خِزانَةُ جَامِعةِ القَرَوِيِين... أَقدَمُ مَكتَبَةٍ إِسْلامِية فِي العَالَم الإِسْلاَمِي

صِغَارِي‭ ‬الأَطْفَال‭, ‬أجْدَادُنَا‭ ‬العُلَمَاء‭ ‬تَرَكُوا‭ ‬لَنَا‭ ‬عِلماً‭ ‬مُدَوَّناً‭ ‬فِي‭ ‬كُتُب‭ ‬لاَ‭ ‬يُقَدَّر‭ ‬بِثَمَنٍ‭, ‬حَتىَّ‭ ‬نَطَّلعَ‭ ‬عَليهِ‭ ‬وَنَسْتفيدَ‭ ‬مِنهُ‭ ‬لنُحَافِظ‭ ‬عَلىَ‭ ‬عِلمِهِم‭ ‬وَنُطَوِّرهُ‭ ‬أكْثَرَ‭ ‬فَأكْثَر‭.‬

لِذَلكَ‭ ‬قَرَّرتُ‭ ‬هَذِه‭ ‬المَرَّة‭ ‬أنْ‭ ‬أطْلِعكُم‭ ‬عَلىَ‭ ‬مَكانٍ‭ ‬تَفوحُ‭ ‬مِنهُ‭ ‬رَائِحَةُ‭ ‬التَّارِيخِ‭ ‬وَالعِلْمِ‭, ‬حَتَّى‭ ‬إنْ‭ ‬كَبِرتُم‭ ‬وَأرْدْتُم‭ ‬أنْ‭ ‬تُصْبِحُوا‭ ‬عُلَمَاء‭ ‬فعليكم‭ ‬أن‭ ‬تزوروا‭ ‬هَذَا‭ ‬المَكانَ‭ ‬لتَسْتَفيدُوا‭ ‬مِن‭ ‬مَخْطُوطَات‭ ‬العُلَماءِ‭ ‬الكِبَار‭, ‬إنَّهَا‭ ‬خِزانَةُ‭ ‬جَامِعةِ‭ ‬القَرَوِيِينَ‭ (‬أَقْدمُ‭ ‬جَامِعةٍ‭ ‬فِي‭ ‬العَالَم‭), ‬أقْدمُ‭ ‬خِزَانَة‭ ‬كُتُب‭ ‬فِي‭ ‬العَالَمِ‭ ‬الإِسْلاَمِي‭, ‬بَلِ‭ ‬الأَكثَر‭ ‬مِن‭ ‬ذَلكَ‭ ‬أن‭ ‬هَذهِ‭ ‬المَكتَبَة‭ ‬تُعَدُّ‭ ‬أَوَلَّ‭ ‬مَكتَبةٍ‭ ‬فِي‭ ‬العَالم‭ ‬سَنَّ‭ ‬فِيهَا‭ ‬أبُوعِنَان‭ ‬الَمرينِي‭ ‬قَانُوناً‭ ‬لإِعَارَة‭ ‬الكُتُبِ‭, ‬فَهَيَّا‭ ‬بِنا‭ ‬لنَعْرفَ‭ ‬تَاريخَ‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الخِزَانَة‭ ‬المُصَنَّفة‭ ‬تُرَاثاً‭ ‬عَالَمِياً‭ ‬إِنْسانِياً‭, ‬وَنعْرفَ‭ ‬مَا‭ ‬تَحْتَوي‭ ‬عَليهِ‭ ‬مِنْ‭ ‬كُنوزٍ‭ ‬عِلْمِيَّة‭ ‬نَادِرَةٍ‭!‬

  ‬هُنَاك‭ ‬بَيْن‭ ‬أزِقَّة‭ ‬المَدينَةِ‭ ‬العَتِيقَةِ‭ ‬لِلْعَاصِمَةِ‭ ‬العِلْمِيَّة‭ ‬المَغْرِبِيَّة‭ ‬فَاس‭, ‬أُسِّست‭ ‬هَذِه‭ ‬الخِزَانَة‭ ‬عَام‭ ‬750‭ ‬لِلْهِجرَةِ‭ ‬عَلىَ‭ ‬يَدِ‭ ‬السُّلطَان‭ ‬أبِي‭ ‬عِنانٍ‭ ‬المَرِينِي‭, ‬وَتَحتَوي‭ ‬هَذهِ‭ ‬الخِزانَة‭ ‬عَلىَ‭ ‬أنْدَر‭ ‬المَخْطُوطَات‭ ‬الَّتِي‭ ‬لاَ‭ ‬يُمكِن‭ ‬إِيجَادُهَا‭ ‬فِي‭ ‬أيِّ‭ ‬مَكانٍ‭ ‬بِالعَالَم‭, ‬وَمِن‭ ‬أبْرَز‭ ‬النَّفَائِس‭ ‬العِلمِيَّة‭ ‬الَّتِي‭ ‬تُوجَد‭ ‬بها‭ ‬كِتابُ‭ ‬‮«‬العِبَر‮»‬‭ ‬لمُؤَسِّس‭ ‬عِلمِ‭ ‬الاِجْتِماع‭ ‬عَبدُالرَّحْمن‭ ‬بْنُ‭ ‬خَلدُون‭, ‬الَّذِي‭ ‬كَتَبهُ‭ ‬بِخَطِّ‭ ‬يَدهِ‭ ‬وَخَزَّنَه‭ ‬بِمَكتَبَة‭ ‬القَرَوِيِين‭, ‬والَّذِي‭ ‬صَنَّفَته‭ ‬مُنَظَّمة‭ ‬اليُونِسكُو‭ ‬تُراثاً‭ ‬عَالَميّاً‭ ‬إِنْسانِيّاً‭.  

والأَكْثَر‭ ‬مِن‭ ‬ذَلكَ‭ ‬فَإنَّ‭ ‬الخَزَانَة‭ ‬تَحمِلُ‭ ‬بَينَ‭ ‬رُفُوفِهَا‭ ‬أُرْجُوزَة‭ ‬طِبِّيَة‭ (‬قَصيدَة‭ ‬طِبِيَّة‭ ‬مَنظُومَة‭ ‬عَلَى‭ ‬بَحرِ‭ ‬الرَّجَز‭, ‬وهو‭ ‬مِن‭ ‬بُحُورِ‭ ‬الشِّعر‭) ‬لِلْفَيلَسوف‭ ‬وَالطَّبِيب‭ ‬الأَندلِسي‭ ‬ابْنُ‭ ‬طُفَيْل‭, ‬هَذَا‭ ‬المَخطُوط‭ ‬لاَ‭ ‬يُوجَد‭ ‬بِأَيِّ‭ ‬مَكتَبةٍ‭ ‬بِالعَالَم‭ ‬سِوَى‭ ‬بِخِزَانَة‭ ‬القَرَوِيِين‭, ‬كَمَا‭ ‬يُوجَدُ‭ ‬بِهذهِ‭ ‬الخِزانَة‭: ‬مُصْحَف‭ ‬كَريمٌ‭ ‬مَكتُوبٌ‭ ‬بِماءِ‭ ‬الذَّهَب‭ ‬وَبِخَطٍّ‭ ‬كُوفِي‭ ‬عَلىَ‭ ‬رَقِّ‭ ‬غَزالٍ‭  ‬يَعودُ‭ ‬إلى‭ ‬نهَايَةِ‭ ‬القَرنِ‭ ‬الثَّانِي‭ ‬لِلْهِجْرَةِ‭, ‬أمَّا‭ ‬أَقدمُ‭ ‬مَخْطوطٍ‭ ‬بِالخِزانَة‭ ‬فَهُوَ‭ ‬كِتَابُ‭ ‬الصِّيغ‭ ‬لأَبِي‭ ‬إسْحاق‭ ‬بْن‭ ‬إبْرَاهِيم‭ ‬الفِزَازِي‭ ‬المُؤَلَّف‭ ‬فِي‭ ‬القَرنِ‭ ‬الثَّانِي‭ ‬الهِجْرِي‭, ‬أَمَّا‭ ‬ابْنُ‭ ‬رُشد‭ ‬فَقَد‭ ‬تَركَ‭ ‬فِي‭ ‬الخِزانَة‭ ‬مُؤَلَّفَه‭ ‬البَيَان‭ ‬وَالتَّحْصِيل‭ ‬مَكتوباً‭ ‬عَلىَ‭ ‬رَقِّ‭ ‬الغَزَال‭ ‬بِخَطٍّ‭ ‬ذَهبِيٍّ‭, ‬والَّذِي‭ ‬تَمَّ‭ ‬تَحقيقُهُ‭ (‬التَّأَكُّد‭ ‬مِن‭ ‬صِدْقِ‭ ‬مُحْتَوَاه‭) ‬وَطبْعُه‭ ‬فِي‭ ‬مُجَلَّدات‭ ‬عِدَّة‭, ‬أَضِف‭ ‬إِلىَ‭ ‬ذَلكَ‭ ‬مَخْطُوطَاتٍ‭ ‬فِي‭ ‬الفَلك‭ ‬وَالطِّب‭ ‬وَالرِّيَاضِيَات‭ ‬بِشِقَّيْها‭ ‬الجَبْر‭ ‬وَالهَنْدسَة‭, ‬وَيَرجِعُ‭ ‬السِّرُّ‭ ‬فِي‭ ‬غِنىَ‭ ‬هَاتهِ‭ ‬المَكتَبة‭, ‬إلى‭ ‬التَّوافُد‭ ‬الكَبِير‭ ‬لِلْعُلَماء‭ ‬الكِبَار‭ ‬عَلى‭ ‬جَامِعة‭ ‬القَرَوِيِين‭ ‬ليَنْهَلُوا‭ ‬مِنْ‭ ‬عِلمِهَا‭, ‬مِثْل‭ ‬لِسَان‭ ‬الدِّين‭ ‬بْنُ‭ ‬الخَطِيب‭ ‬وَأبُوبَكر‭ ‬الرَّازِي‭ ‬وابْن‭ ‬سِينَا‭ ‬والحَسَن‭ ‬ابن‭ ‬الهَيْثَم‭... ‬فَترَكُوا‭ ‬فِيهَا‭ ‬بَعضَ‭ ‬أعْمَالِهم‭ ‬القَيِّمَة‭. ‬

هذه‭ ‬الخِزَانَة‭ ‬العَظِيمَة‭ ‬تَمَّ‭ ‬إِغْناؤُهَا‭ ‬عَلىَ‭ ‬يَدِ‭ ‬السَّعْدِيين‭ ‬بِمَجمُوعَةٍ‭ ‬كَبِيرَةٍ‭ ‬مِن‭ ‬الكُتُب‭, ‬حَيثُ‭ ‬وَصلَ‭ ‬عَددُ‭ ‬كُتُبها‭ ‬إِلىَ‭ ‬32‭ ‬أَلْف‭ ‬مُجَلَّد‭ ‬سَنَة‭ ‬1613م‭, ‬أمَّا‭ ‬فِي‭ ‬عَهدِ‭ ‬يَعْقُوب‭ ‬المَنْصُور‭ ‬الذهبي‭, ‬فَقد‭ ‬تَمَّ‭ ‬اسْتِبْدال‭ ‬بَابِها‭ ‬الخَشَبِي‭ ‬بِبَابٍ‭ ‬نُحَاسِي‭ ‬مَتِينٍ‭, ‬يُقْفلُ‭ ‬بِأرَبَعة‭ ‬أقْفَالٍ‭ ‬كُلُّ‭ ‬مِفتاحِ‭ ‬قُفْل‭ ‬مَع‭ ‬حَارِسٍ‭ ‬مِن‭ ‬حُرَّاس‭ ‬الخِزانَة‭, ‬حَتَّى‭ ‬يَضمَنَ‭ ‬أَلا‭ ‬يَضيعَ‭ ‬شَيءٌ‭ ‬مِمَّا‭ ‬تَخْتَزنُه‭ ‬الخِزَانَةُ‭ ‬مِنْ‭ ‬كُتُبٍ‭ ‬قَيِّمَة‭ ‬لاَ‭ ‬وُجُودَ‭ ‬لَهَا‭ ‬فِي‭ ‬جَمِيع‭ ‬أنْحَاء‭ ‬العَالَم‭.   

أمَّا‭ ‬فِي‭ ‬عَهدِ‭ ‬العَلوِيِين‭ ‬وَحَتَّى‭ ‬حُكْمِ‭ ‬المَلكِ‭ ‬مُحَمَّد‭ ‬السَّادِس‭, ‬فَقدْ‭ ‬عَرفَت‭ ‬المَكتَبَة‭ ‬تَرمِيماً‭ ‬عَمِيقاً‭, ‬حيْثُ‭ ‬تَمَّ‭ ‬تَرمِيمُ‭ ‬جُدرَانِها‭, ‬وَتَمَّت‭ ‬إضَافة‭ ‬قَاعَةٍ‭ ‬لِلمُطَالَعَة‭ ‬وَقَاعَة‭ ‬شَاسِعَة‭ ‬للنَّدَوات‭ ‬وَمَقهَى‭ ‬لِلاسْتِرَاحَة‭ ‬وَسَاحة‭ ‬خَاصَّة‭ ‬لتَنظِيم‭ ‬مَعارِض‭ ‬كُتُب‭, ‬هَذَا‭ ‬إِلَى‭ ‬جَانب‭ ‬فَهْرَسَة‭ ‬الكُتُبِ‭ ‬إِلكترُونِياً‭ ‬ليَسهُلَ‭ ‬إِحصَاؤُهَا‭ ‬وتتيسَّر‭ ‬إعَارتِهَا‭ ‬لِلبَاحِثِينَ‭ ‬والعُلَمَاء‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬يُريدُون‭ ‬الاِسْتفَادَة‭ ‬مِن‭ ‬تُراثِهَا‭ ‬الثَّقافِي‭ ‬العَظِيمِ‭.‬