ذكريات بوسنيّة
لم يكن حضور البوسنة والهرسك في ذاكرتي مرتبطًا فقط بزيارتي المهمة لها، فقد سافرت إلى كثير من الدول، لكن هذه الدولة بالتحديد دخلت في حيّز الاهتمام العربي والإسلامي كواحدة من القضايا التي يجب التفاعل معها، فعندما وقعت الواقعة في يوغوسلافيا، وبدأ تفسّخ الدولة إلى دويلات، برز اسم البوسنة والهرسك على الساحة في وقت لم يكن ذلك الاسم معروفًا من قبل.
لقد حظيت القضية البوسنية بتعاطف رسمي وشعبي كبير، ووصلت إلينا في الجامعة أيام الدراسة وفي البيوت والمدارس والمساجد ووسائل الإعلام، وصارت أخبار القتال فيها على كل لسان، ومن الطبيعي جدًّا أن تكون البوسنة مادة للبحث والسؤال طوال فترة الحرب، لكن لحُسن الحظ انتهت الحرب سريعًا وعلِقَ اسم البوسنة في الذاكرة، وعندما أتت الفرصة لزيارتها ضمن رحلة منظمة ومدروسة، اعتبرتُ هذا الأمر فرصة لا تعوّض لرؤية الواقع بشكل مباشر، وبعد فترة زمنية معقولة هدأت فيها النفوس وتلاشت أغبرة الحرب.
وفي لمحة تاريخية، لابد من الإشارة إلى أنه تعاقب على حكم البوسنة والهرسك بعد خروج العثمانيين أكثر من نظام سياسي؛ أولها امبراطورية النمسا وهنغاريا (1878م - 1918م)، ثم مملكة يوغوسلافيا (1918م - 1941م)، التي ضمت البوسنة والهرسك لمدة قصيرة إلى دولة كرواتيا الفاشية تحت قيادة حزب أوستاشا الفاشستي المتعاون مع هتلر في أثناء احتلاله ليوغوسلافيا، حتى تمكّن الشيوعيون من تحرير أجزاء الدولة وإنشاء جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، لتبدأ المرحلة قبل الأخيرة في تاريخ البوسنة المعاصر مدة 46 سنة (1945م - 1991م) وحتى إعلان قيام جمهورية البوسنة والهرسك المستقلة.
وليست البوسنة فقط هي الدولة الوحيدة من دول يوغوسلافيا السابقة التي تضم خليطًا متنوعًا من المكونات، ففي صربيا وكرواتيا توجد أقلية مسلمة، إلا أن البوسنة اختلفت في تركيبتها التي تتكون من غالبية مسلمة، وهذا التنوع الثلاثي شائع في جميع دول البلقان، مع نسب متفاوتة فيما بينها.
يوم مهيب
فرضت ظروف الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك (1992م ذ 1995م)، التي شهدت كثيرًا من جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الصرب ضد المسلمين، واقعًا مريرًا في كيفية العثور على المقابر الجماعية والتعرّف إلى هوية القتلى وإنهاء معاناة من ينتظرون معرفة مصير مفقوديهم، لذلك تم التوصل إلى طريقة الدفن بطريقة كريمة في يوم واحد لمن يتم التعرف على رفاتهم خلال عمليات البحث التي لا تتوقف على مدار العام، وهذا ما حدث معنا عندما حضرنا يوم الدفن المهيب لــ 610 شهداء، بحضور أهاليهم وجمع من كبار المسؤولين والمدعوين من خارج البوسنة، لقد كان يومًا عصيبًا علينا أن نسير وسط وجوه ذابلة أنهكها الحزن والتفجع، لكنه في الوقت نفسه كان يومًا مجيدًا حظي فيه الشهداء أخيرًا بمراسم دفن لائقة في قبور واضحة المعالم، أعادت الاعتبار لهم، كما تمكّن أقاربهم من تأدية صلاة الميت عليهم.
مماطلة تغذّي حالة القلق
شهد مقر المفوضية الأوربية في بروكسل، بداية العام الحالي، أول مباحثات بين قادة البوسنة والهرسك ومسؤولي الاتحاد الأوربي، تم فيها مناقشة موضوع قبول عضوية البوسنة في الاتحاد الأوربي، والاطلاع على الخطوات المنجزة في قائمة المطالب التي يطلب الاتحاد توافرها في الأعضاء المرشحين كي يكونوا أكثر انسجامًا ضمن منظومة القيم والقوانين الأوربية!
انتهت الحرب في البوسنة والهرسك عام 1995م، وبعد أربعة وعشرين عامًا، بدأت أولى الخطوات الجادة في بحث عضويتها! فما الذي جعل الأمر يستغرق كل هذا الوقت؟ وما هي سلبيات تأخير قبول عضوية البوسنة في الاتحاد الأوربي، إذا أخذنا في الاعتبار أن حلم الانضمام لذلك المحفل المهم ساهم كعامل فاعل في تهدئة أطراف النزاع في الحرب، الصرب والكروات والبوشناق، لأن منافع العضوية الأوربية كفيلة بخلق واقع مزدهر لن تحققه الحرب وأحلام التوسع.
وضمن السعي للحصول على بعض الإجابات، قمت بمراجعة أهم الحوارات التي أجريتُها ضمن زيارتي، واخترت ثلاثة منها أعتقد أنها حملت الكثير من الإجابات المطلوبة والمقلقة في الآن نفسه، قياسًا على جمود الأوضاع التي كانت غير مقبولة قبل عشر سنوات وثباتها مدة أربعة وعشرين عامًا!
بل إن حالة الانقسام التي كرّستها اتفاقية دايتون للسلام أفرزت المزيد من أشكال الاحتقان القومي التي ظهرت بشكل واضح في الانتخابات، وهو ما تعارضه أبجديات الاتحاد الأوربي.
لماذا التخوف؟
عضو مجلس الرئاسة الثلاثية في البوسنة
د. حارث سيلادزيتش، وهو شخصية بارزة تقلّد العديد من المناصب إبان وبعد فترة الحرب؛ أبرزها وزير الخارجية ورئيس الحكومة، تحاورنا معه في العاصمة سراييفو عن مستقبل البوسنة والهرسك، وعبّر بشكل صريح عن امتعاضه من الوضع السياسي الذي تشكّل بعد اتفاقية دايتون التي أنهت الحرب في البوسنة بالقول: اإن التركيبة السياسية والإدارية التي شيدت على أساس اتفاقية دايتون لابد أن تستبدل، ومطلوب من الاتحاد الأوربي العمل على تحقيق ذلك، لقد خدمت تلك الاتفاقية البوسنة والهرسك في مرحلة معيّنة من تاريخها، والآن - بعد عشر سنوات - أصبحت غير نافعة، لأنها تعرقل تقدمنا السياسي والاقتصادي لوجود ثلاث دول في دولة واحدة.
لقد حصل الصرب على جائزة إدارية من وراء اتفاق دايتون، إذ نالوا نصف البوسنة والهرسك، أما الكروات فقد نالوا ثلاثة أضعاف حجمهم الحقيقي، فهل يمكن أن نقبل بذلك، وأن يستمر؟ب.
وأشار سيلادزيتش إلى أن هذه التركيبة لكيان الدولة ستلقى معارضة من الاتحاد الأوربي، لأنه يتعارض مع ميثاقها، لأن ذلك الكيان مقسّم، ولكل قسم وزارة داخلية.
وعن حساسية بعض الأعضاء الأوربيين من دخول دولة غالبيتها من المسلمين قال سيلادزيتش: الماذا التخوف من وجود دولة موحدة الأغلبية فيها للمسلمين؟ لقد أثبتنا ليس خلال الحرب الأخيرة، وإنما طوال تاريخنا، أننا الأكثر تسامحًا وتحضرًا من الآخرين.
إن المسلمين في البوسنة لم يفجّروا أو يعبثوا بأي كنيسة في المناطق التي يشكلون الأغلبية فيها، وفي المقابل دمّر الصرب والكروات أكثر من 1240 مسجدًا في مناطقهم ومناطق المسلمين. وبالنسبة إلينا فنحن لا نرفض أن يكون رئيس الجمهورية صربيًّا أو كرواتيًّا، بشرط أن يعمل من أجل البوسنة والهرسك بكاملها، لا لطائفة أو منطقة معيّنةب.
الحق الأخلاقي تجاه البوسنة
أستاذ القانون المقارن د. فكرت كارتيتش يقول: اإن الحق الأخلاقي يفرض على أوربا، التي فشلت في إيقاف المجازر ضد البوسنيين، قبول طلبهم بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ومن الناحيتين القانونية والموضوعية أؤكد أن انضمام البوسنة أسهل بكثير من تركيا التي يصل تعدادها إلى 90 مليونًا، غالبيتهم من المسلمين، وهو أمر يرى الأوربيون أنه يسبب إرباكًا في التركيبة السكانية، أما البوسنة فهي دولة صغيرة في مساحتها وسكانها، وبها تعددية دينية متوازنة، المعضلة التي سنواجهها في مفاوضات الانضمام هي إصرار الصرب على الاحتفاظ بوزارتي دفاع وداخلية خاصة بهم، ليس لهما صفة الدولة، وهذا أمر غير مقبول، ولا يمكن بناء دولة موحدة بها أكثر من وزارة دفاع وداخليةب.
أوربا دار صلح وعهد
المقابلة الثالثة تمت في مقر المشيخة الإسلامية بسراييفو مع رئيس العلماء في حينها د. مصطفي زيريتش حائز جائزة السلام لعام 2004 من منظمة اليونسكو، مناصفة مع الكاردينال الفرنسي روجيه إيتشيغاري، يقول د. زيريتش: اإن من يحكم العلاقة بين الغرب والإسلام شرذمة حاقدة في الطرفين، لأن صوتهم هو العالي، أما معسكر الأصدقاء في الطرفين فحجتهم ضعيفة، والسؤال هو: كيف نخرج نحن في البوسنة من هذه الورطة؟ برأيي المتواضع، لا بد من تقوية حجج معسكر الأصدقاء بأن يدين الأصدقاء في أوربا كل ما حدث من تطاول على الإسلام في أفغانستان والعراق، وفي المقابل نعلن بوضوح دون لَبس للاتحاد الأوربي أننا بوسنيون مسلمون وأوربيون نحترم الدستور الأوربي، نعتبر أوربا دار صلح وعهد لا دار حرب، وثانيًا نعلن أننا نؤيد الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان وتسامُح الأديان، ونتوقع من الاتحاد الأوربي أن يضمن لنا خمس ضروريات هي (حق النفس وحق الدين وحق العقل وحق المال وحق العرض).
وأخيرًا نطالب الاتحاد الأوربي للمسلمين في أوربا بحريّة ممارستهم للإسلام، والسماح لهم ببناء المساجد فوق الأرض لا في باطنها، وإزاء هذه الحرية، يجب علينا كمسلمين تحمّل مسؤوليتها بنجاح، حتى نكسب المزيد منها. ونحن ولله الحمد نعتبر أن البوسنة والهرسك نموذج وحجّة للمسلمين على الذين يكرهون الإسلام، فنحن نجحنا في التوفيق بين تجربتنا الغربية وقيمنا وهويتنا الإسلامية التي لن نتنازل عنهاب.
لقد خلصت من تلك الحوارات في حينها إلى أن البوسنة خطت الكثير من الخطوات الإيجابية نحو الدخول في عضوية الاتحاد الأوربي، مع حاجتها إلى كثير من دعم الدول الأوربية الرئيسة التي وقفت عاجزة عن مساعدتها في أثناء الحرب، حتى تحقق شروط العضوية الكاملة.
لكن مشكلة أوربا، مع الأسف، أنها لا تستطيع إخفاء مشاعرها، كونها قارة مسيحية لا تشعر بالارتياح لانضمام دولة غالبية سكانها من المسلمين، حتى لو كانت صغيرة المساحة وتاريخها مشرّف في التعامل مع الآخر، مثل البوسنة والهرسك.
كما توجد عقدة أوربية أخرى متعلّقة بمنطقة البلقان وتاريخها المليء بالصراع، والتاريخ يشهد أن شرارة الحرب العالمية الأولى انطلقت منها.
عوامل ترسم ملامح المستقبل
نعود مجددًا إلى خبر بدء المباحثات بين البوسنيين والاتحاد الأوربي، فهو وإن جاء متأخرًا يفترض فيه أن يكون خبرًا مبشّرًا بالخير، بشرط أن يكون معزولًا عن التطورات والمستجدات الأخيرة التي تحدث في قارة أوربا، وفي أبرز الدول التي تقود قاطرة الاتحاد الأوربي.
لقد واجهت أوربا في السنوات القليلة، ولاتزال، أزمة مهاجرين غير مسبوقة أعطبت - بشكل غير متوقع - فاعلية أشهر بنود اتحادها، وهي الحدود الجغرافية الملغاة بين الدول الأعضاء. لقد تباينت مواقف الدول الأوربية بين مرحّب ورافض للمهاجرين، وتباينت معها سياسة استقبالهم كعابرين أو مهاجرين.
الأمر الثاني هو زلزال خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوربي عقب الاستفتاء الذي صوّت فيه البريطانيون بـ انعمب للخروج، هذا الحدث تفاقمت آثاره بعد تعثّر عملية الخروج في مواعيدها المحددة، وبشروط مقبولة من الطرفين، مما فتح الباب واسعًا للحديث بشأن مستقبل تماسك الاتحاد الأوربي، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الأزمات الاقتصادية التي واجهت بعض الأعضاء، مثل اليونان التي أفلست وتدخّلت أوربا لإنقاذها، ولكن، لأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد ساهم التعثّر البريطاني في الخروج من الاتحاد الأوربي في فرملة موجة المطالبة بالخروج، فإذا كان الإنجليز الذين يحسبونها بالقلم والورقة قد غرقوا في تنفيذ ما اختاروه، فكيف سيكون مصيرهم؟
وأخيرًا، لا يمكن تجاهل التحولات العميقة التي حصلت في مزاج الناخب الأوربي الذي اختار التصويت للأحزاب الشعبوية، وتأييد الخطاب العنصري الموجّه ضد المهاجرين والمسلمين.
موازين تبدّلت وقوى عادت
يمكننا أن نبتعد قليلاً بعض الشيء، لنرى بصورة أشمل أن خريطة موازين القوى في العالم، وخصوصًا القوى الإقليمية المحيطة بأوربا ومنطقة البلقان، قد تبدلت لمصلحة قوى عظمى دخلت في مرحلة سبات قصيرة، ثم عادت مجددًا لتتموضع في أكثر من مكان حول العالم، يكفي أن نتذكر حالة العجز التي عاشتها أوربا أمام الحرب في البوسنة، وكيف أن الحل أتى من الخارج على أيدي الولايات المتحدة الأمريكية، اليوم لنتخيل فقط أن نزاعًا صغيرًا نشب في البلقان، ترى ما الذي سيحدث؟ ومن سيتدخل انحيازًا لهذا الطرف أو ذاك؟
لقد قرأت في شهر مايو من عام 2004م، أي قبل زيارتي للبوسنة بعام وشهرين موضوعًا مثيرًا نشر في مجلة نيوزويك الأمريكية عنوانه انهاية أورباب، كتب بمناسبة دخول 10 أعضاء جدد في الاتحاد الأوربي، منهم دول شيوعية من شرق أوربا والبلطيق مع جزيرتي قبرص ومالطا، ذلك الموضوع حمل نظرة متشائمة لتلك الخطوة، لأن مسار أوربا في المستقبل سيكون نحو الانقسام والانشقاق أكثر منه نحو الاتحاد، مع الخشية من الهجرة المتوقعة من الشرق نحو الغرب التي ستنتزع الوظائف من السكان المحليين، وتغمر الخدمات العامة، وذلك لعدم وجود حواجز جغرافية تمنع انتقالهم.
بنظرة أخرى لنفس الموضوع أعدتُ القراءة، هم يتحدثون عن قبول 10 دول دفعة واحدة، لا يختلف معظمها من الناحية الاقتصادية عن البوسنة والهرسك، خصوصًا تلك التي كانت ضمن حلف وارسو، ومن بينها يوغوسلافيا التي تفككت لعدة دول منها البوسنة والهرسك، فما هي الشروط التي نجحت تلك الدول في اجتيازها وأخفقت فيها البوسنة؟
في الختام، وعلى ضوء كثير من المتغيرات في أوربا، يجب وضع جميع الاحتمالات على طاولة البحث، لأن طريقة انتقال تداعيات الأحداث من مكان إلى آخر في العالم باتت تميل نحو التسارع والتماثل في درجة القوة، خاصة في الأمور الاقتصادية والأمنية.
وفي رأيي أن السيناريو الأكثر فداحة الذي يواجه الاتحاد الأوربي ليس هو تفكك منظوماته المتعددة، ولكن تحوّل ذلك الاتحاد إلى مؤسسة تصدّر للعالم خطابًا يجافي القيم الأوربية التي ترسخت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من دفاع عن حقوق الإنسان واحترام التعددية والتسامح الديني.
فأي اتحاد أوربي تطمح البوسنة والهرسك لعضويته، هل هو الاتحاد الذي سيساهم في نقلها إلى مرحلة الازدهار، أم الاتحاد الذي سيدفعها نحو الاندثار؟ .