ثأراً من الأيام

من دفتر الذكريات

الحياة مجموعة من الخبرات المتنوعة، وليس بالضرورة أن تتشابه وتتكرر، إنما كثير من الخبرات منفردة تضيف معنى جديدا للحياة، وتعطيها لذة التراكم، وقد اختارت "العربي" مجموعة من المتميزين العرب ليروي كل بطريقته الخاصة بعضا من ذكرياته التي أصبحت دروسا في الحياة.

لم تكن مفاجأة لي غير متوقعة حين دعاني محاسب "المكتب السلطاني" - كما كانت تسمى الثانوية الوحيدة إذ ذاك في حلب - ووجه إليّ الحديث بصوته الخفيض الذي لا يخلو من حزم: إذا لم تدفع القسط غدا فإنك سوف تفصل من المكتب (والقسط مبلغ من المال كنا ملزمين بدفعه مقابل تعليمنا).

وخرجت وأنا في حالة نفسية مؤلمة، وحرت في أمري فلم أرجع إلى "الصف" تفاديا من حرج قد أقع فيه، وبقيت متسمرا في إحدى الزوايا حتى قرع "محمد أغا" الطبل مؤذنا بانتهاء الدراسة ذلك اليوم. وتوجهت إلى البيت وفي رأسي مائة هاجس.

وكان مصدر قلقي أنني أعرف حالة الوالد المادية الصعبة في ذلك الشتاء القاسي، فقد مر به موسمان زراعيان في غاية السوء، وكان مصدر رزقه الأساسي ما كانت تدره عليه ملكيته المتواضعة من الفستق الحلبي والزيتون، حين كانت أغصان الأشجار تنوء بحمل ثمارها الثمينة، غير أن الأغصان بقيت في هاتين السنتين متحللة من أعبائها العادية ويشغلها شاغل عن التراقص والتناوح: سنة بسبب لفحة حر في يوم من أيام الربيع، كأنه هرب من الجحيم فأحرق الزهر في أكمامه، وسنة بسبب تعرض الثمار، وهي في فترة تكونها إلى موجة عاتية من حبات بَرَدٍ كبير الحجم، لم تبق منها على الأغصان شيئا ولم تذر.

وكنت أذهب إلى المدرسة مشيا على الأقدام من أقصى شرق المدينة إلى أبعد موقع في غربها، لعدم وجود وسيلة نقل شعبية انتقل عليها، ذلك أن سكة "الترامواي" التي بدأ الفرنسيون بتركيبها فور انتهائهم من تصفية الثورة السورية الكبرى، لم تكن قد انتهت بعد. ولم تكن السيارات من الوسائل المألوفة لنا، كما أن الحنطور الذي كان يجري به جوادان يعيشان تحت نظام "ريجيم" قاس، ترف محتكر لبعض "أبناء الذوات" من رفقائنا، وكان شعورنا أنهم كانوا يحبون أن يدلوا على الناس بثرائهم، لأنهم لم يكونوا في حاجة إلى ركوب، لقرب منازلهم من الثانوية.

وقد كان لطول الطريق والسير على الأقدام فضيلة تعويدي على إطالة التفكير في متاعبي والبحث الهادئ عن إيجاد حلول لها، وبالنسبة لمشكلة القسط المدرسي فقد كان الحل الذي وصلت إليه هو الانقطاع عن الدراسة ذلك العام وعدم إخبار الوالد بمطالبة المحاسب.

غير أنني حين دخلت البيت علمت بأن المدرسة أرسلت ورقة خاصة بالقسط وأن الوالد اطلع عليها وخرج من البيت دون أن يخبر أحدا بما عزم عليه، وحين عاد في المساء كانت أساريره منبسطة، والبشر يطفح في وجهه المتغضن ومد أبي يده بالقسط، عدة ليرات ذهبية، فقد كان الذهب هو العملة الشرعية المألوفة، إلى جانب المسكوكات الفضية، يومها لم يكن الناس يعرفون شيئا عن "العملة" الورقية، ولم يكونوا يريدون التعامل بها، حتى إن أحد الفقهاء أفتى بأنها ليست نقدا وأن الزكاة لا تجب فيها، وذلك قبل أن يأكلها التضخم.

وكثيرا ما تساءلت بعد هذه الحادثة: هل باع الوالد شيئا من أشياء البيت ليأتي بالقسط، أم أنه استقرض من مراب لقاء رهن؟ ومات وأنا في الغربة أتلقى العلم، وحمل معه سره إلى قبره؟

ومهما يكن الأمر، فقد ظلت "قضية القسط" غصة في حلقي، وكنت أشعر بأنه عقبة كأداء في طريق كثيرين من أبناء الطبقة الشعبية إلى دور العلم، ولكن أين هي اليد الخيرة والقوية، الراغبة في اجتثاثه من جذوره؟. وطال انتظارها عشرين عاما كاملة، ولكن أن يتأخر الخير خير من ألا يأتي، فقد جلا الأجنبي عن البلاد وعادت مقدراتها إلى أيدي أبنائها، وجرت أول انتخابات عامة بالطريقة السرية والمباشرة، ودخلت نائبا في أول مجلس نواب في عهد الاستقلال، ولم أنس ما عاهدت نفسي به، فوقفت تحت القبة المزخرفة أطالب بقوة بجعل التعليم مجانيا بكل درجاته، ولكن خطابي قوبل بوجوم ودهشة، وترددت في مسامعي كلمة شيوعية، شيوعية، غير أن الأيدي القليلة التي ارتفعت لتأييد الاقتراح، أبقت في نفسي على جذوة من لأمل.

وشاء الله ألا تتأخر المناسبة الحلوة، فقد انتخبت مقررا عاما للجنة التي كلفت بوضع أول دستور للبلاد في عهدها الجديد، يحل محل الدستور الذي وضعه المفوض السامي عام 1930، وأصبح في مقدوري أن أحقق للبلاد رغبة كانت تتوق إليها شرائح واسعة من أبنائها.

وقد تأنقت جدا في صياغة المادة الثامنة والعشرين من دستور 1950 م واستقرت بعد مناقشات طويلة على النص التالي:
"التربية والتعليم حق لكل مواطن
والتعليم الابتدائي إلزامي ومجاني
والتعليم الثانوي والمهني مجاني في مدارس الدولة
وتعمل الدولة على تسهيل سبل التعليم العالي"

وحين يريد الله سبحانه أمرا، فإنه ييسر له أسبابه، فقد توليت في شهر "آب" أغسطس 1950 مقاليد وزارة المعارف، وبادرت إلى استصدار الصك القانوني المتضمن إلغاء الأقساط المدرسية.

بعد ذلك أتبعت هذا الإجراء باتخاذ إجراءين جذريين، فقد وفقت إلى إيفاد ثلاثمائة موفد أتبعتهم بعد ثلاث سنوات بثلاثمائة آخرين إلى مختلف الجامعات الشهيرة في البلاد الأجنبية والعربية، أخذوا جميعا في مسابقات عامة ومن جميع المحافظات بحسب نسبة عدد سكانها، وأشرفت على تقييم كفاءاتهم لجان من أساتذة اشتهروا بأمانتهم وحيادهم، وعادوا إلى وطنهم خيرا وبركة بعد أن نالوا شهاداتهم العليا.

وعادت نغمة "الشيوعية" مرة أخرى إلى التداول، ولكن هذه المرة في تقرير بعث به السفير البريطاني إلى حكومته عام 1955 وكشف النقاب عنه أخيرا مع الوثائق التي نشرتها جريدة الشرق الأوسط السعودية.

ويبدو لي أن السفير اقتنع "بشيوعيتي" حين أبلغني اعتذار حكومته عن قبول سبعة عشر موفدا إلى الجامعات البريطانية، واستمهل لتحقيق هذه الأمنية عدة سنوات حتى تُهَيِّأَ للمبعوثين الأماكن، عندها قلت لأشخاص أبلغوه القول بأنني سوف أحول جميع البعثات إلى الدول الشرقية، وجاءني بعد يومين يزف إليّ بشرى نجاح مساعيه لدى وزير خارجيته.

وبعد هذا التاريخ جاء الدكتور طه حسين من أعماق الريف المصري ليتولى وزارة المعارف ويقرر مجانية التعليم في القطر الشقيق.