العامّي والفصيح

العامّي والفصيح

عندما تغنّي فيروز:
دقّيتْ دقّيتْ وإيديّي تجرّحوا
وقنديلكنْ سهرانْ ليش ما بتفتحوا
مَدري أنا ما عدت أعرف بابكنْ
مدري نقل باب اللِّكن من مطرحو
  يجد المستمع هنا نفسه في حضرة الشعر، لكنّ مستمعًا عربيًا آخر من غير لبنان وبلاد الشام قد يعسُر عليه فهم هذه العبارة أو تلك. وهذا ما يمكن قوله عن عاميّة يفرزها قُطر عربي ما، وتجد مشقة في العبور إلى أقطار عربية أخرى، رغم حلاوتها المحلية.
 وعندما حاول بعض العاميّين تهذيب العامية وترقيتها إلى ما يُشبه الفصحى، جنوا عليها ولم يتنبهوا إلى أنّ للعامية عبقريّتها وقوانينها التي تأبى التنازل عنها، فإذا قُسرت على هذا التنازل فقدت خصائصها، ولم يتم التقارب بينها وبين الفصحى. ولعلّ أفضل الأدوية التي استُخدمت في هذا المجال هو ترك جناحَي العربية هذين يتفاعلان تلقائيًا في مباراة حرّة شهدتها أكثر اللغات، دون أن يتمكّن أحد الجناحين من تحقيق الانتصار الذي راهن عليه كثيرون.
والواقع أن الأدب العامي يتقدّم في كل مرة يعجز فيها الأدب الفصيح عن التعبير عن مشاكل الناس والمجتمع، وينصرف إلى البديع والبلاغة والجناس، وما إلى ذلك من الأساليب الإنشائية التي لا تتضمن ما يفيد الناس وما يدعهم يلتفتون إلى هذا الأدب البليغ... وهذا ما لاحظه توفيق الحكيم مرة، فقال إن جماعة الفصحى لا يمكنهم الانتصار على الأدب العامي أو الشعبي بكتابة أدب كالأدب الذي كتبه فلان أو فلان في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وكان مستكملًا كل عدّته اللغوية والأسلوبية الرفيعة، بل بكتابة أدب آخر مختلف، لغته قريبة من لغة الناس، وهمومه هي همومهم، وقادر على مخاطبة طموحاتهم وأحلامهم. 
   لم يكن الحكيم يبالغ في رسم صورة واقعية لأدبين كانا يتصارعان بالساحة المصرية والعربية في منتصف القرن الماضي، أحدهما كان متأثرًا بالأدب القديم الذي كان سائدًا في عصور سابقة، وآخر كان يطمح للتعبير عن مواجد وأشواق فئات اجتماعية جديدة كانت تشقّ طريقها ولا تجد في أدب الشيوخ، يومها، لا ذاتها ولا طموحاتها.
وقد جاء وقت اهتم فيه شيوخ الأدب واللغة عندنا بلغة المعاجم والقواميس أكثر ممّا اهتموا بلغة الحياة نفسها. وعندما وجدوا بعض النضارة والحيوية في العامية استكثروا هذه النضارة والحيوية عليها، فألّفوا كتبًا من نوع «ردّ العامي إلى الفصيح»، كأنما العامّية في حدّ ذاتها عيبٌ أو عار، مع أنّها المنهل الذي يزوّد الفصحى بالحياة والحيوية، ويبعد عن شفتيها كأس الجمود الذي كلما حاولت التحرّر منه انبرى على الفور مَن يريد إعادتها إلى بيت الطاعة وإلى قوانين وأعراف مستمدة مما كان متعارفًا عليه في القرون الوسطى، كي تُحرم من نور الشمس ومن دفء الحرية.
  لكنّ الأكيد أن اللغتين، إن جاز التعبير، تمتحان من بعضهما البعض، وتتفاعلان تفاعلًا عفويًا، وليس بينهما العداء الذي نتصوّره، ولا يمكن لإحداهما القضاء على الأخرى، ولا يجوز دفعهما إلى هذا المصير الحزين، وهذا ما نستنتجه من تاريخ التفاعل أو الصراع بينهما عندنا وعند سوانا ■