ثوب النشل كنزٌ من كنوز البحرين «العربي» تعود لزيارة أشهرَ وأقدمَ صانعي الأثواب الشعبية في الخليج!

ثوب النشل كنزٌ من كنوز البحرين «العربي» تعود لزيارة أشهرَ وأقدمَ صانعي  الأثواب الشعبية في الخليج!

في دكانه البسيط، الذي لا يزال في نفس موقعه منذ أكثر من 50 عامًا في القضيبية بالعاصمة البحرينية المنامة، التقطت عدسة «العربي» صوراً لأشهر صانعي ثوب النشل في استطلاع أجرته عن البحرين عام 1976.
وبعد نحو 44 عامًا، تعود «العربي» إلى البحرين، وإلى المكان نفسه والأجواء ذاتها العابقة بموروث الأزياء الشعبية.

 

على وقع صدى الصور والكلمات في الاستطلاع آنف الذكر، دار حديثنا القديم/ الجديد مع أشهر وأقدم صنّاع الأثواب الشعبية في الخليج، الحاج عبدالقادر أحمد محمد، المعروف بـ «عبدالقادر زري»، المولود عام 1936م، من القلائل الذين لا يزالون يفصّلون الأثواب الشعبية بالطريقة القديمة.
لم يدخل مدرسة، واكتفى بالذهاب إلى المطوّع كأغلب الصبية في ذلك الوقت، وتعلّم مبادئ الحساب وختمَ القرآن الكريم، وبدأ بالمهنة وهو في الخامسة عشرة من العمر، فالتحق بأحد أقربائه العاملين في الخياطة، وبدأ بتطريز الغُتر الخاصة بالرجال، ثم تطريز الأثواب الصغيرة.
ولحبه للرسم، برع في تصميم النقوش التي اقتبس بعضها من نقوش بحرينية قديمة، مستوحاة من البيئة، كالنجمة، والمشموم، والكازو، واللوز، وغيرها من عناصر ورموز البيئة البحرينية، حتى أصبح من أشهر مصممي الأثواب في منطقة الخليج وأمهرهم.

ثوب النشل... إبداع بحريني
ثوب النشل حاضر في احتفالات البحرين واستقبال الوفود الرسمية، وفي الشعر الغنائي وغيرها، وقد اهتمت حكومة البحرين بهذا الفولكلور الأصيل، من خلال عرضه في المحافل الدولية، كواجهة تعبّر عن مدى براعة الإنسان البحريني وذوقه الرفيع منذ القِدَم.
يذكر الحاج عبدالقادر أنه كُلّف بتفصيل مجموعة أثواب عُرضت في حفل خاص خلال زيارة ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية، إلى البحرين عام 1979 م، كعرض أزياء للملابس التقليدية، وله مشاركات عديدة ومعارض محلية ودولية، تحظى باهتمام ورعاية المسؤولين والدولة.
تميزت المرأة البحرينية، منذ القدم، بلباسها الذي ينمّ عن الذوق الرفيع، وفي الوقت نفسه لم تنسَ تعاليم دينها وعاداتها، فكانت ملابسها تتّسم بطابعَي الحياء والحشمة، مع المحافظة على أناقتها، وقد تفنّنت أنامل الخياطين في حياكة وتطريز تلك الملبوسات، لتصبح كأنها قطع فنية متناسقة الألوان والنقوش، ولتدلّ على مدى دقة وبراعة صانعيها.
  يُعد ثوب النشل من الأثواب التقليدية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحياة المرأة في البحرين والخليج منذ عقود، فهو حاضر في الأعياد والمناسبات الاجتماعية والوطنية والدينية، خاصة في شهر رمضان ومناسبة «القرقيعان».
في الماضي، كان ارتداء ثوب النشل مقتصرًا على النساء المتزوجات، أما الفتيات غير المتزوجات والصغيرات، فيرتدين «البخنق»، وهو رداء يُصنع من الأقمشة الخفيفة كالحرير والشيفون، كغطاء للرأس والشعر، ويكشف عن الوجه فقط من خلال فتحة صغيرة بمقدار الوجه، ويطرّز أيضًا بخيوط الزري من الأمام وحول الرأس.

تصاميم وأسماء مختلفة
يقال إن أصل الكلمة مقتبس من «المنشل»، وهو القماش الملون والمزيّن بالنقوش، ويوضع على الهودج الذي ينقل العروس. ويصنع الثوب من الحرير المطرّز بخيوط من الذهب والفضة، ويطلق عليها «الزري»، ويأتي بعدة ألوان، كالأسود وهو السائد، والأحمر، والأزرق، والأخضر الذي ترتديه العروس في ليلة الحناء.
ولثوب النشل تصاميم وأسماء مختلفة؛ منها المفحح الذي يحتوي على أقمشة متعددة الألوان، والمفرخ، والمنبط، والمنثور الذي يتناثر على جميع أجزائه من الأمام ومن الخلف الزري الذهبي الذي يبدو كنجوم منثورة في السماء والثريا، ويعد من أغلى الأثواب البحرينية، لاحتوائه على ليرات ذهبية يتم تطريزها بشكل مثلث عند الصدر، وتختلف مسميات الأثواب باختلاف النقوش، وكمية التطريز فيها.
تباع الأثواب بأسعار باهظة، تبدأ من 3 آلاف دولار أمريكي، ويتجاوز بعضها الـ 10 آلاف، وذلك لجودة المواد المستخدمة في صناعتها، إضافة إلى الجهد والوقت الطويل المستغرقين في تصميمها وتطريزها.
يُصنع الثوب عادة من حرير أسود شفاف، ويُعد أيضًا من أقمشة ملونة؛ منها الأحمر، والأخضر، والأزرق، حيث كانت الهند مصدر تلك الأقمشة قديمًا، أما الآن فيتم صناعة الأثواب من الشيفون الفرنسي، والكوري، والزري المستخدم في التطريز المستورد من فرنسا وألمانيا، هو الأجود، مثل النوع المستخدم في تطريز ستار الكعبة، كما يتم تطريز بعض الأثواب باستخدام خيوط البريسم.
وفي حديثنا مع الحاج عبدالقادر عن الوقت المستغرق لصناعة الثوب اليدوي، أفاد بأنه يأخذ منه شهرًا كاملًا، في حين أنه باستخدام ماكينات الخياطة والتطريز، يستغرق الأمر حوالي 10 أيام.

العناية بثوب النشل 
الزري لا يتلف مع مرور الزمن، وهناك أثواب تجاوز عمرها الـ50 عامًا من صنع الحاج عبدالقادر، لا تزال محافظةً على بريقها وكأنها طُرّزت للتوّ، ومع ذلك يحتاج الثوب إلى عناية خاصة وطريقة معيّنة في التخزين، وعند تخزين الثوب يجب لفّه بقطعة من القماش الأبيض تُعرف بـ «الويل».
ويحتاج الثوب إلى الصيانة، فقد يفقد الزري لمعانه إثر تعرّضه مثلًا للعطور أو البخور، وعندها يتم طرقه بمطرقة خشبية، وتعرف هذه العملية بـ «الصقال»، ويتم صقل الزري ليعود إليه بريقه وجاذبيته من جديد.
  ورغم التطور المستمر وتغيّر أذواق الناس واختلاف أنماط لباسهم، وانفتاحهم على العالم، فإن ثوب النشل لا يزال يحظى بقبول وافر من الجيل الحالي، حيث تم إجراء تعديلات على تصميم الثوب والتطريز، لتتماشى مع الموضة الحديثة، لكن في الوقت ذاته، لا يزال ثوب النشل يُعد الزي الرسمي والمفضل في المناسبات الوطنية والأعياد.

توريث المهنة
الحفاظ على الموروث الشعبي سواء كان حرفيًا أو فنيًا، واجب وطني من المسؤولين، يؤكد الحاج عبدالقادر، وبسؤاله عن مستقبل هذه الحرفة، وما إذا كان قد علّمها لأحد أبنائه، قال: مع الأسف، لم أعلّم أبنائي فنون هذه الحرفة، وحرصت على أن يدرسوا بالجامعة، ظنًا منّي أن هذه الحرفة ستندثر مع الوقت، ولم أتوقّع أن أجد إقبالًا على هذا النوع من الأثواب في وقتنا الحالي، لكن ابنتي مريم مهتمة بالموضوع حاليًا، وهي التي تدير أعمالي.
ويضيف: الطلب كبير على الأثواب التي أصنعها، ويتزايد يومًا بعد يوم ليس في البحرين فحسب، بل في دول الخليج أيضًا أكثر من السابق، لأنني من القلائل الذين لا يزالون يصنّعون هذا النوع من الأثواب على الطريقة الأصلية القديمة.
ويختم قائلًا: أتمنى من المؤسسات التعليمية في البحرين أن تدرّس هذه الحرفة، لكونها حرفة بحرينية تميّزنا بها منذ القدم في منطقتنا، ولا يزال أهل الخليج من السعودية والكويت وغيرهم يأتون إلى البحرين لشراء هذه الأثواب.
 تظل هذه الحرفة وثوب النشل شاهد على عراقة التراث البحريني وبراعة أجدادنا منذ القدم، رغم قلّة الموارد وصعوبة الحياة، ومهما تطوّرنا وتغيّر نمط حياتنا وأذواقنا، 
يبقى الحنين إلى الماضي، ولا يمكننا نسيانه، وكما يقول المثل «قديمك نديمك لو جديدك أغناك» ■

 

عبدالقادر أحمد في شبابه يقوم بتطريز ثوب النشل بدقة، من أرشيف مجلة العربي عام 1976 م