البهية فتنة، تفوق فتنة الغيد الحِسان، ولأن لرائحتها الزكية وهي تخرج من المطبعة أريجًا يزري بأريج الياسمين!
    كما يحلو لي بنوع خاص أن أفتح الكتاب الجديد وأشمّ رائحة الأوراق وأنا أحتسي الشاي أو أدخن، وأعد كل ذلك متعة لا يجود الزمان بمثلها إلا في القليل النادر».

رغبة وطموح
في المرحلة الجامعية، التقت الرغبة والطموح، فلم يحصر نور قراءاته في جنس معرفي واحد، وإنّما ظل يبحث ويجرّب ويغترف من المصادر كافة، ويجد لذّة في عالَم المعرفة الذي لا ساحل له، وكان مغرمًا به غرامًا ليعسر وصفه، وقد لا يدهش أحد بعد قوله... «كنت أحاول - وأنا طالب في الجامعة - أن أقرأ المكتبة... يا للجنون!... فكنت أذرعها كل يوم من الشمال إلى اليمين، ومن اليمين إلى الشمال، فتجدني في بعض الأيام لا أقرأ ولا أتكلم إلّا عن «السيكولوجيا»، وفي آونة أخرى قد يتسلّط عليّ شيء اسمه «الدراما»، وفي آونة أخرى كتب الرحلات والمذكرات وما إليها، وقد أترك كل هذا لخاطرة، فأروح أدرس الكهرباء أو الجهاز العصبي، أو نظام التغذية. وأدرس هذه الأشياء في الأيام الأولى بحماس شديد، وسرعان ما يذبل هذا الحماس، فأنقلب أقرأ شيئًا آخر، وقد يكون عن التراجم أو خطابات العظماء ويومياتهم أو عن التربية، إلى آخر ما كتب الكاتبون وطبعت المطابع!
وقد أغضب أحيانًا لهاته الحالة النفسية الشاذة، وهذا الغرام الأعمى بالكتب، فأحبس نفسي يومًا كاملًا عن المكتبة لا أزورها - فيخيّل إليّ أن الكتب الجديدة من روسيا وألمانيا قد أتت فجأة - نعم فجأة أيها القارئ، إيّاك أن تضحك - فأروح مسرعًا في صبيحة ذلك اليوم إلى المكتبة وأبدأ عملية ذرع! لا حول ولا قوة إلا بالله - ماذا أقول في هذا!... أهو جنون؟... نعم هو كذلك. لكنّه جنون لا دخل لي فيه ولا سلطان لي عليه».
   لقد كان نور مثالًا صادقًا للقارئ النهم، الذي تغذى على نحو أشد بأدب وفنون الغرب، وهو يرنو إلى أفق بعيد «فأتصور نفسي بين جمع من الإخوان أحاضرهم في كبرياء ولوذعية عن سوناتات بتهوفن وعن الهارموني، والميلودي، والحركة وأين يختلف فن شوبان عن فنّ فاجنر الذي يكثر فيه التفكير وتقلّ العاطفة». وما كان غريبًا أن يطمح «وأروح أتصور نفسي بين جمع حاشد وأنا أهذي بهذه المعلومات الرفيعة، وكلّهم آذان صاغية وأفواه فاغرة تلتهم ما أقول». إلّا أن طموحه تعدّى ذلك، بل ذهب إلى أوسع نطاق، من خلال الصحف والمجلات المصرية التي كانت تحتفي بمقالاته.

فتوحات جديدة
قضى نور في لبنان 3 سنوات تقريبًا، وحالما حاز بكالوريوس الآداب من الجامعة الأمريكية، هبط أرض مصر - دار الكتابة - وربما في ذهنه (القاهرة تكتب، ولبنان تطبع، والخرطوم تقرأ)، قبل أن تصبح مقولة سائدة. ومن الذكاء بمكان أن يعرف المرء أين يحُطّ قدميه، ويختار البيئة التي تلبي طموحاته. وفيها أفسحت له كبريات الصحف والمجلات المصرية صفحاتها لينشر أفكاره وأطروحاته وتجلياته، منها جريدة السياسة الأسبوعية، والبلاغ الأسبوعي، والجهاد، والمـقتـطـف، والإجيـبـشيـان غـازيت الإنـجـليـزية، ومجلة الهلال، ثم مجلة الرسالة.
وفي وقت وجيز، برز نور كموهبة خارقة، ودائرة معارف متجددة تمشي على قدمين، آتٍ بما لم يسبقه عليه أحد في المنطقة العربية، مدفوعًا بنزعة تجديدية خالصة، وحاجة قوية إلى الخلق والابتكار، ولولا مقدّراته واعتداده بنفسه وبآرائه وأفكاره الجديدة وجرأته على الطرح، لما وجد مساحة لحرف في الصحافة المصرية، خاصة وقد كانت فترة النصف الأول من القرن العشرين غنية وموّارة بنشاط فكري وأدبي خلّاق، دعائمه روّاد الحركة الفكرية والأدبية الحديثة، أمثال مصطفى صادق الرافعي، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وسلامة موسى، ومحمد مندور، وعبدالقادر المازني، وغيرهم. والواقع أنه كان محظوظًا بهبوطه إلى القاهرة، إذ تعرّف وصادق الكثير من رموز الفكر والأدب، وفي مقدمتهم المفكر الأديب عباس العقاد (1889 - 1964م) الذي رأى فيه عبقرية متوهجة، وعدّه من طينته، وحينئذٍ ضمه إلى صالونه الأدبي، واتخذه صديقًا ألمعي العقل، صافي الذهن، حتى إذا ما غاب كان الشعور بفقده عظيمًا، وشهد له بالقول «لو عاش معاوية لكان نجمًا مفردًا في سماء الفكر العربي»، ونعاه بمطوّلة «معاوية الشهيد».
تبيــنت فــيه الخلــــد يـوم رأيــته
ومـــا بان لـــي أن المنـــية آتـــــــيه
ذلك لأن الفتى الصغير أعطى لعصره فكره وجهده، وأسهم في تحقيق قدر من المنجزات النهضوية، يقول عطية: «واعترف كبار الكتاب بالقيمة العالية للآراء التي بثّها في مقالاته الدسمة. وقد سعد معاوية بذلك الإطراء لبعض الوقت». 

أضاف معاوية إلى العالَم العربي فتوحات جديدة في النقد الحداثوي، وفي عالَم القص القصير، فكان أول من عُني بالقصة القصيرة التي تتلمس الجانب النفساني (السيكولوجي) للشخصية في القصص، وكتب في هذا الضرب على النهج الأوربي في محيطنا العربي، حينما نشر لأول مرة قصته القصيرة «ابن عمه» في السياسة الأسبوعية (العدد 219 - 17 مايو 1930م)، مبتدرًا إياها بمقدمة «أرمي في كتابة هذه الصور والأقاصيص السودانية إلى درس الشخصيات درسًا بسيكولوجيًا، درسًا يُعنى بالنتائج والأسباب، كما يُعنى بالدوافع والأزمات، فلربما أعرض الصورة من الحياة أو الشخصية أو القصة، فلا يرى فيها القارئ ما اعتاده من عُقد ومفاجآت وحوادث غريبة، وما إليها من ألوان الحيَل القصصية. ذلك لأنني أعتقد أن هذا مذهب خاطئ قد شاخ وتلاشت معالمه من الفن القصصي المجيد! فالحياة - ولا شك - لا تحصل دائمًا أو كثيرًا في مثل هذه العقد والمفاجآت التي يأتي بها هؤلاء الكُتَّاب. وعندي أنه حسب الفنان المجيد أن يعرض جزءًا عموديًا أو أفقيًا من الحياة، مع التحليل الفني اللازم وعمل الخيال الناضج الموزون والدرس «البسيكولوجي» المتسق مع الطبائع والنفوس. فإذا كانت وجهة القارئ كما وصفنا، فليقرأ هذه القصص، وإنا زعيمون له أن يقرأ شيئًا طريفًا لم تعهده الآداب العربية بعد».
 ويضيف قائلًا... «وأن خصائصها الفنية هي خصائص سكان هذا النيل المبارك، وعبقرية وضعها هي عبقرية هذا الوادي الحزين. فهي من هذه الناحية من الأدب القومي الصميم، إلّا أن العادات الطارئة والصبغة المحلية ليست بأساسها، وإنما أساسها النفس البشرية والطبيعة الإنسانية التي تُعنى برسمها وتصويرها تحت مؤثرات خاصة من الزمان والمكان والحضارة والثقافة، فهي من هذه الناحية من الأدب العالمي الصحيح، وهذه ولا شك هي شارة الفن الرفيع عند كل الأمم ولدى كل العصور».
وبعد قصته الأولى نشرت له جريدة السياسة الأسبوعية قصص «إيمان» (العدد 236 - 13 سبتمبر 1930)، و«القطار- مأساة» (العدد 243 - 11 نوفمبر 1930م)، «في الخرطوم - خواطر وذكريات» (العدد 246 - 22 نوفمبر 1930م)، كما نشرت له جريدة مصر «أم درمان - مدينة السراب والحنين» - (العدد 10303 - 17 أكتوبر 1931م). و«الموت والقمر» (العدد 10377 - 13 يناير 1932م).

المشعل التنويري
مع مرور الأيام، استطاع نور أن يرسخ أقدامه في بلاط الصحافة المصرية، وهو يقرأ في أمهات الكتب بصبر وأناة، محيطًا بما قرأ إحاطة لا تخلو من استفسار وحوار مكتومين مع المؤلف، وحميمية بالغة مع الكلمات، وممارسًا في الوقت ذاته دور الناقد الجريء والمحلل الحاذق، مكرسًا جهده ووقته على حمل المشعل التنويري، بدعوة الناس للقراءة «ولنكن أمة قارئة... فلن تخيب قط أمة تقرأ»، ومن خلال بحوثه الاجتماعية والسياسية «الاستعمار والحضارة، فوضى العالم ومسؤولية العلم» مثالًا، ومقالاته النقدية، وخواطره اليومية، مثل «فن التفكير»، و«كيف نفكر»، و«معنى الثقافة»، و«فن التراجم»، و«كيف نقرأ»، و«تحديد النسل، لا يصلح ولا يعقل» و«شارلي شابلن وغاندي» و«نزع السلاح»، و«موت من وفرة الحياة» وغيرها، وقصصه القصيرة التي يعرضها بأسلوب الأديب المفكر. ومن تجلياته وقتئذٍ، التي تعتبر من التحولات المهمة في فن النقد والقص القصير بالعالم العربي، يحدثنا القاص والناقد الصحفي نبيل غالي... «أن نور أول من أشار إلى نظرية المعادل الموضوعي، وكانت آنئذٍ جديدة على الناس، وهو أول من استخدمها في الوطن العربي ووظفها في النقد الأدبي، وكذلك استخدامه لتكنيك «تيار الوعي»، أو «تيار الشعور» في كتابة القصة القصيرة، وكان وقتها من التيارات الحديثة في الكتابة.

نمط جديد
رغم أنه لم يكتب في مقالاته عن هذا التيار، فإنّه استطاع أن يوظّفه ببراعة في كتابة قصصه القصيرة، ومن خلال هذا التيار استطاع بما لديه من رؤية ثاقبة أن يفتح عين القارئ العربي على نمط جديد من القصة القصيرة، مما يؤكد ريادته لهذا الفن على النطاق العربي. وذلك حينما نشرت جريدة مصر (العدد 10324 - 11 نوفمبر 1931م) قصته التحليلية بعنوان «المكان» بمقدمة تعريفية.. «حينما فرغت من كتابة هذه القصة، رأيت واجبًا عليّ أن أعين القارئ العربي على فهمها، لأنّ هذا الضرب من التأليف القصصي حديث العهد حتى في أوربا نفسها، وهو آخر طور من تطورات القصة التحليلية».
 «هذا النوع من الفن القصصي ليس من مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الإحساس والعطف القوي على الخلائق، وليس من مهمته أن يحكي حكاية، وإنّما يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص، ويربط كل ذلك بموسيقى الروح واتجاه الوعي. كما يعرض لمظاهر الحياة العادية المبتذلة ويشير عن طريق الإيحاء إلى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى، وهو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الإحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان عند شخص واحد من الأشخاص. كما أنه يصور ما يثيره شيء تافه من ملابسات الحياة في عملية الوعي وتداعي الخواطر، وقفز الخيال، وتموّجات الصور الفكرية.
هذا اللون القصصي - والحالة كما وصفنا - يعرض لأدق المسائل العلمية السيكولوجية المظلمة حتى للعلماء أنفسهم، ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي، ويخرج من كل ذلك تحفة فنية حقًا.. هذا النوع انتشر في أوربا وعُرِف قبل عشر سنوات تقريبًا حينما أخرج الفرنسي مارسيل بروست روائعه القصصية، كما أنه عُرِف في أتمّه وأحسنه عند كاترين مانسفيلد، وفرجينيا وولف من كُتاب الإنجليز، ونودّ ولا شك أن يُكتَب وأن يُعرَف في وادي النيل».

رائد الحداثة النقدية
بما أن الشيء بالشيء يُذكر، فقد خطر لي ما كتبه الباحث الأستاذ عبدالمنعم عجب الفينا بتاريخ 28 ديسمبر 2009م بعنوان «معاوية محمد نور رائد الحداثة النقدية»، ذاكرًا أن «الحقيقة المثبتة هي أن الناقد والأديب السوداني معاوية محمد نور (1909 - 1941) يعدّ أول من لفت الأنظار في العالم العربي إلى تي. إس. إليوت، وأول من حاول تطبيق نظرياته النقدية الحديثة على الشعر العربي، وذلك منذ بداية الثلاثينيات، أي في ذات الوقت الذي بدأ فيه القارئ الإنجليزي يتعرّف إلى شعر إليوت ومذهبه النقدي الجديد. يقول عنـه الشاعـر د. محمد عبدالحي، إن معاوية نور، هو أول ناقد عربي ذكر تي. إس. إليوت والشعر الإنجليزي - آنذاك - شعر ت. أ. هيوم، وعزرا باوند، ود. هـ لورنس، وأديث سيتويل. وأول من انتقد - من وجهة نظر هذا الشعر وأسسه النقدية - شعر كبار الرومانتيكيين العرب، أمثال علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، وهم في أوج سيطرتهم على الذوق الأدبـي للعصر».
    ويذكر الباحث «كان معاوية قد أشار إلى اسم إليوت لأول مرة في مقالة نقدية له حول شعر عبـاس محمـود العقـاد، نشـرت بجريـدة الجهـاد المصريـة بتاريـخ 3 مـايو 1933م بعنوان «القالب في شعر العقاد»، وهو يقصد بالقالب هنا الشكل الشعري أو الصياغة الشعرية التي عمادها الصنعة المُحكمة والإحساس المرهف بكيمياء اللغة، والتي يرى فيها خاصية يكاد ينفرد بها شعر العقاد دون سواه من معاصريه من الشعراء»، فنجد نور في هذه المقالة يقيّم شعر العقاد من خلال معالجته لنظرية المعادل الموضوعي ونظرية «تيار الشعور» أو «الوعي»، إلى جانب الإفادة مـن مفهوم موسيقى الشعر عند إليوت».
«ويذهب نور أكثر من ذلك في تأكيد دور الفكر في الشعر، ويجعل له دورًا حاسمًا في موسيقى الشعر، إذ يرى أن موسيقى الشعر ليست موسيقى لفظية وإنما موسيقى فكرية أيضًا». وهذا ما «يكشف مدى إدراك معاوية نور الواعي والمبصر ومدى استيعابه العميق والمبكر لتيارات الحداثة الشعرية، في وقت لم تكن فيه هذه التيارات معروفة على نحو كافٍ حتى في أوربا نفسها».

رؤية مغايرة
رغم النجاح الكبير الذي حققه نور في تلك المجالات، فقد كان يعي منذ البدايات أنه ليس في دأبه سوى المعاناة، وحرمان النفس من التمتّع بجماليات الحياة، كأنما يتمثّل بقول ابن مكيال:
وأخــو الدراية والنباهــةِ مُتْعَــبٌ
والعيشُ عيشُ الجاهـل المجهول
حيث كتب «حرفة الكتابة» في جريدة مصر (العدد 10342 - 30 ديسمبر 1931م)، «وليس للكاتب الناجح في مهمته حياة خاصة بنفسه، وإنما حياته كلّها مكرّسة لحرفته، ولا أعرف حرفة قطّ تشغل الإنسان وتسلبه نعمة الحياة في الليل والنهار مثل حرفة الكاتب الفنان، فهو يحيا في حياة الآخرين ويضيع وقته واصفًا الحياة، وموقفه منها موقف المتفرج الفضولي، لا موقف المشترك الصحيح الشعور الفاقد لنفسه في الحياة ودفعها».
  ويجيء صدق نور فيما كتب، إذ كان يعيش على الكفاف من سنان قلمه ومجهود ذهنه، لم يتقلّد وظيفة ولم يدخر مالًا يعينه على تقلّبات الزمان، كما لم يُعرف عنه - وهو في زهو الشباب - نزوع رومانسي، ولا ارتواء من نبع عاطفي، (رغم أنه لم يجهل المرأة في كتاباته)، وإنّما بقيَ منكبًا على القراءة والكتابة كمن وهب حياته للعلم والخلق.
    بيد أن هذا الواقع الذي كان يعيش، جعل منه منجمًا للأفكار والأطروحات، مع ذاكرة قوية مدرّبة، قادرة على الاختزان واستخراج ما يشاء كلّما أراد ذلك أو دعت الحاجة، إضافة إلى امتلاكه خيالًا خلاقًا، وقدرات فائقة في الاستنباط والاستدراك والتحليل وصدق الحدس والرؤية المغايرة، حتى فيما يراه الناس طبيعيًا يراه غير ذلك، والقارئ لأدبه يدرك ذلك، ومدى سخريته اللطيفة متى ما رآها واجبة.  
   وحريّ بنا أن نشير إلى الحوار الأدبي المهم الذي أجراه مع الأديب الفرنسي الشهير أندريه موروا (1885 - 1967م) في مارس 1932م، ونشرته جريدة الهلال في أبريل من العام ذاته. وكشف فيه عن جرأة ذكية، وإلمام تام باللغة الإنجليزية، واستيعاب للأدب الغربي بشتّى صنوفه، مما جعل الحوار مطارحة فكرية أدبية تلقائية من ندّ لآخر، دونما تعالٍ.

خوف وذعر 
بعد أن بلغ نور شأوًا عظيمًا في البلاط الفكري والأدبي في مصر، رجع إلى السودان في صيف 1932م، علّه يجد فيه تقديرًا لمؤهلاته، واستقرارًا يعينه على تقديم ما لديه من فكر ومعارف لإنسان بلاده، حتى يصيب مجدًا فوق الذي أصاب، لكن خاب فاله عندما استقبلته حكومة المستعمر بخوف وذُعر، ولقي مشقةً وعنتًا في توظيفه معلمًا، خشية تأثيره على الأجيال، لنستبين أن ثمّة أمّة تعرف كيف تطمر طموح مبدعيها بمزاج - ميكافيليوي - أو سلطوي، وها هو يحكي في جريدة الجهاد المصرية (عدد 545 - 17 مارس 1933م): «ولأضرب مثلًا صغيرًا وقع لي، لأنه دليل واضح على سياسة التعليم في تلك البلاد، بعد أن أتممت دراستي بكلية غردون، وأردت أن أتعلّم في الخارج لحسابي، قامت في وجهي عراقيل كثيرة؛ فتارة يمانعون في إعطائي جوازًا للسفر، وطورًا يفهمونني أنني لن أوظف في الحكومة عند عودتي. وحينًا آخر يعرضون عليّ مرتبًا ضخمًا لكي أنثني عن عزمي. فلما لم ينفع كل ذلك، ذهبت إلى جامعة بيروت الأمريكية، وتخرّجت، ثم ذهبت في الصيف الماضي إلى الخرطوم، وطلب مدير المعارف هناك مقابلتي، وكنت مرشحًا للتعليم بكلية غردون، فذهبت إليه وقابلته، ودار هذا الحديث الذي لا يخلو من فكاهة بيني وبينه:
قال: «سمعت أنك حجة في العلم بالدكتور جونسون!».
قلت: «ليس شيء من ذلك، وإنما أنا أحب الرجل وأقرأه».
قال: لماذا؟
قلت: «لأني أعتقد أنه يمثّل الرجل الإنجليزي وخلقه تمثيلًا صحيحًا في أكثر نواحيه»!
   وشعر مدير المعارف عندئذٍ أن الموقف يتطلب منه التعليق، فقال هذه الجملة التي تدل على مقدرة فائقة على الخطأ:
«إن جونسون، ولا شك، أحد أولئك الرجال الذين عاشوا مئة عام قبل أوانهم!». والذين يعرفون أقل شيء عن صامويل جونسون يدركون أن هذا الحكم ربما يصدُق على أي رجل آخر، ولا يصدق على جونسون. ويمكن أن يقال إنه إذا كان هناك أديب مثّلَ عصره تمام التمثيل فهو جونسون، فإن الناقد لا يمكنه أن يتخيل جونسون سوى أديب إنجليزي عاش في القرن الثامن عشر، لكنها الجُمل المحفوظة لعنها الله!
وعلمت، عقب محادثتي هذه معه، أنه كتب عنّي إلى من يهمهم الأمر ...! «Not the type, too clever»، ومعنى ذلك بالكلام البلدي «مش العيّنة المطلوبة... ده بيفهم»! 
ثم قال بعد ذلك لبعض محدثيه من الوطنيين في معرض حديثه عن العلم والمتعلمين وقد طرقوا سيرتي «هو زي واحد إنجليزي، ويعرف كلمات أنا ما أعرفهاش!»، ولهذا السبب فأنا خطر - على زعمه - في كلية غردون، لا يمكن قبولي مدرسًا بها. بل الأفضل أن أكون بعيدًا من الطلبة والتعليم».

إحباط واضطراب
رجع معاوية نور إلى مصر حزينًا كسير الخاطر، ليعاود الكتابة من جديد، وكدأبه لم يترك شاردة ولا واردة خلال مشاهداته للحياة السودانية في ظل الاستعمار، إلّا وأفرد لها مقالًا يسخر فيه من الهيمنة الاستعمارية، وقد نشرت له جريدة الجهاد المصرية عام 1933م مقالات عدة يصف فيها الحياة في السودان، وهو يوجز بقوله... «حقًا إن عبء الرجل الأبيض لعبء ثقيل جدًا».
ولم تمرّ سوى فترة قصيرة، حتى تملّكته حالة من الإحباط والإرهاق العقلي والهواجس أفضت به إلى اضطرابات عقلية ألزمته مستشفى الأمراض العصبية بالقاهرة، مما دعا أسرته إلى إرجاعه للسودان، ليُعهد به إلى أحد الشيوخ لعلاجه بطريقة تقليدية باهتة، لتنتهي حياته على يديه بطريقة درامية حزينة. 
وتبقى واحدة من المفارقات، وإحدى الألعاب العبثية - التراجيدية - للأقدار، لمصير مفكر وباعث نهضة متفرّد وعملاق في المدى الزمني الذي عاش 32 عامًا فقط، وملأ عمره القصير الحافل، والذي لا يتعدى سبع سنوات تقريبًا في بلاط الفكر والأدب والنقد، بأعمال فكرية وإبداعية تمثّل نموذجًا باذخًا لأديب عصري أطل قبل أوانه ■

● المصدر: معاوية محمد نور - قصص وخواطر- الجزء الثاني - جمعها الرشيد عثمان - التأليف والنشر جامعة الخرطوم.