«طبيب أرياف»

«طبيب أرياف»

في الوقت الذي انعزل العالم كلّه بسبب جائحة كورونا، قرر الأديب د. محمد المنسي قنديل أن يخلقَ عالَمه الخاص في روايته الأخيرة «طبيب أرياف»، وهي الرواية التي انتظرها القرّاء لأكثر من خمس سنوات، لتأتي بعالَم فريد من الشخصيات الشديدة الاختلاف والتناقض، ومع ذلك تتوحّد وتوجد معًا في أكثر العوالم البشرية تعقيدًا. «طبيب أرياف» هو البطل، قد يكون أيّ شخص لا يميّزه سوى كونه طبيبًا، ويُطلعنا العنوان على أننا ببساطة في رحلة إلى الأرياف، وهو وصف قد يشمل كلّ ربوع مصر، أو يقصد مكانًا بعينه. فنجد أن بوابة الدخول إلى هذا العالَم تبدأ بأشخاص تجد نفسك بينهم، ستجدهم في كل وأي مكان، الأمر كله يرتبط بك أنت في هذه الرحلة.

 

تبدأ أحداث الرواية ببطل شاب، هو طبيب وحدة صحية بإحدى قرى الصعيد في نهاية فترة السبعينيات، يدخل إلى القرية بوسيلتها الوحيدة (العربة حلاوتهم)، التي تضمّ صورة مصغّرة للعالَم الذي يكاد يدلف إليه، والتي من دونها تنعزل القرية عن العالم الخارجي.
يكتشف الأحوال في القرية من خلال الحالة المرَضية والنفسية للمرضى، تجربة إنسانية تتطلّب أن يكون قويًا وقادرًا على الفعل، كيف وهو مَن أرهقته تجربة السجن والرهن والاعتقال التي فُصل بسببها من عمله وهجرته حبيبته، بعد أن ضاقت بمداهمات بيتها وتفتيشها، فتزوجت أحد رجال الأمن المتابعين لقضية الطبيب، الذي كانت عودته إلى عمله بهذه الوحدة مشروطة بعدم الاقتراب من السياسة أبدًا.
يقع الطبيب أسير هوى الممرضة فرح، رغبة عارمة اجتاحته منذ اللحظة الأولى، إلّا أنه يكتشف أنها متزوجة من عيسى ابن عمها. 
فرح لها حضور طاغٍ حيوي شديد التأثير، قادرة على الفعل الحقيقي، بالرغم من وداعة ملامحها ورقّة جسدها حينما تغيب عن عيسى القدرة على الفعل، ويكتفي بأن يتبع زوجته عن بُعد جيئة وذهابًا.

حادثة شرف
يقف الطبيب على حادثة شرف تقع في القرية بين جليلة، وهي أرملة ثرية شابّة مسلمة، تقع في هوى الخياط القبطي أبانوب وتحمل سفاحًا، فتلجأ إلى الطبيب الذي يرفض إجهاضها وينصحها بأن تلجأ إلى إحدى العجائز القادرات على تنفيذ هذه المهمة، وبالرغم من تخوّف جليلة من الفضيحة، فإنّها تلجأ إلى الإجهاض السرّي، وتعاني النزيف والحمّى، ويذهب الطبيب وفرح لمساعدتها، وتظل فرح إلى جوارها حتى التعافي، إلّا أن وشاية انتشرت في القرية أن أبانوب حاول اغتصاب جليلة، وتخرج الجموع ثائرة لتضربه وتطرده من القرية، وتحاول أن تفتك به، لولا تدخُّل الشيخ عبدالبر، وتُقتل السيدة بعدها بطلق ناري نافذ في صدرها، ويدّعي أهل زوجها أنها قُتلت بدافع السرقة، وتقيّد القضية ضد مجهول بتواطؤ من الجميع بمن فيهم الطبيب.
تتوغل علاقة الممرضة فرح بالطبيب، رغبة منها في أن تصبح أمًا، وأن تحمل بطفل منه، بعد أن عجز عيسى عن أن يحقق رغبتها. وينفّذ الطبيب لها هذه الرغبة في لقاء مدبّر بأحد فنادق المدينة، ذلك اللقاء الذي تعجّله الطبيب، وتمنّعت فرح حتى لانت. ويعيش الطبيب قصة عشق مجنونة مع فرح، ويرفض كل النساء سواها، ويكره عيسى إلى حد الجنون.

تحولات متعددة
يرصد د.المنسي قنديل في الرواية بعض الأحداث المهمة التي مرّت بها مصر في تلك الفترة أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من التحوّلات الاقتصادية، والسياسية، وفتح السجون، وتحويل سجن القلعة إلى متحف مفتوح يصرّ الطبيب على أن يزوره ليبحث عن خطّ يده على جدران الزنزانة، يذهب إلى السجن برجليه هذه المرة ليواجه مخاوفه القديمة. ثم حادث مقتل السادات.
دسوقي السنجابي يفتش عن المال باستغلال المرضى، العمدة مريض بالعنف، وزوجته تعاني منه وتراود الطبيب عن نفسه، فرح تخون زوجها عيسى مع الطبيب نفسه، الذي يندفع في علاقة جامحة مع فرح ويدفع لزوجها المال لكي يهرب من البلدة عبر الحدود، في رحلة تحمله إلى الموت.

إعادة قراءة
عالم متشابك من الشخصيات الشديدة الإحساس بالقهر والعزلة والغلبة على أمرهم، إلا الجازية.
والجازية هي ملكة الغجر، التي جاءت إلى القرية لتحكي حكاية الجازية التي ألهبت دياب وأرادت «أبوزيد الهلالي» لنفسها سنوات طويلة، وضربت بأنوثتها قلوب الرجال فصرعتهم.
يعيد المنسي قراءة السيرة الهلالية من خلال الجازية، وكأن شهرزاد تتمرّد على الحكاية، فلا تتغزل في قوة «أبوزيد» وبطولته، بل كيف تقود الجازية السيرة وأبطالها والأحداث، وتجيد الغجرية نسج خيوط السيرة بشكل جديد عن المرأة التي تحمل بداخلها ألق الحب والرغبة في الانتقام.
ويجد الطبيب نفسه غارقًا في عالَم الجازية، حضورها الطاغي أمام الجموع، جموحها الحيوي، ملاطفاتها المكشوفة، نموذج لم يعتده ولا يعرفه، ويكتشف مدى كُره الشرطة للغجر والتنكيل الذي يتعرّضون له أينما حلّوا، ومقاومة الغجر للسلطة بالرقص والغناء والحكي والبهجة التي يحملوها مرتحلين بها من بلدة إلى أخرى.
يهرب عيسى، زوج فرح، في رحلة إلى الحدود عبر الصحراء الغربية مع أربعة آخرين، ويختفون تمامًا، ويقرر المأمور أن يخرج للبحث عنهم ويرافقه الطبيب لكتابة التقرير الشرعي، وتقود الرحلة الغجرية الجازية التي تعرف الطريق جيدًا وتخبر دروب الصحراء، إلّا أن المأمور لا يثق بها وهي تخشاه، وتقترب أكثر من الطبيب الذي تهواه وتشترط عليه أن يحميها من المأمور والعساكر الذين لا تخفى رغبتهم فيها على ذكائها.

الفاعل الحقيقي
  بعد عاصفة هوجاء في قلب الصحراء، يجدون المختفين قتلى نهشتهم الذئاب، ومن بينهم عيسى الذي خرجت القرية تبكي وراء نعشه، وكادت فرح تفتك بالطبيب، لأنه مَن أعطاه نقود رحلة الموت. رحل عيسى وعاد ميتًا، فرحلت فرح عن الطبيب الذي رحل عن القرية كلّها.
عيسى الأكثر هشاشة وغيابًا عن العالَم كان في موته هو الفاعل الحقيقي، كأنه استردّ زوجته بغيابه الأبدي، وفرض على الطبيب هزيمة حبّه الجديد، تاركًا فرح حاملًا من الطبيب الذي لن يتذكره أحد، وسيظل الجميع يظن أن لعيسى الراحل ولدًا يحمل اسمه ليظل حيًا في ذاكرة القرية.
اعتاد د.المنسي قنديل أن يستلهم ويستحضر في رواياته قصصًا من التراث، ويعيد كتابتها بشكل مغاير، تتقاطع وتتشابك الشخوص في الرواية في نسيج غزل بأصابع ماهرة. الرواية لم تكتفِ برصد عوالم إنسانية ثرية، بل قدّمت رؤية أنثروبولوجية شديدة الرهافة للقرى وللتغيرات التي طرأت على الشخصية المصرية، دون التطرّق إلى شعارات عاجزة، فنجد التحوّل من السماحة والقبول إلى العنف والرفض، ومن حيوية العيش إلى حتمية المرض والموت، في صراع قوي بين كل تلك المؤثرات المستمدّة من الجذور البعيدة، كما ترصد علاقة السلطة بالشخصيات، الطبيب العاجز والجازية المتحدية، مما يؤثر في تطور الشخوص والأحداث، وكأن القرية نموذج مصغّر للعالم كلّه وصراعاته بين الحب والكراهية واليأس والسلطة، بين المهمّشين والحكّام، وتربط مصائرهم كلهم في خيط يتأرجح بين القوة المطلقة والضعف الشديد.
(صدرت الرواية عن دار الشروق المصرية، وحصل الكاتب د. محمد المنسي قنديل على جائزة الدولة التقديرية في فرع الآداب بمصر عام 2021) ■