أنسالم فويارباك «إيفيجينيا»

أنسالم فويارباك «إيفيجينيا»

فويارباك هو قائد المدرسة النيوكلاسيكية الألمانية في القرن التاسع عشر. التزم في حياته المهنية بأصول الرسم التقليدية، وكان من أشد المتحفظين الذين نبّهوا من «خطورة» الاستخفاف بتقنية الرسم الذي كانت طلائعه قد بدأت بالظهور آنذاك.
وُلد فويارباك عام 1829، وكان في السادسة عشرة من عمره عندما التحق بأكاديمية دوسلدورف لدراسة الفن، لينتقل لاحقًا إلى أكاديمية ميونيخ، ثم أنتويرب في بلجيكا، قبل السفر إلى باريس عام 1851، ليتابع دراسته مدة 4 سنوات أخرى في مرسم توماس كوتور؛ أحد الرسامين الكلاسيكيين البارزين في فرنسا آنذاك.
10 سنوات من الدراسة الأكاديمية كانت كفيلة ببلورة شخصية فويارباك الفنية وترسيخها على صورة محددة بدقة: التزام شديد الصرامة بالمعايير التقليدية لفنّ الرسم، وميل جارف إلى المواضيع المستوحاة من الأساطير والأدب والتاريخ، التي كانت حتى ذلك الوقت تُعتبر الأعلى في تراتبية المواضيع التي يمكن لفنان أن يعمل عليها.
وما بين عودته إلى ألمانيا عام 1861 ووفاته في البندقية بإيطاليا عام 1880، تربّع فويارباك على عرش الرسم النيوكلاسيكي في ألمانيا، فعُيّن أستاذًا في أكاديمية فيينا، وتتلمذ على يديه عدد من كبار الفنانين، وألّف الموسيقار جوهان برامس معزوفة موسيقية تكريمًا له.
تعدّ «إيفيجينيا» من باكورة اللوحات التي رسمها الفنان بعد عودته إلى ألمانيا، وقد استمد موضوعها من تراجيديا يونانية شهيرة كتبها للمسرح أوروبيديس، وأعاد الأديب الفرنسي جان راسين كتابتها في القرن السابع عشر، بنهاية مختلفة، كما تناولها أدباء عدة بأشكال متنوعة، وصولًا إلى العصر الحديث. وتقول الأسطورة التاريخية إنه عندما كان الأسطول اليوناني يستعد للإبحار لمحاربة طروادة، اشترطت الآلهة على الملك أغا ممنون أن يضحي لها بابنته إيفيجينيا، مقابل جعل الرياح تهبّ بالشكل الملائم. ورغم حزنها الشديد، ترضى إيفيجينيا بمصيرها، حتى أنها ترفض المساعدة من البطل أخيل لإنقاذها، لتصبح بذلك رمزًا لتغليب الواجب والشرف، والولاء لإرادة الأب المضطر لتلبية طلب الآلهة.
رسم فويارباك إيفيجينيا كما تخيّلها وهي تنتظر مصيرها. شابة منكسرة الخاطر تجلس وحيدة على صخرة، قبالة بحر هادئ لا موج فيه، لأنّ الرياح لن تهب إلّا بعد التضحية بها. وتمسك بيدها اليسرى غصن غار يرمز إلى المجد الذي سيوازن هذه المأساة.
الوضعية التي تتخذها إيفيجينيا على طول قطر المستطيل، تعيد إلى الذهن فورًا التماثيل اليونانية القديمة، من اليد المرفوعة إلى الصدر، إلى تقدّم الساق اليمنى على اليسرى. أما الوجه، فهو غير واضح المعالم، بل غارق في ظلّ يكاد يكون ظلامًا، ربما كي لا نرى الحزن بلُغة مباشرة درامية. فالمصير المأساوي الذي ينتظرها لم يكن شخصيًا، بل عمّ أسرتها واليونانيين بأسرهم. وهذا ما ينعكس في المناخ العام الذي يطغى على هذه اللوحة.
الألوان ليست قليلة أبدًا هنا، كما قد يبدو للوهلة الأولى، لا بل يمكن القول إنها ذات غنى لوني كبير ومدهش. لكن الضوء، رمز الأمل، هو الخافت، وهو ما يجعل لون القماش الأحمر يتدرّج بين الوردي والسواد، ولون البحر بين الفيروزي والكُحلي الداكن. وحده الثوب الأبيض الفضفاض يبرز بقوة، رمزًا للنقاء والنُّبل والالتزام باعتبارات الشرف. ومثل هذا الإتقان في التدرج اللوني ووحدة التأليف ما كان ليتأتّى للرسام لولا السنوات العشر التي أمضاها في تعلّم الرسم وتقنياته وفق الأصول الكلاسيكية ■