«النَّوع النووي» أنموذج نظري ومنهج تطبيقي

«النَّوع النووي»  أنموذج نظري ومنهج تطبيقي

 يثير كتاب «مقدِّمة إلى نموذج النَّوع النووي، نحو مدخل توحيدي إلى حقل الشعريَّات المقارنة»، لرئيس اتحاد الكتّاب العرب واتحاد كتّاب مصر، الشاعر والناقد الأدبي علاء عبدالهادي؛ الصَّادر عن مركز الحضارة العربية في القاهرة، سؤالًا عن «نوع نووي يؤسِّس الطريقة المنهجية لما هو مشترك ومتقاطع بين الشعريَّات العديدة لأيِّ نوع؛ وذلك من خلال مراقبة المساحات التي تتقاطع فيها تجلِّياته الممكنة اللانهائية».

 

  يجيب الناقد عبدالهادي عن سؤاله، عن طريق البحث في عدَّة قضايا ومسائل متفرِّعة عنها، تحت خمسة عناوين/ فصول، هي قضية النوع؛ والنوع النَّووي وبنية النموذج؛ والنوع النَّووي... المسرح نموذجًا؛ والبلاغة المسرحية من منظور النوع النووي؛ والنوع النَّووي ومناهج البحث في أصول المسرح العربي.
وإذ يصل إلى إجابة نظرية، يؤيِّد ما يذهب إليه، فيما يتعلّق بالمسرح العربي بجداول عن تجلِّيات هذا المسرح، يلحقها بالفصول الخمسة المذكورة آَنفًا.
يمضي البحث، بهذا الكتاب، في مسار منهجي مكثَّف مُحكم البناء، ذي لغة واضحة دقيقة الأداء، ومصطلحات محدَّدة المفاهيم، يجمع بين التنظير المنهجي المفضي إلى استنتاجات تؤيِّد الفرضية التي تم الانطلاق منها، وبين التطبيق على أنموذج يؤكِّد تلك الاستنتاجات، وهذا شأن أيِّ بحث علمي.
القضايا / الإشكالات التي يثيرها هذا الكتاب كثيرة. سوف نتحدث، في هذه المقالة، عن بعض منها؛ إذ إنّ الحديث عنها جميعها لا يتَّسع له المجال في هذا المقام.
قضية / إشكالية مركزيَّة، يعرفها تاريخنا الحديث والمعاصر، وتتمثَّل في ثنائية الإنتاج / الاستهلاك، وعلاقتها، على المستوى الثقافي بالتراث الوطني، من نحو أول، وبالوافد الغربي، من نحو ثانٍ.

سؤال النوع
يثير الباحث هذه الإشكالية، عندما يتساءل عمّا إذا كان يحقُّ له أن يطرح سؤال النوع، بوصفه ناقدًا يعيش في بلد ينتمي إلى العالم الثالث، ويبتعد عن المركز الحضاري الذي يتم فيه الإنتاج والاستهلاك النظريَّين. ويجيب عن تساؤله بأنَّ ظروف تطوُّرنا الفني والمعرفي، في بيئة ما بعد استعمارية، تمنحه هذا الحق، «هربًا من أحادية التفكير النقدي الذي اعتمد - على نحو أساسي - في تنظيره النوعي على تجليات أدبية وفنية، من واقع غربي فحسب»... (راجع ص. 31 و32).
يبدو لي أنَّ الحقَّ في الإنتاج لا يُمنح، ولا يمارس «هربًا»، وإنَّما هو حقٌّ طبيعي للقادر عليه، والعاجز وحده هو مَن يستهلك.  وحركة التاريخ، يضيف الباحث، «ليست هي الحركة التي يرسمها لنا الغرب، واندراجنا الواعي فيها لا يعني استلابنا أمامها، كما لا يعني أن نتفادى بنى المعرفة الغربية في الوقت نفسه.
إن اندراجنا في حركة التاريخ يعني أن ننتج، مدركين، أن التاريخ ليس تاريخ الإنجازات الغربية فحسب، فعلى المستوى الأدبي، قدَّم العرب إنجازات كان ممكنًا أن يعود إليها الباحث مادام قد قرَّر أن يمتلك الحقَّ في طرح السؤال والبحث عن إجابة له. فلو أطللنا إطلالة سريعة على ما جاء في التراث العربي، فيما يتعلَّق بهذا السؤال، لقرأنا، على سبيل المثال، تعريفًا للأدب يرى إلى خصائصه اللغوية / أدبيته، فنقرأ للجاحظ: «البيان هو اسم جامع لكلِّ شيء كشف لك قناع المعنى»، ويعرِّف ابن خلدون الأدب، فيقول: «الأدب، عند أهل البيان، ثمرته؛ وهي الإجادة في فنَّي المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم». 

الشعرية النصّية
  تفيد كتب تاريخ الأدب العربي بأنَّ الجاحظ تحدَّث عن «علم الشعر» وبحث عنه، ووجده عند أربابه، وأنَّ حازم القرطاجني وضع نظريَّة في الشعرية النصِّية، وسبق جاكوبسون في هذا الشأن، إضافة إلى رأيه في أنَّ الوظيفة الأدبية تتمثل في الرسالة متوحِّدة مع السياق (راجع: منهاج البلغاء...، ص. 346). والمهم هو أنَّ التحدث كان عن المفاهيم، وإن اختلفت التسميات والمصطلحات.
إن اندراجنا، في حركة التاريخ يقضي بأن نمتلك الحقَّ بالبحث والإنتاج، مدركين أنَّ تاريخ الإنجازات الحضارية الإنسانية ليس تاريخ الغرب فحسب.
يقود الكلام على الإنتاج الأدبي إلى إثارة قضية/ إشكالية عملية إنتاج الأنواع الأدبية، وكيفية حدوثها، واختلاف الأنواع الأدبية المُنتَجَة في حال اختلاف التجربة الحياتية الأدبية التي تصدر عنها هذه الأنواع، ففي حين يرى عدد من الباحثين، ومنهم عبدالرحمن بدوي وأحمد كمال زكي، أنَّ الترجمة الشهيرة لمصطلحَي الكوميديا والتراجيديا، لو كانت ترجمة صحيحة، لكان يمكنها أن تضمن تقديم الفنون الشعرية العليا، يرى الباحث سوى ذلك، ويقرِّر «أنَّ الأنواع الأدبية قرينة سياق ثقافي، وتخضع لمجريات الزمان والمكان والبيئة، التي تختلف من حضارة إلى أخرى ...» (ص 16). 
  وهذا يعني أنَّ مسار تاريخ الأدب الغربي يختلف عن مسار تاريخ الأدب العربي، وأنَّه من الخطأ أن نرى إلى تاريخنا الأدبي من منظور تاريخ الأدب الغربي، ففي حين عرف هذا التاريخ الشعر الملحمي والدرامي والغنائي والتعليمي، ولم يعرف الأدب القصصي وأنواعه التي عرفها الأدب العربي، ومنها الخبر والمقامة والسيرة بأنواعها، والرسالة بأنواعها، ومنها الرسالة القصصية، إضافة إلى نوع من الشعر الغنائي اتخذت تجلياته تسميات كثيرة.

تأثر الأدب الغربي بالقصص العربي
نجد في النقد الأدبي العربي القديم أقوالًا تحدِّد هذه الأنواع، فنقرأ، على سبيل المثال، للمبرِّد قوله عن كتابه «الكامل»: «هذا كتاب ألَّفناه يجمع ضروبًا من الأدب، ما بين كلام منثور، وشعر موصوف، ومثَل سائر، وموعظة بالغة، واختيار من خطبة شريفة، ورسالة بالغة»، ويقول الحصري القيرواني عن كتابه «زهر الآَداب»: «هذا كتاب اخترت فيه قطعة كافية من البلاغات في الشعر والخبر... ممّا حسن لفظه ومعناه»، يلاحظ، في قولَي المبرد والقيرواني، نصٌّ على وجود أنواع أدبية، وعلى خصائصها الجمالية / شعريتها. 
وقد أفضى تأثر الأدب الغربي بالقصص المشرقي - العربي، في سياق تاريخي معروف، إلى نشأة الأدب القصصي في الغرب وتطوره. وقد أخطأ كثير من الباحثين، في اعتماد ما يشبه شعر بودلير ومالارميه، معيارًا يقيسون به شعرية الشعر العربي القديم.
وإذ نعرف أنَّ الإنتاج الأدبي تمليه التجربة الحياتية الأدبية، بمختلف مكوِّناتها التاريخية، نسأل: كيف يتمُّ تصنيف هذا الإنتاج في أنواع؟ وما هي أسس هذا التصنيف؟ يجيب تاريخ الأدب ونقده أن التصنيف يتم عن طريق تمييز نصوص الإنتاج الأدبي وتبيُّن خصائصها، وبلورة الخصائص المشتركة لكلِّ مجموعة نصوص، فتمثل هذه الخصائص مزايا النوع، وهي خصائص تميِّز «شكله الداخلي»، أو بنيته اللغويّة، وتمثّل عناصر مفهوم النوع. 

أولوية الخصوصية
  السؤال الذي يُطرح هنا هو: هل يوجد أنموذج عام للنوع ثابت؟ 
يرى الباحث، فيما يمكن أن نعدَّه إجابة عن هذا السؤال، أنَّه «قد يصعب أن نجرِّد واقع التجربة الأدبية من سياقها التاريخي، لكنني أرى أنَّ نزع أولوية الخصوصية من بنية المفهوم يؤدِّي إلى علم دراسة النوع من منظور عالمي، أكثر اتساعًا وشمولًا، فوجود نموذج عام للنوع لا يعني إلغاء ما يسمَّى التميُّز الثقافي المرتبط بتجلِّيات كلِّ أمَّة...» (ص 32).
لكن، إن نزعنا أولوية الخصوصية، تبقى ثنائية التحول / الثبات، فالنص الأدبي، بوصفه تجسيدًا لتجربة حياتية أدبية تاريخية، يتغيَّر بتغيُّر هذه التجربة، والأنواع الأدبية، كما هو معروف «تتحوَّل بقدر ما تندرج في التاريخ، وتندرج في التاريخ بقدر ما تتحوَّل» (كارل فييثور، نظرية الأجناس الأدبية - ص 28).
تُحلُّ هذه الإشكالية بالقول: إن هذه النصوص التي تتغيَّر بتغيُّر التجربة هي تجلِّيات نوع أدبي ثابت هو النوع النووي، ويكون هدفه، في هذه الحال، «اكتشاف الثابت في مئات التجلِّيات الجمالية الفنية المختلفة، وشكولها العديدة التي نشأت من ظروف نشأتها التاريخية...» (ص 35). ولعلَّ هذا ما جعل الباحث يميل إلى أن يسمِّي مهاده النظري للنوع النووي «نموذجًا» أكثر من ميله لتسميته نظرية؛ وذلك لأنَّ النظرية «تحمل، في باطنها مخاطرة الاختزالية والحتمية»، إضافة إلى أن توجيه الاهتمام إلى النظرية «يمكن أن يعمي المرء عن رؤية تفسيرات أخرى محتملة» (ص. 33).

خصائص مشتركة
   إن اتصاف التجلِّيات المختلفة بخصائص مشتركة، يجعل، كما يقول الباحث «سؤالنا مشروعًا عن نوع نووي - ولا أقول نواة نوع - يؤسس الطريقة المنهجية لما هو مشترك ومتقاطع بين الشعريات العديدة لأي نوع، وذلك من خلال تجلِّياته الممكنة واللامتناهية...» (ص 35). وإذ يصوغ هذا الأنموذج يهتم بمبدأ «اللاتيقُّن»، لأنه يعلم أنه من المحال حدوث أي تحديد على نحو قاطع (ص. 47).
وينطلق من هذا المبدأ، فيرى أنَّ النوع النووي يتكوَّن من محدِّدين أساسيَّين هما: ١. نواة... ٢. مكوِّنات بنيوية متحقَّقة في آَلاف التجليات المختلفة لنوع ما... (راجع ص 52).
يبدو لي أنَّ هذا التحديد ينتمي، في نظريات الشعرية، إلى الشعرية التجريدية التي تبحث عن النسق الكلِّي الثابت في المتغيِّر من تجلِّيات النوع الأدبي، أو البنية المجرَّدة للنوع الأدبي التي تحتوي تجلِّياته جميعها.
تلحُّ عليَّ، هنا، أسئلة لم أستطع إبعادها، ومنها: ما هي هذه البنية المجرَّدة؟ ما مصدرها؟ هل هي أزلية؟ هل هي بنية سابقة في الوجود للنُّصوص؟ منفصلة عن الزمان والمكان كأنها كائن ميتافيزيقي؟
وإذ ينجز الباحث المهاد النظري، يعتمد ما توصل إليه من نتائج في التطبيق، الذي يهتم باختبار قدرة نموذج النوع النووي على تحديد المكوِّنات الرئيسة، في عديد الأعمال المسرحية وشعرياتها المختلفة...، ويعدُّ التلقي مكوِّنًا لا غنى عنه في بنية النموذج... وإذ يعتمد على معطيات أمبيريقية يقوم بإجراء استنباطي يتمثّل في الوصول إلى بناء نظري لأنموذج النوع النووي الذي «لا يفسر طبيعة التجليات المسرحية القائمة، في مختلف شكولها وعديد صفاتها فحسب، بل يقبل احتمالات تستشرف مستقبل النوع، وتتشوّف تطوراته الممكنة أيضًا» (ص 90 و91).

قراءة نقدية
ثم يحدِّد هذه المكوِّنات البنيوية القارَّة والمشتركة بين آلاف التجلِّيات المختلفة للشعريات المسرحية المتعدِّدة، بصرف النظر عن زمانها ومكانها، من أكثرها كلاسيَّه إلى أوفرها تجريبية، وهي: العلاقات الزمانية - المكانية، والعوالم الممكنة والواقع الثانوي، وازدواجية العلامة المكانية والفضاء المنصِّي. ثم يحدِّد بنية أنموذج النوع المسرحي النووي، ثم يبحث في البلاغة المسرحية من منظور النوع النووي، وإذ يستوفي البحث في هذه القضية، يبحث قضية «النوع النووي ومناهج البحث في أصول المسرح العربي»، ويطرح أسئلة الخطاب النقدي التأصيلي، ومناهج البحث في المسرح العربي قبل عام 1847 م.
ويجري، في ضوء المكونات البنيوية التي حدَّدها لنوع المسرح النووي، قراءة نقدية في آَراء تيارين: أولهما يتمثّل في آَراء مَن ذهبوا إلى وجود مسرح عربي سابق على شكله الغربي، ويرى أنَّ هذه الآراء يعيبها اعتمادها المباشر، في جزء كبير من طروحاتها، على نظرية الدراما والعرض الغربيين، وثانيهما يتمثّل في آَراء مَن ذهبوا إلى غياب المسرح العربي، قبل عام 1847 م.  ويرى أنَّ هذا التيار يقسّم إلى اتجاهين، يعزو أولهما غياب المسرح إلى غياب النص الدرامي، ويعود غياب هذا النص، من منظور هذا الاتجاه، إلى عامل أو أكثر من العوامل الآتية: العَقَدي، واللغوي والأدبي، والنفسي، والبيئي، والأنثربيولوجي، ويعزو ثانيهما هذا الغياب إلى غياب فن الأداء، ثم غياب الخشبة المسرحية، وقد أرجع ممثلو هذا الاتجاه ذلك إلى سبب أو أكثر من الأسباب الآَتية: العَقَدي، والفني، والبيئي. 

عيوب منهجية
وإذ يعرض هذه الآراء، ويناقشها يرى أنَّ الدراسة المنهجية لها ترصد فيها عيبًا منهجيًا أو أكثر من العيوب الآَتية: استلهام وعي جمالي خارج الوعي التاريخي لفنون فرجتنا وتراثنا، عدم الانتباه إلى إشكالية العرض الكامنة في بُعديه: نص الدراما / نص العرض، والخلط بين الأداء الفني وفنون الأداء الواقعية، وإسقاط جماليات غربية، وسبْق النتيجة المقدمات، وعدم تحرِّي دراسة فنون الأداء على نحو كلِّي، واتِّباع آَراء المستشرقين وتكرار بعضه الباحثين لها كما هي. ويخلص، بناء على أنموذج النوع النووي في المسرح، ومن طريق اعتماد الدراسة المنهجية لجداول التطبيق في الملحق، إلى أنَّه يمكن القول إن العرب قد عرفوا المسرح، مثلهم مثل الشعوب الأخرى. 
ويقرِّر أنَّ نتيجة تطبيق أنموذج النوع النووي على تجليات الأداء العربي، قبل عام 1847، تشير إلى حضور ثمانية نظائر مسرحية مستقرة مارسها العرب في تاريخهم الطويل؛ وذلك قبل استزراع المسرح الغربي وتقاليده الجمالية في البيئة العربية، وهي تقاليد لها خصائص جمالية متميزة، وشعريات مختلفة عن تقاليد الإنتاج والفرجة في المسرح الغربي، ويقدم قائمتين، أولاهما نظائر مسرحية تعتمد على وسيط بشري، وثانيتهما نظائر مسرحية تقوم على وسيط غير بشري (راجع: ص. 139،160).
إنَّ هذا الكتاب يقدِّم مهادًا نظريًّا محكم البناء يتيح لمعتمده تحصيل معرفة بالبنى الكلِّية للنوع الأدبي، تمكِّن الباحث الذي يمتلكها من دراسة أيِّ نوع أدبي وتجلياته منهجيًا، ويخلص إلى نتائج علمية، كما فعل الباحث علاء عبدالهادي في دراسته التطبيقية للمسرح العربي ■