اللغة حياة: الشاعر قد يفرض الدلالة والصيغة اللغويّة

اللغة حياة: الشاعر قد يفرض الدلالة والصيغة اللغويّة
        

          قلّما يلتفت المتلقّي إلى الخطأ المحتمل حين يروعه المعنى وتفتنه الصورة الشعريّة، وحسبك مثلًا على ذلك قصيدة أبي فراس الحمدانيّ:

          أَراكَ عَصِيَّ الدَمْعِ شِيمَتُكَ الصَبْرُ
                                        أَما لِلْهَوَى نَهْيٌ عَلَيْكَ وَلا أَمْرُ؟

          فهي من روائع  الشعر العربيّ، وقد بلغ من إعجاب الناس بها أن غنتها عملاقة الطرب العربيّ السيدة أمّ كلثوم. لكن لو أراد أحدنا التدقيق في مطلعها الجميل هذا لوجد ثلاثة أخطاء: خطأ في التركيب، هو تعدية مصدري النهي والأَمْر إلى المفعول الأول (المخاطب) بعَلَى، وهما يتعدّيان إليه بلام التقوية، وآخر في المعنى، هو التناقض بين نهي الهوى للشاعر عن البكاء وأمره به، مع أنّ المراد أمره به فقط، بقرينة السؤال عن عصيان الدمع، وثالثًا في الترتيب، وهو تقديم النهي على الأمر، مع أنّ المعهود هو العكس. لكنّ المعنى الجميل الموحي هجم على متذوّقي الشعر فاستحسنوا كلّ ما فيه، كاستحسان العاشق لكلّ شيء في حبيبته حتى عيوب نطقها، وكاعتبار عيوبها مزايا، ولعلّ متذوقي الشعر أولئك لمحوا، عن وعي أو عن غير وعي، في الأمر والنهي كناية عن السلطان، أو ضمّنوهما معناه، فاستقام عندهم المعنى والتركيب، وبدا لهم أنّ الشاعر يريد القول: أما للهوى سلطانٌ عليك؟

          من ذلك نعلم لماذا أجازوا للشاعر ما لم يجيزوه لغيره، فالشعر عندهم أرقى وسائل التعبير والتصوير، والروعة الشعريّة تشفع عندهم لمخالفة العادة والقاعدة، وهذا يعني أنّهم كانوا يؤْثرون الرائع على الصحيح، لكن ضمن شروط توافقوا عليها.

          ويحضرنا في هذا السياق بيت الشاعر العباسيّ محمد بن يَسير الحِمْيَريّ:

          وَلَوْ قَنِعتُ أَتاني الرِزْقُ في دَعَةٍ
                                        إنَّ القُنُوعَ الغِنَى لا كَثْرَةُ المالِ

          فقد أخذ اللغويّون على الشاعر ما زعموه خطأ في المعنى، وهو استعمال القُنوع بمعنى رضا الإنسان بما يملك، جازمين أنّ الكلمة تعني سؤال المال أو غيره، وأنّ ما يعبِّر عن معنى الرضا هو القناعة، والحقيقة أنّ المأخذ نظريّ بحت، فما من أحد يسمع هذا البيت إلاّ ويسرع إليه معنى القناعة لا السؤال، وذلك لأنّ السياق يفرضه، والسياق أقدر من المعاجم على فرض الدلالات. ولو نُسب هذا الاستعمال إلى شاعر من عصر الاستشهاد لوجد له اللغويّون مخارج متعدّدة، لكنّ صدوره عن شاعر محدَث حملهم على التخطئة, أوَلَمْ يقل الأعشى الكبير:

          لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلى نَحْرِها
                                        قامَ وَلَمْ يُنقَلْ إلى قابِرِ

          والقابِر هو الدافِن، لكنّ الذي يُفهم من النصّ أنّه القبر نفسه، ومع ذلك لم يعترض اللغويّون على هذا التجوّز، لإيمانهم بأنّ الجاهليّ البدويّ مصدر لا تجوز تخطئته. والمهم أنّ السياق فرض هنا معنى القبر، وسمح للشاعر بأن يُلبس  الكلمة معنى جديدًا مخالفًا للقياس، وكذلك شأن ابن يَسير، فقد محض كلمة القُنوع معنى جديدًا هو معنى القناعة، ثم محضها المتنبّي المعنى نفسه، فعرّض به اللغويّون، لكنّ ابن جِنيّ، وهو من المعجبين بالمتنبّي، أقرّ استعمال «القُنوع» بمعنى القناعة، فكان استعمال شاعرين كبيرين للصيغة نفسها، وإقرار لغويّ ضخم لها، من أسباب إدخالها في المعاجم، وصار يجوز القول: قَنِع قناعة، وقَنَع قُنوعًا: رضيَ بما عنده.

          وقد يقع قريب من ذلك حتّى لمن لا يُحسنون اللغة، فكم من إنسان يخطئ في قراءة النصوص، فيفهم السامع الفَطِن منه المعنى الصحيح، مع ذلك، ولولا هذه الحقيقة لفات الناسَ كثيرٌ من النصوص التي تخلِّط فيها بعض وسائل الإعلام. والمثال على هذا أنّ المذيعين قلّما يقولون :«صِمام أَمان» (بكسر الصاد وتخفيف الميم) بل معظمهم يقول :«صَمّام أَمان»، ومعروف أنّ الصّمام هو ما تُسدّ به القارورة ونحوها، وأنّ الصَمّام اسم فاعل من صَمّمَ. وكثيرًا ما يقولون: «فلانٌ يَعجَزُ أو يَعجُز عن فعل كذا، يريدون أنّه غير قادر على فعله، والصواب: يعجِزُ (بكسر الجيم) لأنّ يعجَز يعني: تكبر مؤخرتُه، ويعجُز: يصبح عجوزًا. ومع ذلك فإنّ الناس لا يفهمون من ذينك الخطأين الشائعين إلاّ معنى الضعف والقصور، ولا يخطر المعنيان الآخران ببالهم.

          وفي هذا أو نحوه تدخل بعض المعارك والخصومات النقديّة، ولاسيّما تلك التي دارت حول المتنبّي، فممّا أخذوه عليه قوله:

          جَلَلًا كَما بِي فَلْيَكُ التَبْريحُ
                                        أَغِذاءُ ذا الرَشَأِ الأَغَنِّ الشِّيحُ؟

          يعني: ليكن التبريح عظيمًا كالذي أعانيه، وهو يشبّه حبيبته تشبيهًا ضمنيًا بولد الظبية متسائلًا: هل غذاء ذلك الولد هو شجر الشيح المرّ الطعم؟ أي هل تستمتع حبيبته بتبريحه المرّ؟ ومأخذ اللغويين على المتنبّي هنا هو حذفه نون «يكن» مع أن ما بعدها ساكن، وهو غير جائز عندهم. لكنّ عشاق المتنبي لم يتوقّفوا عند هذا المأخذ، ولعلهم لم يفكّروا فيه، بل انصبّت عنايتهم على تلك النكتة الأسلوبيّة التي قدّم فيها المتنبّي خبر «كان» عليها وعلى اسمها، وفصل بينه وبينهما بجملة وصفيّة، كما شُغلوا، في أغلب الظن، بذلك التشبيه الضمنيّ الذي حيّر الشرّاح فحسبوا أنّ الشاعر يريد رائحة الشيح الطيّبة، ولم يتنبهوا إلى طعمه المرّ الذي أشرنا إليه ورجّحنا أنّه المقصود، علمًا بأنّ عددًا من اللغويّين سوّغوا الحذف، مستقبحين، مع ذلك، إدغام الكاف باللام، لكنّ الأمر يبقى جدلًا لغويًا نظريًا لا يعني الشعراء وأتباعهم.

          والطريف أنّ بعض اللغويّين في عصرنا الحديث أرادوا التشبّه بالقدماء في نقد المتنبّي، بل أرادوا أن يأتوا بما لم يستطعه الأوائل، فأخذوا عليه أبياتًا، منها قوله المشهور:

          عِيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدْتَ يا عِيدُ
                                        بِما مَضى أَمْ لأَمْرٍ فِيكَ تَسْهِيدُ؟

          زاعمين أنّ «أيّ» الاستفهاميّة لا تؤنَّث، سواء أضيفت إلى مؤنّث أو مذكّر، ودليلهم على ذلك عدم ورودها في القرآن الكريم إلا مذكّرة. ويعرف العلماء أنّ ذلك الزعم هو الخطأ، وأنّ الأمر لا يعدو خيارًا بين الفصيح، وهو تأنيث «أيّ» المضافة إلى مؤنّث، تشبيهًا لها بكُلَّة في بعض اللهجات، وبين الأَفصح، وهو تذكيرها في كلّ حال، تشبيهًا لها بكلٍّ وببعضٍ، على ما نسبه سيبويه إلى الخليل. واستعمالها قريب من استعمال زوج وزوجة المؤنّثتين، فهما لغتان، وردت إحداهما في القرآن الكريم دون الأخرى، ووردت كلتاهما في الحديث الشريف، وفي كلام البلغاء.

          لكنّ المتذوق للشعر قلّما يفكّر في الفصيح والأَفصح حين يسمع بيت المتنبّي، والدليل على ذلك أنّ ذلك البيت أصبح مثلًا، ولعلّ هذا كلّه يفضي إلى بعض النظريّات الشعريّة القديمة المتجدّدة التي تقول «إن الشاعر ملِك الكلام وسيّد اللغة، يطوّعها، وقد يغيّرها».

 

مصطفى علي الجوزو