إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

الشعب والجمهور

          في الزمن القديم كان البطل هو الذي يحقق ما يعجز عنه الآخرون، لهذا كان الناس يكلّلونه بالمجد، وكان مجال التفوّق هو القوة غالبًا، لذا كان المجد يتحقق في الحرب أو في الضرب.

          تحوّل مجال البطولة اليوم عند الشعوب المتقدمة من القوة إلى العقل الذي يستنبط ويخترع ويبدع. لذلك لا يحفظ أبناؤها من أسماء أبطال السياسة والحرب والدين سوى قلة قليلة، أما الكثرة فهم كبار الفلاسفة والأدباء ورجال العلم.

          أما نحن فمازلنا نتغنّى ببطولات الماضي، ولفرط ما تمسكنا بالماضي ضاع منا الحاضر، وصارت إنجازاته خارج حدود فهمنا وإدراكنا. كم واحدًا من شعبنا يتذوّق الإبداع الشعري الذي يحققه شعراء اليوم؟ كم واحدًا يتابع كتابات فلاسفتنا في هذا الزمن؟

          كلنا يعرف يوري جاجارين الذي قام بأول رحلة إلى الفضاء، ونيل أرمسترونج أول مَن سار على القمر. ولكن، مَن منا يعرف الفريق العلمي الذي أعدّ الدراسات وصنع المركبة الفضائية؟ نحن نعرف سائق السيارة ولا نعرف مخترع السيارة!

          نحن لا نبحث عن المعرفة، بل نفضّل أن تأتينا معلّبة على صفحات وسائل الإعلام. نحن لا نبحث ولا نسأل، بل نرى ونسمع، لهذا يسمّوننا الجمهور.

          الجمهور غير الشعب، فالشعب، حتى لو كان أميًا، يبدع. أليست الأساطير والرقص والأغاني والفولكلور بمجملها إبداعات شعبية؟ والشعب أيضًا يثور. أليست الثورات الكبرى كلها شعبية؟ والشعب يتميز بهويته، وروحه الواحدة، وقيمه المشتركة، وأحلامه الوطنية. وهو يصنع الأبطال الذين يجسّدون آماله، أما الجمهور فلا يبدع ولا يثور. إنه الجموع التي تنفعل ولا تفكر.

          لهذا أسماه نيتشه وهيدجر والفلاسفة الكبار «القطيع». وهذا الجمهور المنفعل كثيرًا ما تم استخدامه ضد رجال العلم والفكر حماية للسائد من المعتقدات والمستبدين من الحكام. وهو لا يتحدد بهويته بل بعدده. وهو لا يصنع الأبطال، بل يصنع المشاهير، لهذا تغيب عنه الشخصية الباحثة عن المجد، وتبرز الشخصية الباحثة عن الشهرة، والشهرة يصنعها المال أو الموقع كيفما تحققا.

          لسنوات طويلة بدا أن الجمهور ابتلع الشعب، لأن الحاكم الذي لم ينتخبه شعبه صار يتوجه إلى الجمهور، إلى الحشود التي تصفّق لكل قوي، خوفًا أو طمعًا، ثم صنع من هذا الجمهور شعبًا خاصًا به، شعبًا اصطناعيًا يصفق ويتظاهر ويقاتل ويتصدى للناس دفاعًا عن رئيس يفديه بالدم.

          واليوم يبدو أن شعوبنا تحرّرت أخيرًا وخرجت لتستعيد دورها ولتخرج أبطالها من العتم إلى النور، ولتشجع أبناءها على المشاركة في حركة زمنهم.
--------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

  

لطيف زيتوني*