تسونامي

بعد‭ ‬تناولِ‭ ‬العشاءِ‭ ‬تجمّعتْ‭ ‬أسرةُ‭ ‬‮«‬نـــــورٍ‮»‬‭ ‬في‭ ‬بهو‭ ‬الدّار‭ ‬مُنتظرةً‭ ‬موعدَ‭ ‬نشرةِ‭ ‬الأخبارِ‭. ‬كانتِ‭ ‬السّاعةُ‭ ‬الثّامنةُ‭ ‬ليلاً‭ ‬حين‭ ‬أطلَّ‭ ‬المذيعُ‭ ‬من‭ ‬التّلفاز‭ ‬مفتتحًـا‭ ‬النّشرةَ‭ ‬بحدوثِ‭ ‬زلزالٍ‭ ‬مُدمّــــــــرٍ‭ ‬بجُزرٍ‭ ‬‮«‬الفِلبّيــنِ‮»‬،‭ ‬مُكــــرّراً‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لآخر‭ ‬كلمــــــةَ‭ ‬‮«‬تسونامي‮»‬،‭ ‬ومُعلّقا‭ ‬على‭ ‬مشاهدِ‭ ‬الدّمارِ‭ ‬وخرابِ‭ ‬البيوتِ‭ ‬وصُراخِ‭ ‬النّاسِ‭ ‬والأمواجِ‭ ‬العاتيةِ‭ ‬التي‭ ‬ابتلعتْ‭ ‬البناياتِ‭ ‬العاليةَ‭ ‬وأتتْ‭ ‬على‭ ‬كلِّ‭ ‬شيء‭ ‬بمدنٍ‭ ‬وقرى‭ ‬كثيرةٍ‭.‬

كان‭ ‬المشهدُ‭ ‬مُؤلماً‭ ‬وحَزيناً،‭ ‬وأفرادُ‭ ‬الأسرةِ‭ ‬في‭ ‬صمتٍ‭ ‬وذهولٍ‭.‬

تسلّلتْ‭ ‬‮«‬نورٌ‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬غُرفتها‭ ‬باكيةً‭ ‬من‭ ‬هولِ‭ ‬ما‭ ‬شاهدتْ‭ ‬عيناها،‭ ‬ثمّ‭ ‬سَحبتْ‭ ‬حاسوبها‭ ‬المَحمول‭ ‬من‭ ‬درجِ‭ ‬مكتبتِها‭ ‬وفتحتهُ‭ ‬وبدأتْ‭ ‬تبحثُ‭ ‬في‭ ‬مُحرّكِ‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬لفظةِ‭ ‬‮«‬‭ ‬تسونامي‮»‬‭ ‬حتّى‭ ‬عثرتْ‭ ‬في‭ ‬مَوقع‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬مَعناها‭ ‬الأصليِّ‭ ‬في‭ ‬اللّغــــةِ‭ ‬اليابانيّـــةِ،‭ ‬وفهمتْ‭ ‬أنّها‭ ‬تتألّفُ‭ ‬من‭ ‬كلمتينِ‭: ‬‮«‬تسو‮»‬‭ ‬وتعني‭ ‬الكبيرَ‭ ‬و«نامي‮»‬‭ ‬وتعني‭ ‬الموجةَ‭. ‬إنّها‭ ‬إذن‭ ‬الأمواجُ‭ ‬الكبيرةُ‭ ‬العاليةُ‭ ‬التي‭ ‬تنشأ‭ ‬من‭ ‬جرّاء‭ ‬الزَّلازلِ‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬البحارِ‭ ‬والمحيطاتِ،‭ ‬فتمتدُّ‭ ‬لتغمرَ‭ ‬سطحَ‭ ‬الأرض‭ ‬وتدمّرُ‭ ‬كلَّ‭ ‬شيء،‭ ‬وتأتي‭ ‬على‭ ‬الأخضرِ‭ ‬واليابسِ‭.‬

ارتمتْ‭ ‬‮«‬نورٌ‮»‬‭ ‬على‭ ‬سريرِها،‭ ‬فبرقتْ‭ ‬في‭ ‬خاطرِها‭ ‬فكرةُ‭ ‬أنْ‭ ‬تقومَ‭ ‬بفعلِ‭ ‬شيءٍ‭ ‬ما‭ ‬كيْ‭ ‬تُقدّمَ‭ ‬يدَ‭ ‬المساعدةِ‭ ‬لأُسَر‭ ‬ضحايا‭ ‬‮«‬التسونامي‮»‬،‭ ‬وفيهم‭ ‬أطفالٌ‭ ‬بلا‭ ‬مَأوى‭ ‬وبلا‭ ‬مَأكلٍ‭ ‬ومَشربٍ،‭ ‬وآخرونَ‭ ‬جرْحى‭ ‬أصبحوا‮ ‬‭ ‬بلا‭ ‬سندٍ‭ ‬وبلا‭ ‬عائلٍ‭.‬

وفي‭ ‬الغدِ‭ ‬ذهبتْ‭ ‬‮«‬نورٌ‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬المدرسةِ‭ ‬وقبلَ‭ ‬أن‭ ‬تُعلنَ‭ ‬معلّمتُها‭ ‬عن‭ ‬بدايةِ‭ ‬الدّرسِ‭ ‬رفعتْ‭ ‬إصبعها،‭ ‬وقالتْ‭: ‬معلّمتي‭. ‬أريدُ‭ ‬أن‭ ‬أقولَ‭ ‬شيئا‭ ‬مُهِمّا‭.‬فقالتِ‭ ‬المعلّمةُ‭: ‬تفضّلي‭ ‬يا‭ ‬ابنتي‭.  ‬وبدأتْ‭ ‬‮«‬نورُ‮»‬‭ ‬في‭ ‬الحديثِ‭ ‬عمّا‭ ‬شاهدتهُ‭ ‬البارحةَ،‭ ‬وظلّتْ‭ ‬تشرحُ‭ ‬هولَ‭ ‬‮«‬التسونامي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬حلَّ‭ ‬بجُزر‭ ‬‮«‬الفلبّينِ‮»‬‭ ‬وعن‭ ‬ضحايـــاهُ‭ ‬ومآسيهــم،‭  ‬ثمّ‭ ‬توقّفتْ،‭ ‬وقالتْ‭: ‬ما‭ ‬رأيكِ‭ ‬آنستي،‭ ‬وما‭ ‬رأيكم‭ ‬زُملائي‭ ‬بأن‭ ‬نجمعَ‭ ‬مساعداتٍ‭ ‬لإغاثةِ‭ ‬إخوانِنا‭ ‬هناكَ‭.‬كأنْ‭ ‬يأتي‭ ‬كلّ‭ ‬واحدٍ‭ ‬منكم‭ ‬بعشرةِ‭ ‬دنانير،‭  ‬ونُودعُ‭ ‬المبلغَ‭ ‬لدى‭ ‬مدير‭ ‬المدرسةِ‭ ‬ليقدّمهُ‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬جمعيّةِ‭ ‬هِلالنا‭ ‬الأحمر‭ ‬إلى‭ ‬دولةِ‭ ‬‮«‬الفلبّينِ‮»‬‭ ‬كمساعدةٍ‭ ‬باسمِ‭ ‬مدرستِنا‭. ‬استحسنتِ‭ ‬المعلّمة‭ ‬الفكرة‭ ‬وطلبت‭ ‬من‭ ‬التّلاميذَ‭ ‬الوقوفِ‭ ‬والتّصفيقِ‭ ‬لنورٍ‭ ‬ولفكرتِها‭ ‬الرّائعةِ،‭ ‬ثمّ‭ ‬أشارتْ‭ ‬عليهم‭ ‬بالجلوسِ،‭  ‬فجلسوا،‭  ‬وبدأتْ‭ ‬تفسّرُ‭ ‬لهم‭ ‬أنواعَ‭ ‬الكوارثِ‭ ‬الطبيعيّةِ‭ ‬والحاجةَ‭ ‬إلى‭ ‬تضامنِ‭ ‬النّاسِ‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬عندَ‮ ‬‭ ‬الشدّةِ‭.‬

وفي‭ ‬اليومِ‭ ‬المُوالي‭ ‬وقبلَ‭ ‬أن‭ ‬تفتتحَ‭ ‬المعلّمةُ‭ ‬درسها‭ ‬تَفاجأتْ‭ ‬بسخاءِ‭ ‬تلاميذِها‭ ‬وكرمِ‭ ‬أُسَرهم،‭  ‬فلقد‭ ‬جلبَ‭ ‬كلُّ‭ ‬واحدٍ‭ ‬ظرْفا‭ ‬يحملُ‭ ‬مَبلغاً‭ ‬وفيراً‭ ‬من‭ ‬المالِ‭ ‬سوى‭ ‬الطّفلِ‭ ‬‮«‬سعيد‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬ظلَّ‭ ‬مُنكّساً‭ ‬رأسهُ‭ ‬في‭ ‬مقعدهِ‭ ‬الخلفيِّ،‭ ‬ثمّ‭ ‬أجْهشَ‭ ‬بالبكاءِ‭. ‬أقبلتْ‮ ‬‭ ‬عليه‭ ‬المعلّمةُ‭ ‬بلُطفٍ،‭ ‬وقالتْ‭: ‬لابأسَ‭ ‬يا‭ ‬سعيدُ،‭ ‬لماذا‭ ‬تبكي‭ ‬هكذا‭ ‬بمرارةٍ؟‭ ‬صمتَ‭ ‬سعيدٌ‭ ‬لفترةٍ،‭ ‬ثمّ‭ ‬قالَ‭: ‬أنا‭ ‬من‭ ‬عائلةٍ‭ ‬فقيرةٍ‭ ‬ولا‭ ‬مالَ‭ ‬عندنا،‭  ‬لكنّي‭ ‬أتبرّعُ‭ ‬بقميصي‭ ‬هذا،‭ ‬وهو‭ ‬ينزَعهُ‭ ‬منْ‭ ‬على‭ ‬جسدهِ،‭ ‬التفَّ‭ ‬حولهُ‭ ‬زملاؤهُ‭ ‬ومُعلّمتهُ‭ ‬قائلينَ‭: ‬لا،‭ ‬يا‭ ‬سعيدُ،‭ ‬سنتبرّعُ‭ ‬بقسطٍ‭ ‬من‭ ‬المالِ‭ ‬نيابةً‭ ‬عنكَ‭ ‬،فلا‭ ‬تهتمَّ‭ ‬بالأمرِ،‭ ‬فنحنُ‭ ‬لكَ‭ ‬إخوةٌ،‭ ‬وأنتَ‭ ‬مِنّا‭.‬

وبعدَ‭ ‬انتهاءِ‭ ‬الدّرسِ‭ ‬طلبتِ‭ ‬المعلّمةُ‭ ‬من‭ ‬سعيد‭ ‬الخروجِ،‭ ‬ودَعتْ‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬زملائهِ،‭ ‬وقالتْ‭ ‬لهم‭: ‬سعيدٌ‭ ‬أخٌ‭ ‬لكم‭ ‬جميعاً،‭ ‬سَنساعده‭ ‬في‭ ‬آخرِ‭ ‬كلِّ‭ ‬شهرٍ‭ ‬بمبلغٍ‭ ‬متواضعٍ‭ ‬من‭ ‬المالِ‭. ‬أمّا‭ ‬مساعدتكُم‭ ‬لضحايا‮ ‬‭ ‬‮«‬التسونامي‮»‬‭ ‬فهي‭ ‬عملٌ‭ ‬إنسانيٌّ‭ ‬نبيلٌ‭ ‬وواجبٌ‭ ‬أخلاقيٌّ‭ ‬ودينيٌّ‭.‬

وفي‭ ‬صباحِ‭ ‬الغدِ،‭ ‬وفيما‭ ‬كانَ‭ ‬التّلاميذُ‭ ‬على‭ ‬مقاعدِ‭ ‬الدّراسةِ‭ ‬مُتهيّئينَ‭ ‬للدّرسِ،‭ ‬قالتِ‭ ‬المعلّمةُ‭:‬

لديَّ‭ ‬خبرٌ‭ ‬مُفرِحٌ‭: ‬في‭ ‬الأسبوعِ‭ ‬القادمِ‭ ‬ستصلُ‭ ‬مُساعدتِكُم‭ ‬إلى‭ ‬أهالي‭ ‬الضّحايا‭. ‬أنتِ‭ ‬يا‭ ‬مريمُ،‭  ‬وأنتَ‭ ‬يا‭ ‬أحمدُ،‭  ‬وأنتَ‭ ‬أوّلاً‭ ‬يا‭ ‬سعيدُ،‭ ‬ستُسافرونَ‭ ‬معي‭ ‬قريباً‭ ‬في‭ ‬بعثةِ‭ ‬تَضامنٍ‭ ‬تُنظِّمُها‭ ‬دولتـُنا‭ ‬إلى‭ ‬جُزرِ‭ ‬‮«‬الفِلبّينِ‮»‬‭.‬

رسوم‭: ‬عبدالعزيز‭ ‬آرتي