ذكريات بوسنيّة

ذكريات بوسنيّة

لم‭ ‬يكن‭ ‬حضور‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬مرتبطًا‭ ‬فقط‭ ‬بزيارتي‭ ‬المهمة‭ ‬لها،‭ ‬فقد‭ ‬سافرت‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬بالتحديد‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬حيّز‭ ‬الاهتمام‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬كواحدة‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬التفاعل‭ ‬معها،‭ ‬فعندما‭ ‬وقعت‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬يوغوسلافيا،‭ ‬وبدأ‭ ‬تفسّخ‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬دويلات،‭ ‬برز‭ ‬اسم‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬الاسم‭ ‬معروفًا‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

لقد‭ ‬حظيت‭ ‬القضية‭ ‬البوسنية‭ ‬بتعاطف‭ ‬رسمي‭ ‬وشعبي‭ ‬كبير،‭ ‬ووصلت‭ ‬إلينا‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬أيام‭ ‬الدراسة‭ ‬وفي‭ ‬البيوت‭ ‬والمدارس‭ ‬والمساجد‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام،‭ ‬وصارت‭ ‬أخبار‭ ‬القتال‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬لسان،‭ ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬جدًّا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬البوسنة‭ ‬مادة‭ ‬للبحث‭ ‬والسؤال‭ ‬طوال‭ ‬فترة‭ ‬الحرب،‭ ‬لكن‭ ‬لحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬سريعًا‭ ‬وعلِقَ‭ ‬اسم‭ ‬البوسنة‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وعندما‭ ‬أتت‭ ‬الفرصة‭ ‬لزيارتها‭ ‬ضمن‭ ‬رحلة‭ ‬منظمة‭ ‬ومدروسة،‭ ‬اعتبرتُ‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬فرصة‭ ‬لا‭ ‬تعوّض‭ ‬لرؤية‭ ‬الواقع‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬معقولة‭ ‬هدأت‭ ‬فيها‭ ‬النفوس‭ ‬وتلاشت‭ ‬أغبرة‭ ‬الحرب‭.‬

وفي‭ ‬لمحة‭ ‬تاريخية،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬تعاقب‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬بعد‭ ‬خروج‭ ‬العثمانيين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬سياسي؛‭ ‬أولها‭ ‬امبراطورية‭ ‬النمسا‭ ‬وهنغاريا‭ (‬1878م‭ - ‬1918م‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬مملكة‭ ‬يوغوسلافيا‭ (‬1918م‭ - ‬1941م‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬ضمت‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬لمدة‭ ‬قصيرة‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬كرواتيا‭ ‬الفاشية‭ ‬تحت‭ ‬قيادة‭ ‬حزب‭ ‬أوستاشا‭ ‬الفاشستي‭ ‬المتعاون‭ ‬مع‭ ‬هتلر‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬احتلاله‭ ‬ليوغوسلافيا،‭ ‬حتى‭ ‬تمكّن‭ ‬الشيوعيون‭ ‬من‭ ‬تحرير‭ ‬أجزاء‭ ‬الدولة‭ ‬وإنشاء‭ ‬جمهورية‭ ‬يوغوسلافيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬لتبدأ‭ ‬المرحلة‭ ‬قبل‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البوسنة‭ ‬المعاصر‭ ‬مدة‭ ‬46‭ ‬سنة‭ (‬1945م‭ - ‬1991م‭) ‬وحتى‭ ‬إعلان‭ ‬قيام‭ ‬جمهورية‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬المستقلة‭.‬

وليست‭ ‬البوسنة‭ ‬فقط‭ ‬هي‭ ‬الدولة‭ ‬الوحيدة‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬يوغوسلافيا‭ ‬السابقة‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬خليطًا‭ ‬متنوعًا‭ ‬من‭ ‬المكونات،‭ ‬ففي‭ ‬صربيا‭ ‬وكرواتيا‭ ‬توجد‭ ‬أقلية‭ ‬مسلمة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬البوسنة‭ ‬اختلفت‭ ‬في‭ ‬تركيبتها‭ ‬التي‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬غالبية‭ ‬مسلمة،‭ ‬وهذا‭ ‬التنوع‭ ‬الثلاثي‭ ‬شائع‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬دول‭ ‬البلقان،‭ ‬مع‭ ‬نسب‭ ‬متفاوتة‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭.‬

‭ ‬

يوم‭ ‬مهيب‭ ‬

فرضت‭ ‬ظروف‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ (‬1992م‭ ‬ذ‭ ‬1995م‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها‭ ‬الصرب‭ ‬ضد‭ ‬المسلمين،‭ ‬واقعًا‭ ‬مريرًا‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬المقابر‭ ‬الجماعية‭ ‬والتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬القتلى‭ ‬وإنهاء‭ ‬معاناة‭ ‬من‭ ‬ينتظرون‭ ‬معرفة‭ ‬مصير‭ ‬مفقوديهم،‭ ‬لذلك‭ ‬تم‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬طريقة‭ ‬الدفن‭ ‬بطريقة‭ ‬كريمة‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬لمن‭ ‬يتم‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬رفاتهم‭ ‬خلال‭ ‬عمليات‭ ‬البحث‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العام،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬معنا‭ ‬عندما‭ ‬حضرنا‭ ‬يوم‭ ‬الدفن‭ ‬المهيب‭ ‬لــ‭ ‬610‭ ‬شهداء،‭ ‬بحضور‭ ‬أهاليهم‭ ‬وجمع‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المسؤولين‭ ‬والمدعوين‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬البوسنة،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬يومًا‭ ‬عصيبًا‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نسير‭ ‬وسط‭ ‬وجوه‭ ‬ذابلة‭ ‬أنهكها‭ ‬الحزن‭ ‬والتفجع،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬يومًا‭ ‬مجيدًا‭ ‬حظي‭ ‬فيه‭ ‬الشهداء‭ ‬أخيرًا‭ ‬بمراسم‭ ‬دفن‭ ‬لائقة‭ ‬في‭ ‬قبور‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم،‭ ‬أعادت‭ ‬الاعتبار‭ ‬لهم،‭ ‬كما‭ ‬تمكّن‭ ‬أقاربهم‭ ‬من‭ ‬تأدية‭ ‬صلاة‭ ‬الميت‭ ‬عليهم‭.‬

 

مماطلة‭ ‬تغذّي‭ ‬حالة‭ ‬القلق‭ ‬

شهد‭ ‬مقر‭ ‬المفوضية‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬بروكسل،‭ ‬بداية‭ ‬العام‭ ‬الحالي،‭ ‬أول‭ ‬مباحثات‭ ‬بين‭ ‬قادة‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬ومسؤولي‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬تم‭ ‬فيها‭ ‬مناقشة‭ ‬موضوع‭ ‬قبول‭ ‬عضوية‭ ‬البوسنة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬الخطوات‭ ‬المنجزة‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬المطالب‭ ‬التي‭ ‬يطلب‭ ‬الاتحاد‭ ‬توافرها‭ ‬في‭ ‬الأعضاء‭ ‬المرشحين‭ ‬كي‭ ‬يكونوا‭ ‬أكثر‭ ‬انسجامًا‭ ‬ضمن‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬والقوانين‭ ‬الأوربية‭!‬

انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬عام‭ ‬1995م،‭ ‬وبعد‭ ‬أربعة‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا،‭ ‬بدأت‭ ‬أولى‭ ‬الخطوات‭ ‬الجادة‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬عضويتها‭! ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الأمر‭ ‬يستغرق‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الوقت؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬سلبيات‭ ‬تأخير‭ ‬قبول‭ ‬عضوية‭ ‬البوسنة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬إذا‭ ‬أخذنا‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أن‭ ‬حلم‭ ‬الانضمام‭ ‬لذلك‭ ‬المحفل‭ ‬المهم‭ ‬ساهم‭ ‬كعامل‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬تهدئة‭ ‬أطراف‭ ‬النزاع‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬الصرب‭ ‬والكروات‭ ‬والبوشناق،‭ ‬لأن‭ ‬منافع‭ ‬العضوية‭ ‬الأوربية‭ ‬كفيلة‭ ‬بخلق‭ ‬واقع‭ ‬مزدهر‭ ‬لن‭ ‬تحققه‭ ‬الحرب‭ ‬وأحلام‭ ‬التوسع‭.‬

وضمن‭ ‬السعي‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الإجابات،‭ ‬قمت‭ ‬بمراجعة‭ ‬أهم‭ ‬الحوارات‭ ‬التي‭ ‬أجريتُها‭ ‬ضمن‭ ‬زيارتي،‭ ‬واخترت‭ ‬ثلاثة‭ ‬منها‭ ‬أعتقد‭ ‬أنها‭ ‬حملت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الإجابات‭ ‬المطلوبة‭ ‬والمقلقة‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه،‭ ‬قياسًا‭ ‬على‭ ‬جمود‭ ‬الأوضاع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬غير‭ ‬مقبولة‭ ‬قبل‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬وثباتها‭ ‬مدة‭ ‬أربعة‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا‭!‬

بل‭ ‬إن‭ ‬حالة‭ ‬الانقسام‭ ‬التي‭ ‬كرّستها‭ ‬اتفاقية‭ ‬دايتون‭ ‬للسلام‭ ‬أفرزت‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الاحتقان‭ ‬القومي‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬الانتخابات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تعارضه‭ ‬أبجديات‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭.‬

 

لماذا‭ ‬التخوف؟

عضو‭ ‬مجلس‭ ‬الرئاسة‭ ‬الثلاثية‭ ‬في‭ ‬البوسنة‭ ‬
د‭. ‬حارث‭ ‬سيلادزيتش،‭ ‬وهو‭ ‬شخصية‭ ‬بارزة‭ ‬تقلّد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المناصب‭ ‬إبان‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬الحرب؛‭ ‬أبرزها‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬ورئيس‭ ‬الحكومة،‭ ‬تحاورنا‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬سراييفو‭ ‬عن‭ ‬مستقبل‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك،‭ ‬وعبّر‭ ‬بشكل‭ ‬صريح‭ ‬عن‭ ‬امتعاضه‭ ‬من‭ ‬الوضع‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬تشكّل‭ ‬بعد‭ ‬اتفاقية‭ ‬دايتون‭ ‬التي‭ ‬أنهت‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬البوسنة‭ ‬بالقول‭: ‬اإن‭ ‬التركيبة‭ ‬السياسية‭ ‬والإدارية‭ ‬التي‭ ‬شيدت‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬اتفاقية‭ ‬دايتون‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تستبدل،‭ ‬ومطلوب‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬لقد‭ ‬خدمت‭ ‬تلك‭ ‬الاتفاقية‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬معيّنة‭ ‬من‭ ‬تاريخها،‭ ‬والآن‭ - ‬بعد‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ - ‬أصبحت‭ ‬غير‭ ‬نافعة،‭ ‬لأنها‭ ‬تعرقل‭ ‬تقدمنا‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬لوجود‭ ‬ثلاث‭ ‬دول‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬واحدة‭.‬

لقد‭ ‬حصل‭ ‬الصرب‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬إدارية‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬اتفاق‭ ‬دايتون،‭ ‬إذ‭ ‬نالوا‭ ‬نصف‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك،‭ ‬أما‭ ‬الكروات‭ ‬فقد‭ ‬نالوا‭ ‬ثلاثة‭ ‬أضعاف‭ ‬حجمهم‭ ‬الحقيقي،‭ ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقبل‭ ‬بذلك،‭ ‬وأن‭ ‬يستمر؟ب‭. ‬

وأشار‭ ‬سيلادزيتش‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التركيبة‭ ‬لكيان‭ ‬الدولة‭ ‬ستلقى‭ ‬معارضة‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬لأنه‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬ميثاقها،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬الكيان‭ ‬مقسّم،‭ ‬ولكل‭ ‬قسم‭ ‬وزارة‭ ‬داخلية‭.‬

وعن‭ ‬حساسية‭ ‬بعض‭ ‬الأعضاء‭ ‬الأوربيين‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬دولة‭ ‬غالبيتها‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬قال‭ ‬سيلادزيتش‭: ‬الماذا‭ ‬التخوف‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬دولة‭ ‬موحدة‭ ‬الأغلبية‭ ‬فيها‭ ‬للمسلمين؟‭ ‬لقد‭ ‬أثبتنا‭ ‬ليس‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وإنما‭ ‬طوال‭ ‬تاريخنا،‭ ‬أننا‭ ‬الأكثر‭ ‬تسامحًا‭ ‬وتحضرًا‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭.‬

إن‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬البوسنة‭ ‬لم‭ ‬يفجّروا‭ ‬أو‭ ‬يعبثوا‭ ‬بأي‭ ‬كنيسة‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬يشكلون‭ ‬الأغلبية‭ ‬فيها،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬دمّر‭ ‬الصرب‭ ‬والكروات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬1240‭ ‬مسجدًا‭ ‬في‭ ‬مناطقهم‭ ‬ومناطق‭ ‬المسلمين‭. ‬وبالنسبة‭ ‬إلينا‭ ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬نرفض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬صربيًّا‭ ‬أو‭ ‬كرواتيًّا،‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬بكاملها،‭ ‬لا‭ ‬لطائفة‭ ‬أو‭ ‬منطقة‭ ‬معيّنةب‭.‬

‭ ‬

الحق‭ ‬الأخلاقي‭ ‬تجاه‭ ‬البوسنة

أستاذ‭ ‬القانون‭ ‬المقارن‭ ‬د‭. ‬فكرت‭ ‬كارتيتش‭ ‬يقول‭: ‬اإن‭ ‬الحق‭ ‬الأخلاقي‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬أوربا،‭ ‬التي‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬إيقاف‭ ‬المجازر‭ ‬ضد‭ ‬البوسنيين،‭ ‬قبول‭ ‬طلبهم‭ ‬بالانضمام‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬ومن‭ ‬الناحيتين‭ ‬القانونية‭ ‬والموضوعية‭ ‬أؤكد‭ ‬أن‭ ‬انضمام‭ ‬البوسنة‭ ‬أسهل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬التي‭ ‬يصل‭ ‬تعدادها‭ ‬إلى‭ ‬90‭ ‬مليونًا،‭ ‬غالبيتهم‭ ‬من‭ ‬المسلمين،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يرى‭ ‬الأوربيون‭ ‬أنه‭ ‬يسبب‭ ‬إرباكًا‭ ‬في‭ ‬التركيبة‭ ‬السكانية،‭ ‬أما‭ ‬البوسنة‭ ‬فهي‭ ‬دولة‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬مساحتها‭ ‬وسكانها،‭ ‬وبها‭ ‬تعددية‭ ‬دينية‭ ‬متوازنة،‭ ‬المعضلة‭ ‬التي‭ ‬سنواجهها‭ ‬في‭ ‬مفاوضات‭ ‬الانضمام‭ ‬هي‭ ‬إصرار‭ ‬الصرب‭ ‬على‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بوزارتي‭ ‬دفاع‭ ‬وداخلية‭ ‬خاصة‭ ‬بهم،‭ ‬ليس‭ ‬لهما‭ ‬صفة‭ ‬الدولة،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬غير‭ ‬مقبول،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬موحدة‭ ‬بها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬دفاع‭ ‬وداخليةب‭. ‬

 

أوربا‭ ‬دار‭ ‬صلح‭ ‬وعهد

المقابلة‭ ‬الثالثة‭ ‬تمت‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬المشيخة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بسراييفو‭ ‬مع‭ ‬رئيس‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬د‭. ‬مصطفي‭ ‬زيريتش‭ ‬حائز‭ ‬جائزة‭ ‬السلام‭ ‬لعام‭ ‬2004‭ ‬من‭ ‬منظمة‭ ‬اليونسكو،‭ ‬مناصفة‭ ‬مع‭ ‬الكاردينال‭ ‬الفرنسي‭ ‬روجيه‭ ‬إيتشيغاري،‭ ‬يقول‭ ‬د‭. ‬زيريتش‭: ‬اإن‭ ‬من‭ ‬يحكم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬والإسلام‭ ‬شرذمة‭ ‬حاقدة‭ ‬في‭ ‬الطرفين،‭ ‬لأن‭ ‬صوتهم‭ ‬هو‭ ‬العالي،‭ ‬أما‭ ‬معسكر‭ ‬الأصدقاء‭ ‬في‭ ‬الطرفين‭ ‬فحجتهم‭ ‬ضعيفة،‭ ‬والسؤال‭ ‬هو‭: ‬كيف‭ ‬نخرج‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬البوسنة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الورطة؟‭ ‬برأيي‭ ‬المتواضع،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تقوية‭ ‬حجج‭ ‬معسكر‭ ‬الأصدقاء‭ ‬بأن‭ ‬يدين‭ ‬الأصدقاء‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬تطاول‭ ‬على‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬والعراق،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬نعلن‭ ‬بوضوح‭ ‬دون‭ ‬لَبس‭ ‬للاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬أننا‭ ‬بوسنيون‭ ‬مسلمون‭ ‬وأوربيون‭ ‬نحترم‭ ‬الدستور‭ ‬الأوربي،‭ ‬نعتبر‭ ‬أوربا‭ ‬دار‭ ‬صلح‭ ‬وعهد‭ ‬لا‭ ‬دار‭ ‬حرب،‭ ‬وثانيًا‭ ‬نعلن‭ ‬أننا‭ ‬نؤيد‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ومبادئ‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وتسامُح‭ ‬الأديان،‭ ‬ونتوقع‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬أن‭ ‬يضمن‭ ‬لنا‭ ‬خمس‭ ‬ضروريات‭ ‬هي‭ (‬حق‭ ‬النفس‭ ‬وحق‭ ‬الدين‭ ‬وحق‭ ‬العقل‭ ‬وحق‭ ‬المال‭ ‬وحق‭ ‬العرض‭).‬

وأخيرًا‭ ‬نطالب‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬للمسلمين‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬بحريّة‭ ‬ممارستهم‭ ‬للإسلام،‭ ‬والسماح‭ ‬لهم‭ ‬ببناء‭ ‬المساجد‭ ‬فوق‭ ‬الأرض‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬باطنها،‭ ‬وإزاء‭ ‬هذه‭ ‬الحرية،‭ ‬يجب‭ ‬علينا‭ ‬كمسلمين‭ ‬تحمّل‭ ‬مسؤوليتها‭ ‬بنجاح،‭ ‬حتى‭ ‬نكسب‭ ‬المزيد‭ ‬منها‭. ‬ونحن‭ ‬ولله‭ ‬الحمد‭ ‬نعتبر‭ ‬أن‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬نموذج‭ ‬وحجّة‭ ‬للمسلمين‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬يكرهون‭ ‬الإسلام،‭ ‬فنحن‭ ‬نجحنا‭ ‬في‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬تجربتنا‭ ‬الغربية‭ ‬وقيمنا‭ ‬وهويتنا‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬نتنازل‭ ‬عنهاب‭.‬

لقد‭ ‬خلصت‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحوارات‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬البوسنة‭ ‬خطت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخطوات‭ ‬الإيجابية‭ ‬نحو‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬عضوية‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬مع‭ ‬حاجتها‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬دعم‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬مساعدتها‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب،‭ ‬حتى‭ ‬تحقق‭ ‬شروط‭ ‬العضوية‭ ‬الكاملة‭.‬

لكن‭ ‬مشكلة‭ ‬أوربا،‭ ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬إخفاء‭ ‬مشاعرها،‭ ‬كونها‭ ‬قارة‭ ‬مسيحية‭ ‬لا‭ ‬تشعر‭ ‬بالارتياح‭ ‬لانضمام‭ ‬دولة‭ ‬غالبية‭ ‬سكانها‭ ‬من‭ ‬المسلمين،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬صغيرة‭ ‬المساحة‭ ‬وتاريخها‭ ‬مشرّف‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬مثل‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬توجد‭ ‬عقدة‭ ‬أوربية‭ ‬أخرى‭ ‬متعلّقة‭ ‬بمنطقة‭ ‬البلقان‭ ‬وتاريخها‭ ‬المليء‭ ‬بالصراع،‭ ‬والتاريخ‭ ‬يشهد‭ ‬أن‭ ‬شرارة‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬انطلقت‭ ‬منها‭.‬

 

عوامل‭ ‬ترسم‭ ‬ملامح‭ ‬المستقبل

نعود‭ ‬مجددًا‭ ‬إلى‭ ‬خبر‭ ‬بدء‭ ‬المباحثات‭ ‬بين‭ ‬البوسنيين‭ ‬والاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬فهو‭ ‬وإن‭ ‬جاء‭ ‬متأخرًا‭ ‬يفترض‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خبرًا‭ ‬مبشّرًا‭ ‬بالخير،‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬معزولًا‭ ‬عن‭ ‬التطورات‭ ‬والمستجدات‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬قارة‭ ‬أوربا،‭ ‬وفي‭ ‬أبرز‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬قاطرة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭.‬

لقد‭ ‬واجهت‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة،‭ ‬ولاتزال،‭ ‬أزمة‭ ‬مهاجرين‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬أعطبت‭ - ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬متوقع‭ - ‬فاعلية‭ ‬أشهر‭ ‬بنود‭ ‬اتحادها،‭ ‬وهي‭ ‬الحدود‭ ‬الجغرافية‭ ‬الملغاة‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭. ‬لقد‭ ‬تباينت‭ ‬مواقف‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬بين‭ ‬مرحّب‭ ‬ورافض‭ ‬للمهاجرين،‭ ‬وتباينت‭ ‬معها‭ ‬سياسة‭ ‬استقبالهم‭ ‬كعابرين‭ ‬أو‭ ‬مهاجرين‭.‬

الأمر‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬زلزال‭ ‬خروج‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬عضوية‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬عقب‭ ‬الاستفتاء‭ ‬الذي‭ ‬صوّت‭ ‬فيه‭ ‬البريطانيون‭ ‬بـ‭ ‬انعمب‭ ‬للخروج،‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬تفاقمت‭ ‬آثاره‭ ‬بعد‭ ‬تعثّر‭ ‬عملية‭ ‬الخروج‭ ‬في‭ ‬مواعيدها‭ ‬المحددة،‭ ‬وبشروط‭ ‬مقبولة‭ ‬من‭ ‬الطرفين،‭ ‬مما‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬واسعًا‭ ‬للحديث‭ ‬بشأن‭ ‬مستقبل‭ ‬تماسك‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬أخذنا‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬الأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬بعض‭ ‬الأعضاء،‭ ‬مثل‭ ‬اليونان‭ ‬التي‭ ‬أفلست‭ ‬وتدخّلت‭ ‬أوربا‭ ‬لإنقاذها،‭ ‬ولكن،‭ ‬لأن‭ ‬مصائب‭ ‬قوم‭ ‬عند‭ ‬قوم‭ ‬فوائد،‭ ‬فقد‭ ‬ساهم‭ ‬التعثّر‭ ‬البريطاني‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬في‭ ‬فرملة‭ ‬موجة‭ ‬المطالبة‭ ‬بالخروج،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الإنجليز‭ ‬الذين‭ ‬يحسبونها‭ ‬بالقلم‭ ‬والورقة‭ ‬قد‭ ‬غرقوا‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬ما‭ ‬اختاروه،‭ ‬فكيف‭ ‬سيكون‭ ‬مصيرهم؟

وأخيرًا،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهل‭ ‬التحولات‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬في‭ ‬مزاج‭ ‬الناخب‭ ‬الأوربي‭ ‬الذي‭ ‬اختار‭ ‬التصويت‭ ‬للأحزاب‭ ‬الشعبوية،‭ ‬وتأييد‭ ‬الخطاب‭ ‬العنصري‭ ‬الموجّه‭ ‬ضد‭ ‬المهاجرين‭ ‬والمسلمين‭.‬

 

موازين‭ ‬تبدّلت‭ ‬وقوى‭ ‬عادت‭ ‬

يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نبتعد‭ ‬قليلاً‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬لنرى‭ ‬بصورة‭ ‬أشمل‭ ‬أن‭ ‬خريطة‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬القوى‭ ‬الإقليمية‭ ‬المحيطة‭ ‬بأوربا‭ ‬ومنطقة‭ ‬البلقان،‭ ‬قد‭ ‬تبدلت‭ ‬لمصلحة‭ ‬قوى‭ ‬عظمى‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬سبات‭ ‬قصيرة،‭ ‬ثم‭ ‬عادت‭ ‬مجددًا‭ ‬لتتموضع‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬حالة‭ ‬العجز‭ ‬التي‭ ‬عاشتها‭ ‬أوربا‭ ‬أمام‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬البوسنة،‭ ‬وكيف‭ ‬أن‭ ‬الحل‭ ‬أتى‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬اليوم‭ ‬لنتخيل‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬نزاعًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬نشب‭ ‬في‭ ‬البلقان،‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬سيحدث؟‭ ‬ومن‭ ‬سيتدخل‭ ‬انحيازًا‭ ‬لهذا‭ ‬الطرف‭ ‬أو‭ ‬ذاك؟

لقد‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2004م،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬زيارتي‭ ‬للبوسنة‭ ‬بعام‭ ‬وشهرين‭ ‬موضوعًا‭ ‬مثيرًا‭ ‬نشر‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬نيوزويك‭ ‬الأمريكية‭ ‬عنوانه‭ ‬انهاية‭ ‬أورباب،‭ ‬كتب‭ ‬بمناسبة‭ ‬دخول‭ ‬10‭ ‬أعضاء‭ ‬جدد‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬منهم‭ ‬دول‭ ‬شيوعية‭ ‬من‭ ‬شرق‭ ‬أوربا‭ ‬والبلطيق‭ ‬مع‭ ‬جزيرتي‭ ‬قبرص‭ ‬ومالطا،‭ ‬ذلك‭ ‬الموضوع‭ ‬حمل‭ ‬نظرة‭ ‬متشائمة‭ ‬لتلك‭ ‬الخطوة،‭ ‬لأن‭ ‬مسار‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬سيكون‭ ‬نحو‭ ‬الانقسام‭ ‬والانشقاق‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬نحو‭ ‬الاتحاد،‭ ‬مع‭ ‬الخشية‭ ‬من‭ ‬الهجرة‭ ‬المتوقعة‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬نحو‭ ‬الغرب‭ ‬التي‭ ‬ستنتزع‭ ‬الوظائف‭ ‬من‭ ‬السكان‭ ‬المحليين،‭ ‬وتغمر‭ ‬الخدمات‭ ‬العامة،‭ ‬وذلك‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬حواجز‭ ‬جغرافية‭ ‬تمنع‭ ‬انتقالهم‭. ‬

بنظرة‭ ‬أخرى‭ ‬لنفس‭ ‬الموضوع‭ ‬أعدتُ‭ ‬القراءة،‭ ‬هم‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬قبول‭ ‬10‭ ‬دول‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬معظمها‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬عن‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك،‭ ‬خصوصًا‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ضمن‭ ‬حلف‭ ‬وارسو،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬يوغوسلافيا‭ ‬التي‭ ‬تفككت‭ ‬لعدة‭ ‬دول‭ ‬منها‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك،‭ ‬فما‭ ‬هي‭ ‬الشروط‭ ‬التي‭ ‬نجحت‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬اجتيازها‭ ‬وأخفقت‭ ‬فيها‭ ‬البوسنة؟‭ ‬

في‭ ‬الختام،‭ ‬وعلى‭ ‬ضوء‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المتغيرات‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬يجب‭ ‬وضع‭ ‬جميع‭ ‬الاحتمالات‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬البحث،‭ ‬لأن‭ ‬طريقة‭ ‬انتقال‭ ‬تداعيات‭ ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬باتت‭ ‬تميل‭ ‬نحو‭ ‬التسارع‭ ‬والتماثل‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬القوة،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والأمنية‭.‬

وفي‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬السيناريو‭ ‬الأكثر‭ ‬فداحة‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬تفكك‭ ‬منظوماته‭ ‬المتعددة،‭ ‬ولكن‭ ‬تحوّل‭ ‬ذلك‭ ‬الاتحاد‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬تصدّر‭ ‬للعالم‭ ‬خطابًا‭ ‬يجافي‭ ‬القيم‭ ‬الأوربية‭ ‬التي‭ ‬ترسخت‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬دفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬واحترام‭ ‬التعددية‭ ‬والتسامح‭ ‬الديني‭.‬

فأي‭ ‬اتحاد‭ ‬أوربي‭ ‬تطمح‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬لعضويته،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬الاتحاد‭ ‬الذي‭ ‬سيساهم‭ ‬في‭ ‬نقلها‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الازدهار،‭ ‬أم‭ ‬الاتحاد‭ ‬الذي‭ ‬سيدفعها‭ ‬نحو‭ ‬الاندثار؟‭ .‬