بادوفا في إيطاليا ثورة علمية وفنية وجمالية
ها هي الطائرة تستعد للهبوط، فتمر المضيفة على مقاعد المسافرين وتمرر عينيها على حزام المقعد، وهي تردد: حزام الأمان، حزام الأمان. رمقتني بنظرة باسمة، طالبة مني فتح النافذة، إذ كان مقعدي بجانبها. كانت رحلة طويلة ومتعبة مع كثرة المطبات الجوية التي تعرضت لها الطائرة، لكنها أخيرًا بدأت بالهبوط التدريجي في مطار ماركو بولو الدولي بمدينة البندقية. كانت الساعة التي أمامنا في شاشة المقعد تشير إلى الثانية عشرة والنصف ظهرًا. بدت البندقية من الجو كلوحة فنية ساحرة حرص صاحبها على دقة تفاصيلها؛ الممرات المائية والأراضي الملونة بألوان البيوت والمباني القديمة. ارتطمت عجلات الطائرة بالمدرج وصوت أزيز المراوح يصم الآذان.
خفت الصوت تدريجيًا مع تقدم الطائرة باتجاه مبنى المطار، حتى اختفى تمامًا متيحًا لصوت الموسيقى الهادئة، التي تبثها الطائرة عادة عند ركوب ومغادرة المسافرين، أن تكون سيدة الفضاء السمعي وسط هدوء الركاب على غير العادة. ومن له أذن موسيقية سيدرك فورًا ذلك التلون البديع لمعزوفة شركة الطيران هذه من مقام النهاوند إلى مس مقام الكرد قليلًا. اختيار موفق، فمقام النهاوند يبث في النفس السكينة والطمأنينة، بل ويفضله بعض المؤذنين لرفع أذان الفجر، لمناسبته مع هدوء السحر، ومعروف أن القارئ الشيخ محمود خليل الحصري كان من عشاقه، ولأبي حامد الغزالي كلام في أثر الموسيقى أورده في كتابه الشهير اإحياء علوم الدينب، هذا نصه: الله سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح، حتى أنها لتؤثر فيها تأثيرًا عجيبًا؛ فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب... حتى قيل من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاجب، صدق رحمه الله. تباطأت سرعة الطائرة إلى أن توقفت تمامًا عند بوابة المطار، ليمتد خرطوم البوابة سريعًا فيلتصق بباب الطائرة.
المطار ليس كبيرًا لكنه منظم وأنيق. عند شبابيك جوازات السفر، انتظرنا - نحن غير الأوربيين ــ طويلاً، لشدة الزحام. أمام مخرج المطار، هناك سيارات الأجرة تصطف خلف بعضها البعض، ولأننا غير بعيدي عهدٍ ببادوفا، إذ كنّا هنا قبل شهرين لحضور مؤتمر علمي انتظم في جامعة بادوفا العريقة، نظمه عدد من المؤسسات العلمية والأكاديمية، ولأننا كنّا قد استقللنا سيارة أجرة في المرة السابقة، فضلنا هذه المرة تجربة حافلة النقل العام. وهي تجربة، إلى جانب فارق الكلفة المالية، حيث تبلغ تكلفة الرحلة في التاكسي من مطار ماركو بولو إلى قلب مدينة بادوفا نحو 100 يورو، على حين لا تتجاوز أجرة الحافلة 8 يورهات، ومع جودة الباص ونظافته، أقول هي تجربة تستحق الخوض. بدأت الحافلة بالسير إلى عدة محطات، من بينها محطة البندقية لتعبر جسر الحرية البديع فتمتع ناظريك بعبقرية الفن المعماري الإيطالي، وهكذا من محطة إلى أخرى حتى تصل، بعد ساعة من الزمن، إلى محطة بادوفا للحافلات، بينما تستغرق الرحلة عبر التاكسي قرابة الأربعين دقيقة. ليس فارقًا كبيرًا إذا ما قيس بمتعة استكشاف المدينة وبالطبع فارق الثمن.
بداية الحكاية
في الحادي عشر من يناير 2019، عقد مؤتمر دولي تحت عنوان االشعبوية، التطرف والإعلام الجديدب، يتحدث عن قضايا عدة تتصل كلها بالكلمات المفتاحية التي يبرزها عنوان المؤتمر، أما المتحدثون فمن مختلف التخصصات والخلفيات والثقافات، منهم المستشرقون ومنهم العرب المقيمون في إيطاليا والقادمون من غير قطر عربي، للحديث عن مشاغل الساحة الفكرية والسياسية الدولية. وأما محاور المؤتمر فمتنوعة وتتيح زوايا نظر مختلفة للموضوع، من الفلسفة إلى علم التواصل والإعلام إلى العلوم الاجتماعية. وكنا قد حضرنا المؤتمر كمشاركين مستمعين. وأما مكان انعقاد المؤتمر ففي إحدى القاعات التاريخية لجامعة بادوفا، وهنا بدأت الحكاية، فهي قاعة تاريخية بديعة تحافظ على عتاقتها مع تجهيزها بكامل التقنيات الحديثة لعقد الندوات وتنظيم المؤتمرات وخلافه من أنشطة أكاديمية. ونظرًا لجدول المؤتمر المزدحم منذ الصباح وحتى المساء، ولضيق الوقت ومحدودية أيام الزيارة بأيام المؤتمر، لم نتمكن من استكشاف هذا الصرح الأكاديمي. ومن حينها ظلت الفكرة تتردد لزيارة أخرى تكون مخصصة فقط لجامعة بادوفا ومرافقها التاريخية المتصلة بالمواقع التاريخية للمدينة. ولحسن الحظ، واتتنا الفرصة في هذه الزيارة السريعة.
في طريق الحافلة، تعود بِنَا الذاكرة إلى تلك الورقات العلمية المقدمة في المؤتمر، منها ما كان مهتمًا بالشرق والإسلام. ولا أدري لماذا حضرت في ذهني ورقة المستشرق الألماني شتيفان فايدنر، الذي درس العلوم الإسلامية وأقدم على ترجمة أعمالٍ أدبية عربية مرموقة إلى الألمانية، منها أعمال لمحمود درويش، وأدونيس، وبدر شاكر السياب، وغيرهم، وكان آخر ترجماته كتاب اترجمان الأشواقب لابن عربي. تناول فايدنر في ورقته علاقة التطرف والشعبوية بخطاب الكراهية ضد الإسلام، مشددًا على ضرورة التفرقة بين نمطين في التعامل مع هذا الخطاب؛ أولهما يتصل بالمستوى الثقافي النظري، والآخر شعبوي زاد في ذيوعه انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.
مدينة عتيقة
هذه المدينة العتيقة تعتبر من أقدم المدن الإيطالية، وشهدت على مدى تاريخها الطويل، الممتد لأكثر من 3000 سنة، أحداثًا ومجريات ومنعطفات تاريخية خلدتها الآثار الباقية إلى اليوم، ما جعل منها مقصدًا للسياح من أرجاء المعمورة كافة. تقع بادوفا في الشمال الإيطالي، 40 كيلومترًا إلى الغرب من مدينة البندقية، وتشرف على نهر بديع اسمه باكيليوني. اباتيفيومب هو الاسم اللاتيني القديم لبادوفا، وينطق الطليان اسم مدينتهم ابادواب، وهي كانت ثانية أغنى المدن في الإمبراطورية الرومانية بعد روما. ولذلك، تعرضت المدينة، بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، لهجمات وغزوات دمرتها عن بكرة أبيها، وتركت منها الآثار وقصورًا مشيدة. غير أن نقطة التحول الحاسمة التي جرت للمدينة جاءت في عام 1222، حينما أنشئت الجامعة التاريخية المرموقة، جامعة بادوفا، ومذاك صارت المدينة حاضرة الإقليم ومقصدًا وغاية للكثيرين، نظرًا لتنوعها الثقافي وتطورها العلمي، حيث اعتبرت مركزًا للثورة العلمية.
تقترب الحافلة من الوجهة المطلوبة لتقف أخيرًا في محطة بادوفا. ترجلنا سريعًا من الحافلة لاستلام الحقائب من صندوقها السفلي. نفتح على برنامج الخرائط في الهاتف المحمول لنعثر على الفندق القديم. آه... إنه يبعد أكثر من خمس عشرة دقيقة سيرًا على الأقدام. ولما كان التعب قد تملكنا، استأجرنا التاكسي ليأخذنا إلى وجهتنا في خمس دقائق. فراح السائق يمر في الطرقات الضيقة التي بالكاد تتسع لسيارة واحدة، وما مضت لحظات حتى كنّا عند كنيسة قديمة معمارها بديع. إنها كنيسة القديس أنطونيوس. أين الفندق؟ سألنا السائق. فقال: أنتم محظوظون، فالنزل الذي تنزلون به يقع في قلب المدينة التاريخي، لستم بحاجة إلى تاكسي بعد ذلك، إلا أن أردتم الخروج من المدينة. وأردف وهو يشير بيده: ها هو النزل المقصود، في الجانب الآخر من الشارع، قبالة الكنيسة. يعود جانب كبير من أهمية المدينة التاريخية، إلى جانب الأهمية في ميدان العلم وثورته، إلى وجود هذه الكنيسة التي توفي القديس المعروفة باسمه عام 1231. رحنا نحدق في الكنيسة التي ينتصب أمام بابها تمثال لفارس يمتطي صهوة حصان. لقد كانت الكنيسة مكرسة لمريم العذراء ومقرًا لأسقف بادوفا، وتعد مركز العبادة الرئيسي لكاثوليكي بادوفا.
ساحة براتو ديلا فالي
أتممنا إجراءات دخول الفندق، وما لبثنا أن وضعنا الحقيبة في الغرفة حتى خرجنا لاستكشاف المنطقة المحيطة، على الرغم من التعب. أخذنا بالتجوال في النواحي. هناك، في الشارع المنفتح على الكنيسة، طريق للترام. وبينما كنا نمضي في رواق مقوس إلى جانب الطريق إذا بالترام يمر بسرعة متوسطة، ومن دون ضجيج. عربة الترام تبدو كما لو أنّ بها عجلات، على خلاف الترام في مناطق أخرى. عندما سألنا عن السبب، قيل إنها تقنية لحفظ المباني القديمة من اهتزازات الترام حال لم يكن به عجلات، وإنه يدعى ترام ترانسلور، وهو نظام فرنسي في الأصل، حيث جرى تنفيذه في فرنسا وبادوفا ومدن قليلة أخرى. أفضى بِنَا الطريق إلى ساحة شاسعة بيضاوية الشكل. الساحة تدعى ساحة براتو ديلا فالي وتقع في مساحة 90000 متر مربع، وهي بذلك أكبر ساحات إيطاليا. وللساحة تماثيل كثيرة تنتشر على ضفتي القناة المائية الصناعية التي تطوق الساحة الخضراء، فيما تقسم الساحة مسارات أربعة، تلتقي جميعها في المنتصف حيث نافورة مائية فاتنة.
ولجمالها وبهائها، كانت بادوفا محل اختيار شكسبير لتكون مسرحًا رئيسًا لروايته الشهيرة اترويض النمرةب. كما أنها تعد موقعًا لليسار والحركات اليسارية في إيطاليا، وهي مسقط رأس الفيلسوف الإيطالي الشهير أنتونيو نيجري، صاحب كتاب االإمبراطوريةب، وأحد أشهر فلاسفة اليسار في العالم، وذلك على الرغم من كونها حصنًا للكنيسة الكاثوليكية، إذ بها تنتشر الصحف ودور النشر المقربة من الكنيسة، والقريبة من موقع كنيسة القديس أنطونيوس.
أزقة من التاريخ
في اليوم التالي، سرنا في الأزقة الضيقة لمدينة بادوفا، التي يصح أن يطلق عليها مدينة الأزقة الفاتنة، حيث تجد على جانب الزقاق، وفِي بعض الأحيان على جانبيه، أروقة المباني القديمة. ولا تكاد تخرج من زقاق حتى تدخل في آخر عبر ساحات وزوايا وميادين فسيحة. والميادين في بادوفا حكاية في حد ذاتها، إنها مكان اللقاء والتجمع لقاطني بادوفا، يتناولون فيها الكعك ويحتسون القهوة التي يعشقها أهل بادوفا، وكل ذلك في فضاء هو قطعة من التاريخ. وكلما توغلنا في طريقنا إلى مركز المدينة، حيث جامعة بادوفا، استوقفنا الجمال الأخاذ واستفز عطش الكاميرا للصور الجميلة. ها قد وصلنا إلى محيط مبنى الجامعة بعد أن مررنا ببوابة قديمة تعود إلى القرن الثالث عشر، وتنفتح على ساحة تدعى ساحة غاري باليدي. انعطفنا يسارًا، فتركنا الساحة إلى يميننا ومضينا، فإذا بساحة أخرى صغيرة تصادفنا.
واصلنا المسير حتى كنا في ساحة ينتصب فيها مبنى البلدية؛ بناء جميل فاتن. قبالة المبنى، ثمة بناء قديم لكنه أنيق يليق بأناقة المعمار الإيطالي، وهو عبارة عن مجمع من المباني ويتخلله فناءان؛ قديم وحديث، إنه المقر التاريخي لجامعة بادوفا. دخلنا من الباب الرئيسي للجامعة بعد أن أخذت الكاميرا نصيبها من الصور في الخارج، البناء كلاسيكي مربع الشكل ويتوسطه فناء مفتوح إلى السماء، تحيطه الأروقة المقوسة من كل جانب. وعلى الجدران الداخلية، لوحات تاريخية ودروع ونقوش ذات دلالات؛ منها نقش رأس ثور، الذي يعد من نماذج فن النحت الكلاسيكي، كما يظن أن المكان الذي أقيمت عليه الجامعة كان في الأصل اسطبلًا للثيران، وهكذا كان اسم القصر االبلازا بوب أي قصر الثيران. وإذا رفعت رأسك إلى أعلى البناء فسترى برجًا يعلو إحدى واجهات الفناء الداخلي يعود إلى زمن العصور الوسطى وبداخله ناقوس عتيق. صمم هذا الفناء البهي، كما على صورته الراهنة، المعماري أندريا مورني، الذي صمم الكثير من المباني التاريخية في مدينة بادوفا. ذهبنا إلى حجرة الاستعلام السياحي طلبًا للمعلومة واختراق التاريخ القابع بين جنبات الجامعة.
أخبرتنا موظفة متقدمة في السن، وفي عينيها سكينة وطمأنينة، أن الدخول إلى مرافق الجامعة غير مسموح به من دون المرشد السياحي حفاظًا على المكان، وأن المرشد السياحي يقوم بجولة في الجامعة كل ساعة تقريبًا، وأنه، ولسوء الحظ، للتو ابتدأت الجولة، بيد أنها ابتسمت قائلة: يمكنك أن تتأمل النقوش على وجه المعمار العتيق للجامعة، أو أن تذهب إلى مقهى بيدروكي التاريخي وتحتسي القهوة وتتناول الشطائر أو الكعك اللذيذ إن شئت، حتى يجيء موعد الجولة القادمة. فسألتها عن قصة هذا المقهى التاريخي وأين يقع بالضبط حتى لا يمر الوقت في البحث، فأجابت مبتسمة: للمكان قصة بالفعل، لكن أتركك تكتشفها بنفسك، وأما موقعه فلا عليك سوى أن تخرج من الباب الرئيسي الذي دخلت منه وتعرج يمينًا خطوات قليلة فتجده منتصبًا إلى اليسار. أومأنا بالشكر فأومأت. الحقيقة أن المقهى ليس قريبًا بل هو في قلب الساحة التي توجد فيها الجامعة، بيد أننا مع ذلك ضللناه شيئًا قليلًا، فالناظر إليه، من دون سابق معرفة، يخاله قصرًا تاريخيًا وليس مقهى.
مقهى بيدروكي
المقهى واسع جدًا، وذو مدخل فسيح، على جانبيه شرفتان تتكآن على أعمدة رخامية بطراز معماري يعود إلى الكلاسيكية الجديدة، تذكر كذلك بالصيغ المعمارية اليونانية. يلفت الانتباه جمال النقوش التي تزين الواجهات وتماثيل الأسود البرونزية الأربعة الرابضة على جانبي المدخل. ويرى بعض الباحثين في المعمار أن أبنية مقهى بيدروكي تمثل، رمزيًا، محاولة لبث قيم جديدة في العمارة، متمحورة حول معايير علمانية، في تنافس واضح حينها مع معمار الكنيسة الكاثوليكية.
يتكون المقهى من طابقين، الطابق الأرضي، وينقسم إلى ثلاث حجرات؛ حمراء وخضراء وبيضاء، والطابق العلوي. أطلنا النظر في المكان بعدما ولجنا الحجرة الحمراء، حيث وجدناه فضاء هادئًا رائقًا. وفي إحدى الزوايا يتربع بيانو جميل ليكمل جمال المكان بفتنة السماع والأذان، مع رونق رائحة القهوة النافذة، إذًا هو جمال على جمال على جمال؛ وهل ثمة غرابة؟ أنت في بادوفا، مدينة من فرط جمالها، تبدو كما لو أنها صنعت من الجمال ذاته. الحجرة الحمراء هي الحجرة الأكبر، وبها ركن البيع الرخامي ذو التصميم البديع، أما الحجرة الخضراء المطلة على ميدان بيدروكي، فتجد فيها مدفأة أنيقة، تعلوها مرآة ضخمة، ويقال إنها كانت موضعًا يقرأ فيه زوار المقهى الصحف السيارة، حتى لو لم يطلب الزائر شيئًا مدفوعًا، فهو بمنزلة فضاء هادئ ومجاني، ما جعله قبلة الفقراء من طلاب الجامعة. ولاتزال الحجرة موضعًا رائقًا للقراءة والكتابة والتأمل. وأما الحجرة البيضاء، فتشرف على ميدان ابلازا بوب. وعلى أحد جدرانها ثقب باقٍ لطلقة رصاص كانت موجهة من قبل الجنود النمساويين نحو طلاب يتظاهرون ضد هيمنة هابسبورج. كان ذلك في عام 1848 بعد ثورة طلابية تم إخمادها، وأخطأت الرصاصة أجساد المتظاهرين وسكنت في هذا الجدار، لتكون علامة ودليلًا لحقبة من تاريخ بادوفا.
أقبل علينا النادل مبتسمًا...
- المطعم أم المقهى؟
- قبل هذا وذاك نريد أن نعرف شيئًا عن قصة هذا المكان... أليس هو مقهى تاريخي؟
- بالتأكيد، أجاب. وأردف: إذًا اتبعوني. سرنا وراءه فأخرجنا من المقهى ليدخلنا في باب هو إلى اليمين من المدخل الشمالي المشرف على ساحة بيدروكي.
- إلى أين؟
- أذهب بكم إلى المتحف الذي يقص الحكاية، إنه في الطابق العلوي من المقهى.
- وهل يمكن تقديم القهوة هناك؟
- بالطبع لا.
- لكن هل المتحف كبير، فليس لدينا الوقت الكافي، إذ تنتظرنا جولة في جامعة بادوفا بعد ساعة من الآن؟
- فقال: الزيارة في العادة تستغرق نحو أربعين دقيقة، فلديكم الوقت. لكن ربما لا يسعكم تناول القهوة قبل تجوالكم في الجامعة.
جولة في المتحف
صعدنا درجات السلم الكبير، المعروف بسلم الشرف، المؤدي إلى المتحف، فإذا بمكتبين في مدخل المتحف، يجلس عليهما رجل وامرأة. المرأة تبيع التذاكر وتوزع معها كتيبًا صغيرًا يحتوي على أهم المعلومات التاريخية للمتحف. أما الرجل فمشغول عنا بجهاز الكمبيوتر المحمول الذي أمامه. بدأنا بتفقد المتحف، وهو عبارة عن تسع حجرات مفتوح بعضها على بعض، وفِي كل حجرة تشاهد نمطًا مختلفًا في التصميم والديكور من الأسلوب المصري القديم، المليء بالموتيفات والزخرفات المصرية تحت تأثير الرحالة الإيطالي جيوفاني باتيستا بلزوني، الشهير بسرقته للآثار المصرية، مرورًا بالطراز الإغريقي والروماني وصولًا إلى حجرة ذات طابع يعود إلى تقاليد عصر النهضة.
كانت القاعات مكانًا لعقد اللقاءات والحفلات لأبناء الطبقة الأرستقراطية والشخصيات المرموقة، ولا تزال تلك القاعات تستخدم في عديد من الأنشطة والأغراض من الحفلات الخاصة بكبار الشخصيات، إلى مناسبات الأثرياء القادرين على اكتراء القاعات، لإقامة حفلات الزواج وعقد المؤتمرات، أو حتى عشاءات العمل. ومن الحجرات اللافتة، القاعة الكبرى البيضاء، ذات النقوش والستائر الذهبية، المعروفة بقاعة روسيني، وهي أكبر القاعات حجمًا وأكثرها فتنة وبهاءً. وبعد الحجرات ينفتح الطابق الأول من المبنى على المتحف، الذي يضم بين جنباته مقتنيات فريدة ومتنوعة من القطع الأثرية والأسلحة والبزات العسكرية والأزياء الرسمية واللوحات الفنية والمنحوتات رفيعة القيمة والقطع النقدية والميداليات التذكارية والحلي، وغيرها من الوثائق، مما يؤرخ ويوثق للحياة بمجملها في بادوفا.
يتناول المتحف التاريخ الحديث للمدينة، منذ سقوط جمهورية البندقية وخضوعها لسيطرة إمبراطورية هابسبورج في 1797 وحتى 1948 عام صدور الدستور الإيطالي، ويقدم المتحف صورة بانورامية للمدينة تنتقل من الجوانب السياسية إلى الجوانب العسكرية والاقتصادية، ويغطي حقبة تمتد إلى 150 عامًا. فالمتحف لا يعرض قصة المقهى إلا كجزء من تاريخ المدينة، ويركز على حقبة القرن التاسع عشر. ولعل أهم المقتنيات، تلك الوثائق والصور التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية، حيث تكشف عن حجم الأضرار التي خلفها قصف القوات الأمريكية والبريطانية لدحر القوات الفاشية.
أكثر من مقهى
لقد كان مقهى بيدروكي مقصدًا لمشاهير السياسة والفن والأدب منذ نشأته في عام 1831، ويعد أكبر مقهى في إيطاليا، وكان في السابق المقهى الأكبر في أوربا كلها، ما جعله مثار اهتمام الكثيرين حينها، وتناوله البحاثة في غير حقل ومجال معرفي، فدرسه المهتمون بتاريخ المعمار، لعتاقته وثراء الطرز والأساليب المعمارية الموظفة في أبنيته، كما عمد إليه الباحثون في التاريخ الحضري والتاريخ الثقافي. في أوربا بالقرن الثامن عشر، تزايد استهلاك البرجوازيين للقهوة، فما كان من فرانسيسكو بيدروكي، البولوني صانع القهوة، إلا أن افتتح مقهاه الصغير عام 1772 في موقع مميز يقع بالقرب من جامعة بادوفا ومبنى البلدية، فضلاً عن السوق الغارق بالمحال والمتاجر، غير أن الذي قام بتشييد المقهى على صورته الحالية، التي يؤرخ لها عادة في نشأة المقهى، هو أنطونيو نجل فرانسيسكو، إذ إنه عمد إلى توسعة المقهى الصغير، وعهد به إلى المعماري المبدع جوسيب جابيلي 1783-1852 ليعيد تصميمه ويخرجه في حلة بهية. وهكذا صار المقهى مركزًا للاجتماع وموقعًا لتبادل الأحاديث حول مجريات الحياة اليومية والسياسية في المدينة العريقة، وهو الآن معلم من معالم المدينة، وزيارته منقوصة من مر ببادوفا ولم يقض فيه وقتًا ولو للحظات، لاسيما أن كثيرًا من العلماء الطليان من أتباع المذهب الوضعي، الذي كان له كبير أثر على الحياة العلمية في حقول معرفية عديدة، كانوا أساتذة في جامعة بادوفا وروادًا لمقهى بيدروكي.
جامعة بادوفا
فلما كانت الساعة قد انقضت، توجهنا مسرعين إلى الجامعة، يحدونا الشوق لمشاهدة تلك الحجرة التي لطالما ذكرت في تاريخ الطب؛ مسرح التشريح. وما إن دخلنا إلى الفناء العتيق وجدناه غاصّا بأفواج الطلاب الخارجين والداخلين إلى قاعات المحاضرات. اقتربنا إلى السيدة ذات العينين الساكنتين، فأشارت بيدها إلى التجمع في زاوية المبنى، عند السلم المؤدي إلى القاعات العلوية. انتظرنا مع المنتظرين. ولم تمض دقائق معدودات فإذا بسيدة أربعينية، أو هذا ما بدا لنا، ذات ملامح جادة، زادت من جديتها النظارات التي تضعها في منحدر أنفها الدقيق، تتجه نحونا. اأهلًا وسهلًا بكم في جامعة بادوفاب، قالت وتابعت: اننتظر دقيقة أخرى، لعل هناك قادمًا متأخرًا، ثم نبدأ جولتنا في أرجاء تاريخ يمتد إلى ثمانية قرون أو يكادب. أومأنا مع بقية السياح بالقبول.
ارتقينا درجات السلم المقوس، تتقدمنا مرشدة الجامعة، وكان في اليمين منه تمثال لأول امرأة تحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بادوفا، وكان ذلك في عام 1678، وهي إيلينا كورنارو بيسكوبيا. توقفتْ في رواق الطابق العلوي فتوقفنا، فمررتْ ناظريها على الجهات الأربع للمبنى، ثم أطرقت، ثم تقدمت قليلًا لتنظر إلى الفناء الداخلي من علوّ. تبدو كما لو أنها تستجمع ما ستقوله. شعرنا بالاستغراب إذ هي تقوم بهذه المهمة مرات عدة في اليوم مع مختلف الزائرين والسياح، فلابد أنها تسرد المعلومات بشكل روتيني. ومع ذلك، مظهرها يشي بشغف بالمكان، لا يطفئه تكرار الكلام ذاته مرارًا. أقبلت نحونا قائلة: اإننا الآن في إحدى أقدم وأهم جامعات العالم بعد جامعة بولونيا وأكسفورد وكمبردج والسوربونب، وأردفت وهي تستدير ناحية الفناء من الممر العلوي مرة أخرى: اقرابة الثمانية قرون هو عمر هذه الجامعة، التي مرت خلال تاريخها الممتد بتحولات تاريخية كثيرة، سواء من جهة المجالات والاختصاصات والحقول المعرفية التي كانت محط اهتمام الجامعة أكاديميًا، أو من جهة تطور طبيعة التعليم، بل والتصورات العامة التي تحكم العملية المعرفية ذاتها. ومن نافل القول، تعاقب شخصيات علمية مرموقة وتوليها التدريس في الجامعة في غير مجال معرفيب.
منبر جاليليو
انطلقت جولتنا في الجامعة، وبدأناها بقاعة صغيرة تسكن جدرانها بورتريهات لأبرز طلاب جامعة بادوفا بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر، رسمها الفنان جيانجيا كومو دال فورنو في عام 1942. عدد اللوحات أربعون، وهكذا كان اسمها اقاعة الأربعينب، THE SALA DEI QUARANTA وتتضمن قائمة الأربعين أسماء شهيرة وذات تأثير كبير في تاريخ العلم. هنا سترى مثلًا لوحة العالم والطبيب الإنجليزي توماس لينيكر (1460-1524)، أستاذ الطب بجامعة أكسفورد ومؤسس الكلية الملكية للأطباء في إنجلترا. كما سترى بورتريه الطبيب والعالم الإنجليزي وليام هيرفي، مكتشف الدورة الدموية الكبرى، في حين يرجع اكتشاف الدورة الدموية الصغرى للعالم العربي الشهير ابن النفيس، كما هو معروف. ويعتبر هارفي منشئ علم وظائف الأعضاء ومؤسس المدرسة الإنجليزية في الطب. وكذلك، بورتريه للطبيب الدنماركي توماس بارتولين الذي كان له دور ريادي في وضع بوادر علم التخدير. والفيلسوف واللاهوتي الألماني نيكولاس الكوزاني، أحد أهم فلاسفة القرن الخامس عشر، وغيرها من بقية الأربعين شخصية.
نلاحظ أن كثيرًا من الشخصيات العلمية قادمة من حقل الطب، وذلك جزء من شهرة الجامعة والمدينة بالعموم، إذ إن أكثر ما يكسب الجامعة شهرتها العلمية كان مجال الطب والتشريح. هذه القاعة تؤدي إلى قاعة كبيرة، وإلى اليمين من الباب الموصل بالقاعة الكبيرة يصادفك منبر ذو درجات معدودة؛ إنه منبر جاليليو. كان العالم الكبير يعتليه لإلقاء دروسه في القاعة الكبرى لثماني عشرة سنة بين عامي 1592 و1610. معلومات مثيرة كانت مرشدة المتحف تلقيها على مسامعنا، ويكتسي وجهها سمت الفخار. فتح الباب فإذا بنا نلج قاعة ضخمة فخمة، ساحرة باهرة. تلك هي القاعة الكبيرة التي كانت مخصصة لفقهاء القانون حصرًا، إلا أن ثمة استثناء وحيداً هو جاليليو، الذي سمح له باستخدامها للتدريس، نظرًا لكثرة طلابه الذين لم تكن تسعهم أي من القاعات الأخرى. في هذا المكان، وضع جاليليو تطويره للمنهج العلمي الحديث، ومما ينسب إليه قوله: اإقامتي هنا هي من أسعد فترات حياتيب، وحق له. تستخدم القاعة اليوم في الاحتفالات الكبرى، كافتتاح السنة الأكاديمية، وتقديم الشهادات الفخرية التي تقدمها الجامعة للشخصيات المؤثرة.
مسرح التشريح
قالت لنا المرشدة وهي تهم بالخروج من القاعة: اأما الآن فسندخل حجرة التشريح، لن تصدقوا عتاقة وفرادة ما ستشاهدونب. ها نحن ندخل حجرة التشريح، أو كما يسمونها مسرح التشريح، المبنية في القرن السادس عشر، حينما كان عالم التشريح هورنيموس فبريسوس وأندرياس فيزاليوس يلقون دروسهما في الجامعة. القاعة عبارة عن ستة أطواق من الشرفات الخشبية، بيضاوية الشكل، تبدأ ضيقة قرب السرير (طاولة التشريح)، التي توضع عليه جثة التشريح، ثم تتسع كلما ابتعدت وارتفعت عنها. ويقف المتعلمون في هذه الشرفات للتعلم ودراسة آليات التشريح. كانت الحجرة مظلمة، إلا من إضاءة بسيطة. اقتربنا من مسرح التشريح ورحنا نتأمل المكان بعد أن أعطتنا المرشدة قسطًا من الوقت من دون إشارات أو معلومات، ففي هيبة العلم والتاريخ يجمل الصمت للحظات، والكلمات الكثيرة تصبح ثرثرة مفسدة لجمال اللحظة.
عادت المرشدة تقول: اإن هذا المسرح قد بني في عام 1594، وكان بمنزلة مركز إشعاع لعلم التشريح البشري الحديث. وإذا كان للعلوم لحظات تاريخية فارقة تفصل ما قبلها عما ببعدها، فإن نشأة هذا العلم قد غيرت من صورة الطب بشكل جذري. لقد كان ذلك جزءًا من التغيرات الهائلة في مفاصل المعرفة العلمية على مستوى العالم، وهو نتيجة طبيعية للتحولات في منهجية البحث العلمي إجمالًا، إبان القرن السادس عشرب.
ثم انصرفنا من المسرح إلى قاعة أخرى بجوارها، إنها قاعة الطب، وهي تستخدم اليوم لمناقشة الأطاريح الجامعية لطلاب الماجستير والدكتوراه في الطب، وفِي غيره من التخصصات العلمية. ويوجد في القاعة جمجمات حقيقية تعود لسبعة أساتذة تبرعوا بأجسادهم في سبيل البحث، وقد شهدت القاعة الدروس الأولى في النظرية التشريحية.
وبعدما انتهينا من تجوالنا في حجرات الطابق العلوي من الفناء القديم، انتقلنا إلى الفناء الحديث، بعد أن هبطنا السلم. لقد شهد مبنى بلازا بو تغيرًا كبيرًا خلال القرن العشرين، ففي العقد الثاني من هذا القرن بني جناح آخر مخصص لكلية القانون. بيد أن التغيرات التي أعطت المبنى شكله الحالي جرت خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، بفضل مدير الجامعة آنذاك كارلو آنتي، إذ وجه تعليماته بإيلاء الناحية الجمالية للمبنى ما تستحقه من اهتمام قدر الاهتمام بالأبعاد الوظيفية، بل والحفاظ على نمط معماري منسجم مع كامل مجمع مباني القصر. والفناء الحديث مربع الشكل ومنفتح على نواحٍ كثيرة من القصر، وللفناء رواق حداثي تزين جدرانه منحوتات كبيرة الحجم.
ومن جميل ما شاهدنا هنا، بيت الدرج؛ لوحة فنية جذابة صممها ونفذها الفنان جيوبنتي. توصل درجات السلم الفني إلى مكاتب إدارية مخصصة لمدير الجامعة. إلى جوار السلم، يوجد منحوتة للفنان أورتور مارتيني، صنعها عام 1947، وهي لشخص متكئ على يمينه، بينما يده اليسرى تستريح على ركبته، أما وجهه فيتطلع إلى السماء. إن هذا الشخص هو الزعيم بريمو فانيتي، الذي قضى خلال فترة النضال ضد الفاشية. وهناك على جدار من جدران الفناء الحديث عمل فني آخر يرمز إلى حقبة المقاومة والتحرير من النظام الفاشي، عبارة عن جدار خشبي أسفله محطم وأعلاه مستوٍ سليم.
قصور وميادين
وبعد الانتهاء من جولتنا في الجامعة، مشينا قليلًا، فصرنا إلى موضع فيه بناء ضخم مستطيل الشكل ومنحرف بعض الشيء، يبدو وكأنه هيكل سفينة مقلوب، ويتمتع بواجهة جميلة، تزينها الأروقة المقوسة المتتابعة في طابقي المبنى. وعلى جانبي المبنى ميدانان، الأول هو ميدان فروتا، وتعني في الإيطالية الفاكهة، والآخر هو ميدان إيربي وتعني الأعشاب. إنه قصر قديم يقال له قصر ديلا راجيوني، بني في القرن الثالث عشر، ليكون مقرًا لمحكمة المدينة، وكان يسمى اقصر العدلب، وبقي مستخدمًا حتى سقوط جمهورية البندقية في أواخر القرن الثامن عشر، ويعد أحد روائع المعماري جيوفاني إيريماتني. في ساحتي القصر أكشاك الخضراوات والفاكهة، فضلاً عن كثير من المقاهي والحانات. وبداخل المبنى، في طابقه الأرضي، محال تبيع منتجات غذائية لذيذة متنوعة، من الزيوت والأعشاب وما شابه. أما في الطابقِ العلوي فنجد قاعة المحكمة، وهي قاعة فسيحة طولها 81 مترًا وعرضها 27 مترًا، في حين يبلغ ارتفاعها 27 مترًا أيضًا. يمكنك قضاء بعض الوقت هنا لتمتع ناظريك بالجداريات الجميلة ولوحاتها المتقنة. تجولنا بين المحال ثم مضينا إلى الأمام شيئًا قليلًا، فوجدنا أنفسنا في ميدان بياتسا دي سينوري. لم نقض فيه مزيد وقت، حيث اتجهنا إلى مقهى بيدروكي لنأخذ قسطًا من الراحة في الحجرة الحمراء، حيث اخترنا مشروب القهوة الخاص بالمقهى، وهو عبارة عن جرعة من القهوة الداكنة مغطاة بكريمة ممزوجة بنكهة النعناع، ومنثور فوقها زخات من بودرة الكاكاو. مشروب رائق أعاد لنا التوازن بعد جولة ماتعة في أنحاء الجامعة، وزاد من لذته امتزاج ارتشافه مع تناول قطعة كعك الليمون، المزين بشرائح من الفراولة. في هذه الأثناء، أخذنا نقرأ في كتاب حول تاريخ هذه المؤسسة الأكاديمية، كنا قد اقتنيناه من محل بيع الكتب الملحق بالجامعة.
في بادوفا ضجة
وبينما نحن على هذه الحال، إذ ترامت إلى آذاننا ضجة وجلبة أناس وصيحات ترتفع من مكبرات الصوت، فمضينا نحو مصدر الصوت، أحمل حقيبة الكاميرا متأبطًا كتاب تاريخ جامعة بادوفا، فإذا هي مسيرة نسوية تنادي بسقوط النظام الرأسمالي المتوحش. لكنها، يا للغرابة، منظمة من قبل تيار نسوي خاص بالسيدات المتحولات جنسيًا. والحق أنّ الرجال كان لهم نصيب كبير في المشاركة والتنظيم، أما الشرطة فقد أفسحت المجال للمسيرة للسير في خط مرسوم، بحيث تنطلق من ساحة غاري باليدي، ثم تستمر حتى نهاية الشارع عند محطة القطارات، وتتخلل الطريق قنطرة القناة المائية التي تشق نواحي بادوفا. سرنا مع السائرين إلى منتصف الشارع، لكننا انعطفنا عن خط السير واتجهنا يسارًا لنصب تذكاري تراءى لنا من بعيد، يقع بمحاذاة القنطرة القديمة. شد انتباهنا شكله الحداثي وسط عتاقة المباني، فاقتربنا منه لنستكشف سره ومغزاه وما يرمز إليه. أما النصب فلم يكن يخطر لنا على بال أنه صمم إحياء لذكرى ضحايا الحادث الإرهابي، الذي ضرب برجي مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر 2001. وهو النصب التذكاري الوحيد في قارة أوربا، يقام لهذه المناسبة ويحمل اسم الذاكرة والنور، وقد جرى افتتاحه الرسمي في الحادي عشر من سبتمبر 2005. ولئن تأمله الناظر قليلًا لأدرك وجه الشبه بين الواجهة الزجاجية للنصب والبرج العالمي الحقيقي. بيد أن من يقترب إليه سيرى أنه يتخذ شكل كتاب مفتوح، غلافه الواجهة الزجاجية، بينما يسكن متنه الداخلي دعامة فولاذية طولها ستة أمتار، جلبت من آثار الدمار الذي خلفه انفجار البرج. يرمز النصب، بهيئة الكتاب المفتوح وفضاءات الضوء المنتشرة بدقة، كما يدل على ذلك اسمه، إلى نور التسامح والحرية والعلم ضد ظلام الجهل والتطرف. والحق، أننا شعرنا بشذوذ البناء عما حوله من فضاء معماري وطبيعي مغرق في العتاقة، يجعلك تخال نفسك في زمان ماض، مع اتفاقنا بالتأكيد مع نبل غاياته.
متحف إيمارتاني
عدنا أدراجنا إلى الطريق نفسه الذي أتينا منه، لكن من جانبه الآخر باتجاه مركز المدينة. فكان إلى اليسار حديقة غناء سرنا بمحاذاتها. هنا تقع كنيسة سكروفيني ذات الجدارية الزرقاء البديعة. أردنا إنهاء هذا اليوم بدخول هذه الكنيسة، إلا أنها كانت مسورة، ومدخلها الوحيد يقع مع مدخل متحف إيمارتاني، اللصيق بدوره بدير إيمارتاني، الواقع بالقرب من الساحة الرومانية القديمة. فقررنا دخول المتحف والكنيسة، غير أن التذكرة كانت تتيح الدخول إلى قسم الآثار وقسم الفن الوسيط وقسم الفن الحديث، إضافة إلى دخول قصر زركمان الذي يقع في الجهة المقابلة، وأخيرًا كنيسة ساكروفيني.
المتحف كبير ويتكون من طابقين. في الطابق الأرضي، ترى الآثار الرومانية، من مزهريات وقوارير ولوحات فسيفسائية قديمة. أما الطابق العلوي فيحتوي على مجموعة ضخمة من اللوحات الفنية التي تغطي الفترة التاريخية من القرن الرابع عشر إلى القرن الثامن عشر، وتتنوع من لوحات البورتريه إلى اللوحات الانطباعية، فضلًا عن المنحوتات والتماثيل النصفية والجداريات الضخمة. أما القاعات فبعضها واسع فسيح وبعضها الآخر متوسط إلى صغير الحجم.
للمتحف باحة تحيطها حجرات تزينها أروقة واسعة، وحديقة فيها بعض الأعمال الفنية، عبرنا من خلالها لنصل إلى الكنيسة الصغرى. للدخول إلى هذه الكنيسة، يجب عليك انتظار بداية الجولة المدرجة في الجدول اليومي، وتبدأ الجولة بعرض فيلم وثائقي مدته 15 دقيقة، يحكي تاريخ المكان وقصة صاحبه، كما يبرز النواحي الجمالية لهذه الكنيسة التي هي بالفعل تحفة فنية.
سكروفيني... التحفة الزرقاء
إنّ كنيسة سكروفيني هي في الحقيقة كنيسة صغيرة بنيت بين عامي 1303-1305 كمعبد خاص لقصر فخم كان موجودًا في الزمان الغابر. وهذا القصر يعود إلى إنريكو سكروفيني ومنه استمدت الكنيسة اسمها، ولا شيء في مظهرها الخارجي يشي بأي فرادة أو أهمية معمارية تذكر. ولقد صار للكنيسة شهرتها الذائعة في إيطاليا بسبب الجدارية الزرقاء الرائعة، التي رسمها وزخرف تفاصيلها الفنان الإيطالي جيتو دي بندوني. تجسد الجدارية قصة الخلاص، بحسب الاعتقاد المسيحي، وتتضمن لوحات عدة، منها لوحة اليوم الآخر. لطالما كان اللون الأزرق محببا للكثيرين، إلا أن هذه الجدارية ستجعلك تكتشف جماليات اللون الأزرق المطعم بالذهبي وأبعاده الروحانية.
ها نحن ننهي تطوافنا في مدينة بادوفا، بعد أن أفلت الشمس وجن الليل، بتناول عشائنا الأخير في أحد المطاعم هنا؛ عشاء يعوض عن تجاهلنا لوجبة الغداء واكتفائنا بالكعك في مقهى بيدروكي. كان العشاء عبارة عن بيتزا تكسوها طبقات من الجبن المذاب، وفوقها شرائح من الجرجير والطماطم المجففة، أردناها صغيرة الحجم، لكن البيتزا تباع هنا بحجم واحد، رأيناه كبيرًا، إلا أن ناس إيطاليا يعتبرونه وجبة فردية بامتياز.
في الخارج، كانت الأضواء الصفراء منعكسة على الأزقة والميادين الحجرية. وكانت الشرفات والشبابيك المزينة بأصيصات الورد مضاءة بإضاءة خفيفة. لوحة فنية رحنا نتمشى بين تفاصيل ألوانها، لتضاف وتبقى في مخزون الذاكرة.
ياله من جمال! فلم يخطئ وليام شكسبير حين وصف بادوفا بالبهية حاضنة الفنون والآداب .