بادوفا في إيطاليا ثورة علمية وفنية وجمالية

بادوفا  في إيطاليا  ثورة علمية وفنية وجمالية

ها‭ ‬هي‭ ‬الطائرة‭ ‬تستعد‭ ‬للهبوط،‭ ‬فتمر‭ ‬المضيفة‭ ‬على‭ ‬مقاعد‭ ‬المسافرين‭ ‬وتمرر‭ ‬عينيها‭ ‬على‭ ‬حزام‭ ‬المقعد،‭ ‬وهي‭ ‬تردد‭: ‬حزام‭ ‬الأمان،‭ ‬حزام‭ ‬الأمان‭. ‬رمقتني‭ ‬بنظرة‭ ‬باسمة،‭ ‬طالبة‭ ‬مني‭ ‬فتح‭ ‬النافذة،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬مقعدي‭ ‬بجانبها‭. ‬كانت‭ ‬رحلة‭ ‬طويلة‭ ‬ومتعبة‭ ‬مع‭ ‬كثرة‭ ‬المطبات‭ ‬الجوية‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬لها‭ ‬الطائرة،‭ ‬لكنها‭ ‬أخيرًا‭ ‬بدأت‭ ‬بالهبوط‭ ‬التدريجي‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬ماركو‭ ‬بولو‭ ‬الدولي‭ ‬بمدينة‭ ‬البندقية‭. ‬كانت‭ ‬الساعة‭ ‬التي‭ ‬أمامنا‭ ‬في‭ ‬شاشة‭ ‬المقعد‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬والنصف‭ ‬ظهرًا‭. ‬بدت‭ ‬البندقية‭ ‬من‭ ‬الجو‭ ‬كلوحة‭ ‬فنية‭ ‬ساحرة‭ ‬حرص‭ ‬صاحبها‭ ‬على‭ ‬دقة‭ ‬تفاصيلها؛‭ ‬الممرات‭ ‬المائية‭ ‬والأراضي‭ ‬الملونة‭ ‬بألوان‭ ‬البيوت‭ ‬والمباني‭ ‬القديمة‭. ‬ارتطمت‭ ‬عجلات‭ ‬الطائرة‭ ‬بالمدرج‭ ‬وصوت‭ ‬أزيز‭ ‬المراوح‭ ‬يصم‭ ‬الآذان‭. ‬

خفت‭ ‬الصوت‭ ‬تدريجيًا‭ ‬مع‭ ‬تقدم‭ ‬الطائرة‭ ‬باتجاه‭ ‬مبنى‭ ‬المطار،‭ ‬حتى‭ ‬اختفى‭ ‬تمامًا‭ ‬متيحًا‭ ‬لصوت‭ ‬الموسيقى‭ ‬الهادئة،‭ ‬التي‭ ‬تبثها‭ ‬الطائرة‭ ‬عادة‭ ‬عند‭ ‬ركوب‭ ‬ومغادرة‭ ‬المسافرين،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬سيدة‭ ‬الفضاء‭ ‬السمعي‭ ‬وسط‭ ‬هدوء‭ ‬الركاب‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬العادة‭. ‬ومن‭ ‬له‭ ‬أذن‭ ‬موسيقية‭ ‬سيدرك‭ ‬فورًا‭ ‬ذلك‭ ‬التلون‭ ‬البديع‭ ‬لمعزوفة‭ ‬شركة‭ ‬الطيران‭ ‬هذه‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬النهاوند‭ ‬إلى‭ ‬مس‭ ‬مقام‭ ‬الكرد‭ ‬قليلًا‭. ‬اختيار‭ ‬موفق،‭ ‬فمقام‭ ‬النهاوند‭ ‬يبث‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬السكينة‭ ‬والطمأنينة،‭ ‬بل‭ ‬ويفضله‭ ‬بعض‭ ‬المؤذنين‭ ‬لرفع‭ ‬أذان‭ ‬الفجر،‭ ‬لمناسبته‭ ‬مع‭ ‬هدوء‭ ‬السحر،‭ ‬ومعروف‭ ‬أن‭ ‬القارئ‭ ‬الشيخ‭ ‬محمود‭ ‬خليل‭ ‬الحصري‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬عشاقه،‭ ‬ولأبي‭ ‬حامد‭ ‬الغزالي‭ ‬كلام‭ ‬في‭ ‬أثر‭ ‬الموسيقى‭ ‬أورده‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬اإحياء‭ ‬علوم‭ ‬الدينب،‭ ‬هذا‭ ‬نصه‭: ‬الله‭ ‬سر‭ ‬في‭ ‬مناسبة‭ ‬النغمات‭ ‬الموزونة‭ ‬للأرواح،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬لتؤثر‭ ‬فيها‭ ‬تأثيرًا‭ ‬عجيبًا؛‭ ‬فمن‭ ‬الأصوات‭ ‬ما‭ ‬يفرح‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬ينوم‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يضحك‭ ‬ويطرب‭... ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يحركه‭ ‬الربيع‭ ‬وأزهاره‭ ‬والعود‭ ‬وأوتاره‭ ‬فهو‭ ‬فاسد‭ ‬المزاج‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬علاجب،‭ ‬صدق‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭. ‬تباطأت‭ ‬سرعة‭ ‬الطائرة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توقفت‭ ‬تمامًا‭ ‬عند‭ ‬بوابة‭ ‬المطار،‭ ‬ليمتد‭ ‬خرطوم‭ ‬البوابة‭ ‬سريعًا‭ ‬فيلتصق‭ ‬بباب‭ ‬الطائرة‭.‬

المطار‭ ‬ليس‭ ‬كبيرًا‭ ‬لكنه‭ ‬منظم‭ ‬وأنيق‭. ‬عند‭ ‬شبابيك‭ ‬جوازات‭ ‬السفر،‭ ‬انتظرنا‭ - ‬نحن‭ ‬غير‭ ‬الأوربيين‭ ‬ــ‭ ‬طويلاً،‭ ‬لشدة‭ ‬الزحام‭. ‬أمام‭ ‬مخرج‭ ‬المطار،‭ ‬هناك‭ ‬سيارات‭ ‬الأجرة‭ ‬تصطف‭ ‬خلف‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬ولأننا‭ ‬غير‭ ‬بعيدي‭ ‬عهدٍ‭ ‬ببادوفا،‭ ‬إذ‭ ‬كنّا‭ ‬هنا‭ ‬قبل‭ ‬شهرين‭ ‬لحضور‭ ‬مؤتمر‭ ‬علمي‭ ‬انتظم‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا‭ ‬العريقة،‭ ‬نظمه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬العلمية‭ ‬والأكاديمية،‭ ‬ولأننا‭ ‬كنّا‭ ‬قد‭ ‬استقللنا‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬في‭ ‬المرة‭ ‬السابقة،‭ ‬فضلنا‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬تجربة‭ ‬حافلة‭ ‬النقل‭ ‬العام‭. ‬وهي‭ ‬تجربة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬فارق‭ ‬الكلفة‭ ‬المالية،‭ ‬حيث‭ ‬تبلغ‭ ‬تكلفة‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬التاكسي‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬ماركو‭ ‬بولو‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬مدينة‭ ‬بادوفا‭ ‬نحو‭ ‬100‭ ‬يورو،‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬أجرة‭ ‬الحافلة‭ ‬8‭ ‬يورهات،‭ ‬ومع‭ ‬جودة‭ ‬الباص‭ ‬ونظافته،‭ ‬أقول‭ ‬هي‭ ‬تجربة‭ ‬تستحق‭ ‬الخوض‭. ‬بدأت‭ ‬الحافلة‭ ‬بالسير‭ ‬إلى‭ ‬عدة‭ ‬محطات،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬محطة‭ ‬البندقية‭ ‬لتعبر‭ ‬جسر‭ ‬الحرية‭ ‬البديع‭ ‬فتمتع‭ ‬ناظريك‭ ‬بعبقرية‭ ‬الفن‭ ‬المعماري‭ ‬الإيطالي،‭ ‬وهكذا‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬تصل،‭ ‬بعد‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ ‬بادوفا‭ ‬للحافلات،‭ ‬بينما‭ ‬تستغرق‭ ‬الرحلة‭ ‬عبر‭ ‬التاكسي‭ ‬قرابة‭ ‬الأربعين‭ ‬دقيقة‭. ‬ليس‭ ‬فارقًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قيس‭ ‬بمتعة‭ ‬استكشاف‭ ‬المدينة‭ ‬وبالطبع‭ ‬فارق‭ ‬الثمن‭.‬

 

بداية‭ ‬الحكاية

في‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬2019،‭ ‬عقد‭ ‬مؤتمر‭ ‬دولي‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬االشعبوية،‭ ‬التطرف‭ ‬والإعلام‭ ‬الجديدب،‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬عدة‭ ‬تتصل‭ ‬كلها‭ ‬بالكلمات‭ ‬المفتاحية‭ ‬التي‭ ‬يبرزها‭ ‬عنوان‭ ‬المؤتمر،‭ ‬أما‭ ‬المتحدثون‭ ‬فمن‭ ‬مختلف‭ ‬التخصصات‭ ‬والخلفيات‭ ‬والثقافات،‭ ‬منهم‭ ‬المستشرقون‭ ‬ومنهم‭ ‬العرب‭ ‬المقيمون‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬والقادمون‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬قطر‭ ‬عربي،‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬مشاغل‭ ‬الساحة‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬الدولية‭. ‬وأما‭ ‬محاور‭ ‬المؤتمر‭ ‬فمتنوعة‭ ‬وتتيح‭ ‬زوايا‭ ‬نظر‭ ‬مختلفة‭ ‬للموضوع،‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬التواصل‭ ‬والإعلام‭ ‬إلى‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭. ‬وكنا‭ ‬قد‭ ‬حضرنا‭ ‬المؤتمر‭ ‬كمشاركين‭ ‬مستمعين‭. ‬وأما‭ ‬مكان‭ ‬انعقاد‭ ‬المؤتمر‭ ‬ففي‭ ‬إحدى‭ ‬القاعات‭ ‬التاريخية‭ ‬لجامعة‭ ‬بادوفا،‭ ‬وهنا‭ ‬بدأت‭ ‬الحكاية،‭ ‬فهي‭ ‬قاعة‭ ‬تاريخية‭ ‬بديعة‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬عتاقتها‭ ‬مع‭ ‬تجهيزها‭ ‬بكامل‭ ‬التقنيات‭ ‬الحديثة‭ ‬لعقد‭ ‬الندوات‭ ‬وتنظيم‭ ‬المؤتمرات‭ ‬وخلافه‭ ‬من‭ ‬أنشطة‭ ‬أكاديمية‭. ‬ونظرًا‭ ‬لجدول‭ ‬المؤتمر‭ ‬المزدحم‭ ‬منذ‭ ‬الصباح‭ ‬وحتى‭ ‬المساء،‭ ‬ولضيق‭ ‬الوقت‭ ‬ومحدودية‭ ‬أيام‭ ‬الزيارة‭ ‬بأيام‭ ‬المؤتمر،‭ ‬لم‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬استكشاف‭ ‬هذا‭ ‬الصرح‭ ‬الأكاديمي‭. ‬ومن‭ ‬حينها‭ ‬ظلت‭ ‬الفكرة‭ ‬تتردد‭ ‬لزيارة‭ ‬أخرى‭ ‬تكون‭ ‬مخصصة‭ ‬فقط‭ ‬لجامعة‭ ‬بادوفا‭ ‬ومرافقها‭ ‬التاريخية‭ ‬المتصلة‭ ‬بالمواقع‭ ‬التاريخية‭ ‬للمدينة‭. ‬ولحسن‭ ‬الحظ،‭ ‬واتتنا‭ ‬الفرصة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الزيارة‭ ‬السريعة‭.‬

في‭ ‬طريق‭ ‬الحافلة،‭ ‬تعود‭ ‬بِنَا‭ ‬الذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الورقات‭ ‬العلمية‭ ‬المقدمة‭ ‬في‭ ‬المؤتمر،‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مهتمًا‭ ‬بالشرق‭ ‬والإسلام‭. ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬حضرت‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬ورقة‭ ‬المستشرق‭ ‬الألماني‭ ‬شتيفان‭ ‬فايدنر،‭ ‬الذي‭ ‬درس‭ ‬العلوم‭ ‬الإسلامية‭ ‬وأقدم‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬أعمالٍ‭ ‬أدبية‭ ‬عربية‭ ‬مرموقة‭ ‬إلى‭ ‬الألمانية،‭ ‬منها‭ ‬أعمال‭ ‬لمحمود‭ ‬درويش،‭ ‬وأدونيس،‭ ‬وبدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وكان‭ ‬آخر‭ ‬ترجماته‭ ‬كتاب‭ ‬اترجمان‭ ‬الأشواقب‭ ‬لابن‭ ‬عربي‭. ‬تناول‭ ‬فايدنر‭ ‬في‭ ‬ورقته‭ ‬علاقة‭ ‬التطرف‭ ‬والشعبوية‭ ‬بخطاب‭ ‬الكراهية‭ ‬ضد‭ ‬الإسلام،‭ ‬مشددًا‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬التفرقة‭ ‬بين‭ ‬نمطين‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب؛‭ ‬أولهما‭ ‬يتصل‭ ‬بالمستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬النظري،‭ ‬والآخر‭ ‬شعبوي‭ ‬زاد‭ ‬في‭ ‬ذيوعه‭ ‬انتشار‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الحديثة‭.‬

 

مدينة‭ ‬عتيقة

هذه‭ ‬المدينة‭ ‬العتيقة‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬المدن‭ ‬الإيطالية،‭ ‬وشهدت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬تاريخها‭ ‬الطويل،‭ ‬الممتد‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬3000‭ ‬سنة،‭ ‬أحداثًا‭ ‬ومجريات‭ ‬ومنعطفات‭ ‬تاريخية‭ ‬خلدتها‭ ‬الآثار‭ ‬الباقية‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬مقصدًا‭ ‬للسياح‭ ‬من‭ ‬أرجاء‭ ‬المعمورة‭ ‬كافة‭. ‬تقع‭ ‬بادوفا‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬الإيطالي،‭ ‬40‭ ‬كيلومترًا‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬البندقية،‭ ‬وتشرف‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬بديع‭ ‬اسمه‭ ‬باكيليوني‭. ‬اباتيفيومب‭ ‬هو‭ ‬الاسم‭ ‬اللاتيني‭ ‬القديم‭ ‬لبادوفا،‭ ‬وينطق‭ ‬الطليان‭ ‬اسم‭ ‬مدينتهم‭ ‬ابادواب،‭ ‬وهي‭ ‬كانت‭ ‬ثانية‭ ‬أغنى‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬بعد‭ ‬روما‭. ‬ولذلك،‭ ‬تعرضت‭ ‬المدينة،‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية،‭ ‬لهجمات‭ ‬وغزوات‭ ‬دمرتها‭ ‬عن‭ ‬بكرة‭ ‬أبيها،‭ ‬وتركت‭ ‬منها‭ ‬الآثار‭ ‬وقصورًا‭ ‬مشيدة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬نقطة‭ ‬التحول‭ ‬الحاسمة‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬للمدينة‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1222،‭ ‬حينما‭ ‬أنشئت‭ ‬الجامعة‭ ‬التاريخية‭ ‬المرموقة،‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا،‭ ‬ومذاك‭ ‬صارت‭ ‬المدينة‭ ‬حاضرة‭ ‬الإقليم‭ ‬ومقصدًا‭ ‬وغاية‭ ‬للكثيرين،‭ ‬نظرًا‭ ‬لتنوعها‭ ‬الثقافي‭ ‬وتطورها‭ ‬العلمي،‭ ‬حيث‭ ‬اعتبرت‭ ‬مركزًا‭ ‬للثورة‭ ‬العلمية‭. 

تقترب‭ ‬الحافلة‭ ‬من‭ ‬الوجهة‭ ‬المطلوبة‭ ‬لتقف‭ ‬أخيرًا‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬بادوفا‭. ‬ترجلنا‭ ‬سريعًا‭ ‬من‭ ‬الحافلة‭ ‬لاستلام‭ ‬الحقائب‭ ‬من‭ ‬صندوقها‭ ‬السفلي‭. ‬نفتح‭ ‬على‭ ‬برنامج‭ ‬الخرائط‭ ‬في‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول‭ ‬لنعثر‭ ‬على‭ ‬الفندق‭ ‬القديم‭. ‬آه‭... ‬إنه‭ ‬يبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬عشرة‭ ‬دقيقة‭ ‬سيرًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭. ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬التعب‭ ‬قد‭ ‬تملكنا،‭ ‬استأجرنا‭ ‬التاكسي‭ ‬ليأخذنا‭ ‬إلى‭ ‬وجهتنا‭ ‬في‭ ‬خمس‭ ‬دقائق‭. ‬فراح‭ ‬السائق‭ ‬يمر‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬الضيقة‭ ‬التي‭ ‬بالكاد‭ ‬تتسع‭ ‬لسيارة‭ ‬واحدة،‭ ‬وما‭ ‬مضت‭ ‬لحظات‭ ‬حتى‭ ‬كنّا‭ ‬عند‭ ‬كنيسة‭ ‬قديمة‭ ‬معمارها‭ ‬بديع‭. ‬إنها‭ ‬كنيسة‭ ‬القديس‭ ‬أنطونيوس‭. ‬أين‭ ‬الفندق؟‭ ‬سألنا‭ ‬السائق‭. ‬فقال‭: ‬أنتم‭ ‬محظوظون،‭ ‬فالنزل‭ ‬الذي‭ ‬تنزلون‭ ‬به‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المدينة‭ ‬التاريخي،‭ ‬لستم‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تاكسي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أردتم‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬المدينة‭. ‬وأردف‭ ‬وهو‭ ‬يشير‭ ‬بيده‭: ‬ها‭ ‬هو‭ ‬النزل‭ ‬المقصود،‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬الشارع،‭ ‬قبالة‭ ‬الكنيسة‭. ‬يعود‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬المدينة‭ ‬التاريخية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬العلم‭ ‬وثورته،‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬الكنيسة‭ ‬التي‭ ‬توفي‭ ‬القديس‭ ‬المعروفة‭ ‬باسمه‭ ‬عام‭ ‬1231‭. ‬رحنا‭ ‬نحدق‭ ‬في‭ ‬الكنيسة‭ ‬التي‭ ‬ينتصب‭ ‬أمام‭ ‬بابها‭ ‬تمثال‭ ‬لفارس‭ ‬يمتطي‭ ‬صهوة‭ ‬حصان‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬الكنيسة‭ ‬مكرسة‭ ‬لمريم‭ ‬العذراء‭ ‬ومقرًا‭ ‬لأسقف‭ ‬بادوفا،‭ ‬وتعد‭ ‬مركز‭ ‬العبادة‭ ‬الرئيسي‭ ‬لكاثوليكي‭ ‬بادوفا‭. ‬

 

ساحة‭ ‬براتو‭ ‬ديلا‭ ‬فالي

أتممنا‭ ‬إجراءات‭ ‬دخول‭ ‬الفندق،‭ ‬وما‭ ‬لبثنا‭ ‬أن‭ ‬وضعنا‭ ‬الحقيبة‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬حتى‭ ‬خرجنا‭ ‬لاستكشاف‭ ‬المنطقة‭ ‬المحيطة،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التعب‭. ‬أخذنا‭ ‬بالتجوال‭ ‬في‭ ‬النواحي‭. ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬المنفتح‭ ‬على‭ ‬الكنيسة،‭ ‬طريق‭ ‬للترام‭. ‬وبينما‭ ‬كنا‭ ‬نمضي‭ ‬في‭ ‬رواق‭ ‬مقوس‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الطريق‭ ‬إذا‭ ‬بالترام‭ ‬يمر‭ ‬بسرعة‭ ‬متوسطة،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬ضجيج‭. ‬عربة‭ ‬الترام‭ ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنّ‭ ‬بها‭ ‬عجلات،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬الترام‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى‭. ‬عندما‭ ‬سألنا‭ ‬عن‭ ‬السبب،‭ ‬قيل‭ ‬إنها‭ ‬تقنية‭ ‬لحفظ‭ ‬المباني‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬اهتزازات‭ ‬الترام‭ ‬حال‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬به‭ ‬عجلات،‭ ‬وإنه‭ ‬يدعى‭ ‬ترام‭ ‬ترانسلور،‭ ‬وهو‭ ‬نظام‭ ‬فرنسي‭ ‬في‭ ‬الأصل،‭ ‬حيث‭ ‬جرى‭ ‬تنفيذه‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وبادوفا‭ ‬ومدن‭ ‬قليلة‭ ‬أخرى‭. ‬أفضى‭ ‬بِنَا‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬شاسعة‭ ‬بيضاوية‭ ‬الشكل‭. ‬الساحة‭ ‬تدعى‭ ‬ساحة‭ ‬براتو‭ ‬ديلا‭ ‬فالي‭ ‬وتقع‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬90000‭ ‬متر‭ ‬مربع،‭ ‬وهي‭ ‬بذلك‭ ‬أكبر‭ ‬ساحات‭ ‬إيطاليا‭. ‬وللساحة‭ ‬تماثيل‭ ‬كثيرة‭ ‬تنتشر‭ ‬على‭ ‬ضفتي‭ ‬القناة‭ ‬المائية‭ ‬الصناعية‭ ‬التي‭ ‬تطوق‭ ‬الساحة‭ ‬الخضراء،‭ ‬فيما‭ ‬تقسم‭ ‬الساحة‭ ‬مسارات‭ ‬أربعة،‭ ‬تلتقي‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬المنتصف‭ ‬حيث‭ ‬نافورة‭ ‬مائية‭ ‬فاتنة‭.‬

ولجمالها‭ ‬وبهائها،‭ ‬كانت‭ ‬بادوفا‭ ‬محل‭ ‬اختيار‭ ‬شكسبير‭ ‬لتكون‭ ‬مسرحًا‭ ‬رئيسًا‭ ‬لروايته‭ ‬الشهيرة‭ ‬اترويض‭ ‬النمرةب‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تعد‭ ‬موقعًا‭ ‬لليسار‭ ‬والحركات‭ ‬اليسارية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وهي‭ ‬مسقط‭ ‬رأس‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإيطالي‭ ‬الشهير‭ ‬أنتونيو‭ ‬نيجري،‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬االإمبراطوريةب،‭ ‬وأحد‭ ‬أشهر‭ ‬فلاسفة‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬حصنًا‭ ‬للكنيسة‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬إذ‭ ‬بها‭ ‬تنتشر‭ ‬الصحف‭ ‬ودور‭ ‬النشر‭ ‬المقربة‭ ‬من‭ ‬الكنيسة،‭ ‬والقريبة‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬كنيسة‭ ‬القديس‭ ‬أنطونيوس‭. ‬

 

أزقة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬سرنا‭ ‬في‭ ‬الأزقة‭ ‬الضيقة‭ ‬لمدينة‭ ‬بادوفا،‭ ‬التي‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬مدينة‭ ‬الأزقة‭ ‬الفاتنة،‭ ‬حيث‭ ‬تجد‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬الزقاق،‭ ‬وفِي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬على‭ ‬جانبيه،‭ ‬أروقة‭ ‬المباني‭ ‬القديمة‭. ‬ولا‭ ‬تكاد‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬زقاق‭ ‬حتى‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬عبر‭ ‬ساحات‭ ‬وزوايا‭ ‬وميادين‭ ‬فسيحة‭. ‬والميادين‭ ‬في‭ ‬بادوفا‭ ‬حكاية‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها،‭ ‬إنها‭ ‬مكان‭ ‬اللقاء‭ ‬والتجمع‭ ‬لقاطني‭ ‬بادوفا،‭ ‬يتناولون‭ ‬فيها‭ ‬الكعك‭ ‬ويحتسون‭ ‬القهوة‭ ‬التي‭ ‬يعشقها‭ ‬أهل‭ ‬بادوفا،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬هو‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭. ‬وكلما‭ ‬توغلنا‭ ‬في‭ ‬طريقنا‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬المدينة،‭ ‬حيث‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا،‭ ‬استوقفنا‭ ‬الجمال‭ ‬الأخاذ‭ ‬واستفز‭ ‬عطش‭ ‬الكاميرا‭ ‬للصور‭ ‬الجميلة‭. ‬ها‭ ‬قد‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬محيط‭ ‬مبنى‭ ‬الجامعة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬مررنا‭ ‬ببوابة‭ ‬قديمة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬وتنفتح‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬تدعى‭ ‬ساحة‭ ‬غاري‭ ‬باليدي‭. ‬انعطفنا‭ ‬يسارًا،‭ ‬فتركنا‭ ‬الساحة‭ ‬إلى‭ ‬يميننا‭ ‬ومضينا،‭ ‬فإذا‭ ‬بساحة‭ ‬أخرى‭ ‬صغيرة‭ ‬تصادفنا‭. ‬

واصلنا‭ ‬المسير‭ ‬حتى‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬ينتصب‭ ‬فيها‭ ‬مبنى‭ ‬البلدية؛‭ ‬بناء‭ ‬جميل‭ ‬فاتن‭. ‬قبالة‭ ‬المبنى،‭ ‬ثمة‭ ‬بناء‭ ‬قديم‭ ‬لكنه‭ ‬أنيق‭ ‬يليق‭ ‬بأناقة‭ ‬المعمار‭ ‬الإيطالي،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مجمع‭ ‬من‭ ‬المباني‭ ‬ويتخلله‭ ‬فناءان؛‭ ‬قديم‭ ‬وحديث،‭ ‬إنه‭ ‬المقر‭ ‬التاريخي‭ ‬لجامعة‭ ‬بادوفا‭. ‬دخلنا‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬الرئيسي‭ ‬للجامعة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أخذت‭ ‬الكاميرا‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬البناء‭ ‬كلاسيكي‭ ‬مربع‭ ‬الشكل‭ ‬ويتوسطه‭ ‬فناء‭ ‬مفتوح‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬تحيطه‭ ‬الأروقة‭ ‬المقوسة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب‭. ‬وعلى‭ ‬الجدران‭ ‬الداخلية،‭ ‬لوحات‭ ‬تاريخية‭ ‬ودروع‭ ‬ونقوش‭ ‬ذات‭ ‬دلالات؛‭ ‬منها‭ ‬نقش‭ ‬رأس‭ ‬ثور،‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬فن‭ ‬النحت‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬كما‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬أقيمت‭ ‬عليه‭ ‬الجامعة‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬اسطبلًا‭ ‬للثيران،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬اسم‭ ‬القصر‭ ‬االبلازا‭ ‬بوب‭ ‬أي‭ ‬قصر‭ ‬الثيران‭. ‬وإذا‭ ‬رفعت‭ ‬رأسك‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬البناء‭ ‬فسترى‭ ‬برجًا‭ ‬يعلو‭ ‬إحدى‭ ‬واجهات‭ ‬الفناء‭ ‬الداخلي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬وبداخله‭ ‬ناقوس‭ ‬عتيق‭. ‬صمم‭ ‬هذا‭ ‬الفناء‭ ‬البهي،‭ ‬كما‭ ‬على‭ ‬صورته‭ ‬الراهنة،‭ ‬المعماري‭ ‬أندريا‭ ‬مورني،‭ ‬الذي‭ ‬صمم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المباني‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بادوفا‭. ‬ذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬حجرة‭ ‬الاستعلام‭ ‬السياحي‭ ‬طلبًا‭ ‬للمعلومة‭ ‬واختراق‭ ‬التاريخ‭ ‬القابع‭ ‬بين‭ ‬جنبات‭ ‬الجامعة‭.‬

أخبرتنا‭ ‬موظفة‭ ‬متقدمة‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬وفي‭ ‬عينيها‭ ‬سكينة‭ ‬وطمأنينة،‭ ‬أن‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬مرافق‭ ‬الجامعة‭ ‬غير‭ ‬مسموح‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬المرشد‭ ‬السياحي‭ ‬حفاظًا‭ ‬على‭ ‬المكان،‭ ‬وأن‭ ‬المرشد‭ ‬السياحي‭ ‬يقوم‭ ‬بجولة‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬كل‭ ‬ساعة‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وأنه،‭ ‬ولسوء‭ ‬الحظ،‭ ‬للتو‭ ‬ابتدأت‭ ‬الجولة،‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬ابتسمت‭ ‬قائلة‭: ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تتأمل‭ ‬النقوش‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬المعمار‭ ‬العتيق‭ ‬للجامعة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬مقهى‭ ‬بيدروكي‭ ‬التاريخي‭ ‬وتحتسي‭ ‬القهوة‭ ‬وتتناول‭ ‬الشطائر‭ ‬أو‭ ‬الكعك‭ ‬اللذيذ‭ ‬إن‭ ‬شئت،‭ ‬حتى‭ ‬يجيء‭ ‬موعد‭ ‬الجولة‭ ‬القادمة‭. ‬فسألتها‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬هذا‭ ‬المقهى‭ ‬التاريخي‭ ‬وأين‭ ‬يقع‭ ‬بالضبط‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يمر‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬البحث،‭ ‬فأجابت‭ ‬مبتسمة‭: ‬للمكان‭ ‬قصة‭ ‬بالفعل،‭ ‬لكن‭ ‬أتركك‭ ‬تكتشفها‭ ‬بنفسك،‭ ‬وأما‭ ‬موقعه‭ ‬فلا‭ ‬عليك‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬الرئيسي‭ ‬الذي‭ ‬دخلت‭ ‬منه‭ ‬وتعرج‭ ‬يمينًا‭ ‬خطوات‭ ‬قليلة‭ ‬فتجده‭ ‬منتصبًا‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭. ‬أومأنا‭ ‬بالشكر‭ ‬فأومأت‭. ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬المقهى‭ ‬ليس‭ ‬قريبًا‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الساحة‭ ‬التي‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭ ‬الجامعة،‭ ‬بيد‭ ‬أننا‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬ضللناه‭ ‬شيئًا‭ ‬قليلًا،‭ ‬فالناظر‭ ‬إليه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬معرفة،‭ ‬يخاله‭ ‬قصرًا‭ ‬تاريخيًا‭ ‬وليس‭ ‬مقهى‭.‬

 

مقهى‭ ‬بيدروكي‭ ‬

المقهى‭ ‬واسع‭ ‬جدًا،‭ ‬وذو‭ ‬مدخل‭ ‬فسيح،‭ ‬على‭ ‬جانبيه‭ ‬شرفتان‭ ‬تتكآن‭ ‬على‭ ‬أعمدة‭ ‬رخامية‭ ‬بطراز‭ ‬معماري‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الجديدة،‭ ‬تذكر‭ ‬كذلك‭ ‬بالصيغ‭ ‬المعمارية‭ ‬اليونانية‭. ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬جمال‭ ‬النقوش‭ ‬التي‭ ‬تزين‭ ‬الواجهات‭ ‬وتماثيل‭ ‬الأسود‭ ‬البرونزية‭ ‬الأربعة‭ ‬الرابضة‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬المدخل‭. ‬ويرى‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬المعمار‭ ‬أن‭ ‬أبنية‭ ‬مقهى‭ ‬بيدروكي‭ ‬تمثل،‭ ‬رمزيًا،‭ ‬محاولة‭ ‬لبث‭ ‬قيم‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬العمارة،‭ ‬متمحورة‭ ‬حول‭ ‬معايير‭ ‬علمانية،‭ ‬في‭ ‬تنافس‭ ‬واضح‭ ‬حينها‭ ‬مع‭ ‬معمار‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭. ‬

يتكون‭ ‬المقهى‭ ‬من‭ ‬طابقين،‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضي،‭ ‬وينقسم‭ ‬إلى‭ ‬ثلاث‭ ‬حجرات؛‭ ‬حمراء‭ ‬وخضراء‭ ‬وبيضاء،‭ ‬والطابق‭ ‬العلوي‭. ‬أطلنا‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬بعدما‭ ‬ولجنا‭ ‬الحجرة‭ ‬الحمراء،‭ ‬حيث‭ ‬وجدناه‭ ‬فضاء‭ ‬هادئًا‭ ‬رائقًا‭. ‬وفي‭ ‬إحدى‭ ‬الزوايا‭ ‬يتربع‭ ‬بيانو‭ ‬جميل‭ ‬ليكمل‭ ‬جمال‭ ‬المكان‭ ‬بفتنة‭ ‬السماع‭ ‬والأذان،‭ ‬مع‭ ‬رونق‭ ‬رائحة‭ ‬القهوة‭ ‬النافذة،‭ ‬إذًا‭ ‬هو‭ ‬جمال‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬على‭ ‬جمال؛‭ ‬وهل‭ ‬ثمة‭ ‬غرابة؟‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬بادوفا،‭ ‬مدينة‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬جمالها،‭ ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬صنعت‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬ذاته‭. ‬الحجرة‭ ‬الحمراء‭ ‬هي‭ ‬الحجرة‭ ‬الأكبر،‭ ‬وبها‭ ‬ركن‭ ‬البيع‭ ‬الرخامي‭ ‬ذو‭ ‬التصميم‭ ‬البديع،‭ ‬أما‭ ‬الحجرة‭ ‬الخضراء‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬ميدان‭ ‬بيدروكي،‭ ‬فتجد‭ ‬فيها‭ ‬مدفأة‭ ‬أنيقة،‭ ‬تعلوها‭ ‬مرآة‭ ‬ضخمة،‭ ‬ويقال‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬موضعًا‭ ‬يقرأ‭ ‬فيه‭ ‬زوار‭ ‬المقهى‭ ‬الصحف‭ ‬السيارة،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يطلب‭ ‬الزائر‭ ‬شيئًا‭ ‬مدفوعًا،‭ ‬فهو‭ ‬بمنزلة‭ ‬فضاء‭ ‬هادئ‭ ‬ومجاني،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬قبلة‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬الجامعة‭. ‬ولاتزال‭ ‬الحجرة‭ ‬موضعًا‭ ‬رائقًا‭ ‬للقراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬والتأمل‭. ‬وأما‭ ‬الحجرة‭ ‬البيضاء،‭ ‬فتشرف‭ ‬على‭ ‬ميدان‭ ‬ابلازا‭ ‬بوب‭. ‬وعلى‭ ‬أحد‭ ‬جدرانها‭ ‬ثقب‭ ‬باقٍ‭ ‬لطلقة‭ ‬رصاص‭ ‬كانت‭ ‬موجهة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجنود‭ ‬النمساويين‭ ‬نحو‭ ‬طلاب‭ ‬يتظاهرون‭ ‬ضد‭ ‬هيمنة‭ ‬هابسبورج‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1848‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬طلابية‭ ‬تم‭ ‬إخمادها،‭ ‬وأخطأت‭ ‬الرصاصة‭ ‬أجساد‭ ‬المتظاهرين‭ ‬وسكنت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجدار،‭ ‬لتكون‭ ‬علامة‭ ‬ودليلًا‭ ‬لحقبة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬بادوفا‭. ‬

أقبل‭ ‬علينا‭ ‬النادل‭ ‬مبتسمًا‭...‬

‭ - ‬المطعم‭ ‬أم‭ ‬المقهى؟

‭- ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭... ‬أليس‭ ‬هو‭ ‬مقهى‭ ‬تاريخي؟

‭- ‬بالتأكيد،‭ ‬أجاب‭. ‬وأردف‭: ‬إذًا‭ ‬اتبعوني‭. ‬سرنا‭ ‬وراءه‭ ‬فأخرجنا‭ ‬من‭ ‬المقهى‭ ‬ليدخلنا‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬هو‭ ‬إلى‭ ‬اليمين‭ ‬من‭ ‬المدخل‭ ‬الشمالي‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬بيدروكي‭. ‬

‭- ‬إلى‭ ‬أين؟

‭- ‬أذهب‭ ‬بكم‭ ‬إلى‭ ‬المتحف‭ ‬الذي‭ ‬يقص‭ ‬الحكاية،‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬من‭ ‬المقهى‭.‬

‭- ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬تقديم‭ ‬القهوة‭ ‬هناك؟

‭- ‬بالطبع‭ ‬لا‭. ‬

‭- ‬لكن‭ ‬هل‭ ‬المتحف‭ ‬كبير،‭ ‬فليس‭ ‬لدينا‭ ‬الوقت‭ ‬الكافي،‭ ‬إذ‭ ‬تنتظرنا‭ ‬جولة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا‭ ‬بعد‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الآن؟

‭- ‬فقال‭: ‬الزيارة‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬تستغرق‭ ‬نحو‭ ‬أربعين‭ ‬دقيقة،‭ ‬فلديكم‭ ‬الوقت‭. ‬لكن‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يسعكم‭ ‬تناول‭ ‬القهوة‭ ‬قبل‭ ‬تجوالكم‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭.‬

 

جولة‭ ‬في‭ ‬المتحف

صعدنا‭ ‬درجات‭ ‬السلم‭ ‬الكبير،‭ ‬المعروف‭ ‬بسلم‭ ‬الشرف،‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬المتحف،‭ ‬فإذا‭ ‬بمكتبين‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬المتحف،‭ ‬يجلس‭ ‬عليهما‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة‭. ‬المرأة‭ ‬تبيع‭ ‬التذاكر‭ ‬وتوزع‭ ‬معها‭ ‬كتيبًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬المعلومات‭ ‬التاريخية‭ ‬للمتحف‭. ‬أما‭ ‬الرجل‭ ‬فمشغول‭ ‬عنا‭ ‬بجهاز‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬المحمول‭ ‬الذي‭ ‬أمامه‭. ‬بدأنا‭ ‬بتفقد‭ ‬المتحف،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬تسع‭ ‬حجرات‭ ‬مفتوح‭ ‬بعضها‭ ‬على‭ ‬بعض،‭ ‬وفِي‭ ‬كل‭ ‬حجرة‭ ‬تشاهد‭ ‬نمطًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬في‭ ‬التصميم‭ ‬والديكور‭ ‬من‭ ‬الأسلوب‭ ‬المصري‭ ‬القديم،‭ ‬المليء‭ ‬بالموتيفات‭ ‬والزخرفات‭ ‬المصرية‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬الرحالة‭ ‬الإيطالي‭ ‬جيوفاني‭ ‬باتيستا‭ ‬بلزوني،‭ ‬الشهير‭ ‬بسرقته‭ ‬للآثار‭ ‬المصرية،‭ ‬مرورًا‭ ‬بالطراز‭ ‬الإغريقي‭ ‬والروماني‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬حجرة‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬تقاليد‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬القاعات‭ ‬مكانًا‭ ‬لعقد‭ ‬اللقاءات‭ ‬والحفلات‭ ‬لأبناء‭ ‬الطبقة‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬والشخصيات‭ ‬المرموقة،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تلك‭ ‬القاعات‭ ‬تستخدم‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭ ‬والأغراض‭ ‬من‭ ‬الحفلات‭ ‬الخاصة‭ ‬بكبار‭ ‬الشخصيات،‭ ‬إلى‭ ‬مناسبات‭ ‬الأثرياء‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬اكتراء‭ ‬القاعات،‭ ‬لإقامة‭ ‬حفلات‭ ‬الزواج‭ ‬وعقد‭ ‬المؤتمرات،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عشاءات‭ ‬العمل‭. ‬ومن‭ ‬الحجرات‭ ‬اللافتة،‭ ‬القاعة‭ ‬الكبرى‭ ‬البيضاء،‭ ‬ذات‭ ‬النقوش‭ ‬والستائر‭ ‬الذهبية،‭ ‬المعروفة‭ ‬بقاعة‭ ‬روسيني،‭ ‬وهي‭ ‬أكبر‭ ‬القاعات‭ ‬حجمًا‭ ‬وأكثرها‭ ‬فتنة‭ ‬وبهاءً‭. ‬وبعد‭ ‬الحجرات‭ ‬ينفتح‭ ‬الطابق‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬المبنى‭ ‬على‭ ‬المتحف،‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬بين‭ ‬جنباته‭ ‬مقتنيات‭ ‬فريدة‭ ‬ومتنوعة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬الأثرية‭ ‬والأسلحة‭ ‬والبزات‭ ‬العسكرية‭ ‬والأزياء‭ ‬الرسمية‭ ‬واللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬والمنحوتات‭ ‬رفيعة‭ ‬القيمة‭ ‬والقطع‭ ‬النقدية‭ ‬والميداليات‭ ‬التذكارية‭ ‬والحلي،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الوثائق،‭ ‬مما‭ ‬يؤرخ‭ ‬ويوثق‭ ‬للحياة‭ ‬بمجملها‭ ‬في‭ ‬بادوفا‭. ‬

يتناول‭ ‬المتحف‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬للمدينة،‭ ‬منذ‭ ‬سقوط‭ ‬جمهورية‭ ‬البندقية‭ ‬وخضوعها‭ ‬لسيطرة‭ ‬إمبراطورية‭ ‬هابسبورج‭ ‬في‭ ‬1797‭ ‬وحتى‭ ‬1948‭ ‬عام‭ ‬صدور‭ ‬الدستور‭ ‬الإيطالي،‭ ‬ويقدم‭ ‬المتحف‭ ‬صورة‭ ‬بانورامية‭ ‬للمدينة‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬الجوانب‭ ‬السياسية‭ ‬إلى‭ ‬الجوانب‭ ‬العسكرية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬ويغطي‭ ‬حقبة‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬150‭ ‬عامًا‭. ‬فالمتحف‭ ‬لا‭ ‬يعرض‭ ‬قصة‭ ‬المقهى‭ ‬إلا‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬المدينة،‭ ‬ويركز‭ ‬على‭ ‬حقبة‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬ولعل‭ ‬أهم‭ ‬المقتنيات،‭ ‬تلك‭ ‬الوثائق‭ ‬والصور‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬حيث‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬حجم‭ ‬الأضرار‭ ‬التي‭ ‬خلفها‭ ‬قصف‭ ‬القوات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والبريطانية‭ ‬لدحر‭ ‬القوات‭ ‬الفاشية‭.‬

 

أكثر‭ ‬من‭ ‬مقهى‭ ‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬مقهى‭ ‬بيدروكي‭ ‬مقصدًا‭ ‬لمشاهير‭ ‬السياسة‭ ‬والفن‭ ‬والأدب‭ ‬منذ‭ ‬نشأته‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1831،‭ ‬ويعد‭ ‬أكبر‭ ‬مقهى‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬المقهى‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬كلها،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬مثار‭ ‬اهتمام‭ ‬الكثيرين‭ ‬حينها،‭ ‬وتناوله‭ ‬البحاثة‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬حقل‭ ‬ومجال‭ ‬معرفي،‭ ‬فدرسه‭ ‬المهتمون‭ ‬بتاريخ‭ ‬المعمار،‭ ‬لعتاقته‭ ‬وثراء‭ ‬الطرز‭ ‬والأساليب‭ ‬المعمارية‭ ‬الموظفة‭ ‬في‭ ‬أبنيته،‭ ‬كما‭ ‬عمد‭ ‬إليه‭ ‬الباحثون‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحضري‭ ‬والتاريخ‭ ‬الثقافي‭. ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬بالقرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬تزايد‭ ‬استهلاك‭ ‬البرجوازيين‭ ‬للقهوة،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬فرانسيسكو‭ ‬بيدروكي،‭ ‬البولوني‭ ‬صانع‭ ‬القهوة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬افتتح‭ ‬مقهاه‭ ‬الصغير‭ ‬عام‭ ‬1772‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬مميز‭ ‬يقع‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا‭ ‬ومبنى‭ ‬البلدية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬السوق‭ ‬الغارق‭ ‬بالمحال‭ ‬والمتاجر،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بتشييد‭ ‬المقهى‭ ‬على‭ ‬صورته‭ ‬الحالية،‭ ‬التي‭ ‬يؤرخ‭ ‬لها‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬نشأة‭ ‬المقهى،‭ ‬هو‭ ‬أنطونيو‭ ‬نجل‭ ‬فرانسيسكو،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬توسعة‭ ‬المقهى‭ ‬الصغير،‭ ‬وعهد‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬المعماري‭ ‬المبدع‭ ‬جوسيب‭ ‬جابيلي‭ ‬1783-1852‭ ‬ليعيد‭ ‬تصميمه‭ ‬ويخرجه‭ ‬في‭ ‬حلة‭ ‬بهية‭. ‬وهكذا‭ ‬صار‭ ‬المقهى‭ ‬مركزًا‭ ‬للاجتماع‭ ‬وموقعًا‭ ‬لتبادل‭ ‬الأحاديث‭ ‬حول‭ ‬مجريات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬والسياسية‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬العريقة،‭ ‬وهو‭ ‬الآن‭ ‬معلم‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬المدينة،‭ ‬وزيارته‭ ‬منقوصة‭ ‬من‭ ‬مر‭ ‬ببادوفا‭ ‬ولم‭ ‬يقض‭ ‬فيه‭ ‬وقتًا‭ ‬ولو‭ ‬للحظات،‭ ‬لاسيما‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬الطليان‭ ‬من‭ ‬أتباع‭ ‬المذهب‭ ‬الوضعي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬كبير‭ ‬أثر‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬معرفية‭ ‬عديدة،‭ ‬كانوا‭ ‬أساتذة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا‭ ‬وروادًا‭ ‬لمقهى‭ ‬بيدروكي‭.‬

 

جامعة‭ ‬بادوفا

فلما‭ ‬كانت‭ ‬الساعة‭ ‬قد‭ ‬انقضت،‭ ‬توجهنا‭ ‬مسرعين‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة،‭ ‬يحدونا‭ ‬الشوق‭ ‬لمشاهدة‭ ‬تلك‭ ‬الحجرة‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الطب؛‭ ‬مسرح‭ ‬التشريح‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬دخلنا‭ ‬إلى‭ ‬الفناء‭ ‬العتيق‭ ‬وجدناه‭ ‬غاصّا‭ ‬بأفواج‭ ‬الطلاب‭ ‬الخارجين‭ ‬والداخلين‭ ‬إلى‭ ‬قاعات‭ ‬المحاضرات‭. ‬اقتربنا‭ ‬إلى‭ ‬السيدة‭ ‬ذات‭ ‬العينين‭ ‬الساكنتين،‭ ‬فأشارت‭ ‬بيدها‭ ‬إلى‭ ‬التجمع‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬المبنى،‭ ‬عند‭ ‬السلم‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬القاعات‭ ‬العلوية‭. ‬انتظرنا‭ ‬مع‭ ‬المنتظرين‭. ‬ولم‭ ‬تمض‭ ‬دقائق‭ ‬معدودات‭ ‬فإذا‭ ‬بسيدة‭ ‬أربعينية،‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬لنا،‭ ‬ذات‭ ‬ملامح‭ ‬جادة،‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬جديتها‭ ‬النظارات‭ ‬التي‭ ‬تضعها‭ ‬في‭ ‬منحدر‭ ‬أنفها‭ ‬الدقيق،‭ ‬تتجه‭ ‬نحونا‭. ‬اأهلًا‭ ‬وسهلًا‭ ‬بكم‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفاب،‭ ‬قالت‭ ‬وتابعت‭: ‬اننتظر‭ ‬دقيقة‭ ‬أخرى،‭ ‬لعل‭ ‬هناك‭ ‬قادمًا‭ ‬متأخرًا،‭ ‬ثم‭ ‬نبدأ‭ ‬جولتنا‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬تاريخ‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬ثمانية‭ ‬قرون‭ ‬أو‭ ‬يكادب‭. ‬أومأنا‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬السياح‭ ‬بالقبول‭. ‬

ارتقينا‭ ‬درجات‭ ‬السلم‭ ‬المقوس،‭ ‬تتقدمنا‭ ‬مرشدة‭ ‬الجامعة،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬اليمين‭ ‬منه‭ ‬تمثال‭ ‬لأول‭ ‬امرأة‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1678،‭ ‬وهي‭ ‬إيلينا‭ ‬كورنارو‭ ‬بيسكوبيا‭. ‬توقفتْ‭ ‬في‭ ‬رواق‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬فتوقفنا،‭ ‬فمررتْ‭ ‬ناظريها‭ ‬على‭ ‬الجهات‭ ‬الأربع‭ ‬للمبنى،‭ ‬ثم‭ ‬أطرقت،‭ ‬ثم‭ ‬تقدمت‭ ‬قليلًا‭ ‬لتنظر‭ ‬إلى‭ ‬الفناء‭ ‬الداخلي‭ ‬من‭ ‬علوّ‭. ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬تستجمع‭ ‬ما‭ ‬ستقوله‭. ‬شعرنا‭ ‬بالاستغراب‭ ‬إذ‭ ‬هي‭ ‬تقوم‭ ‬بهذه‭ ‬المهمة‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬الزائرين‭ ‬والسياح،‭ ‬فلابد‭ ‬أنها‭ ‬تسرد‭ ‬المعلومات‭ ‬بشكل‭ ‬روتيني‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬مظهرها‭ ‬يشي‭ ‬بشغف‭ ‬بالمكان،‭ ‬لا‭ ‬يطفئه‭ ‬تكرار‭ ‬الكلام‭ ‬ذاته‭ ‬مرارًا‭. ‬أقبلت‭ ‬نحونا‭ ‬قائلة‭: ‬اإننا‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬أقدم‭ ‬وأهم‭ ‬جامعات‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬جامعة‭ ‬بولونيا‭ ‬وأكسفورد‭ ‬وكمبردج‭ ‬والسوربونب،‭ ‬وأردفت‭ ‬وهي‭ ‬تستدير‭ ‬ناحية‭ ‬الفناء‭ ‬من‭ ‬الممر‭ ‬العلوي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭: ‬اقرابة‭ ‬الثمانية‭ ‬قرون‭ ‬هو‭ ‬عمر‭ ‬هذه‭ ‬الجامعة،‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬خلال‭ ‬تاريخها‭ ‬الممتد‭ ‬بتحولات‭ ‬تاريخية‭ ‬كثيرة،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬المجالات‭ ‬والاختصاصات‭ ‬والحقول‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬محط‭ ‬اهتمام‭ ‬الجامعة‭ ‬أكاديميًا،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬تطور‭ ‬طبيعة‭ ‬التعليم،‭ ‬بل‭ ‬والتصورات‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬العملية‭ ‬المعرفية‭ ‬ذاتها‭. ‬ومن‭ ‬نافل‭ ‬القول،‭ ‬تعاقب‭ ‬شخصيات‭ ‬علمية‭ ‬مرموقة‭ ‬وتوليها‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬مجال‭ ‬معرفيب‭.‬

‭ ‬

منبر‭ ‬جاليليو

انطلقت‭ ‬جولتنا‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬وبدأناها‭ ‬بقاعة‭ ‬صغيرة‭ ‬تسكن‭ ‬جدرانها‭ ‬بورتريهات‭ ‬لأبرز‭ ‬طلاب‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬والتاسع‭ ‬عشر،‭ ‬رسمها‭ ‬الفنان‭ ‬جيانجيا‭ ‬كومو‭ ‬دال‭ ‬فورنو‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1942‭. ‬عدد‭ ‬اللوحات‭ ‬أربعون،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬اسمها‭ ‬اقاعة‭ ‬الأربعينب،‭ ‬THE SALA DEI‭ ‬QUARANTA‭ ‬وتتضمن‭ ‬قائمة‭ ‬الأربعين‭ ‬أسماء‭ ‬شهيرة‭ ‬وذات‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العلم‭. ‬هنا‭ ‬سترى‭ ‬مثلًا‭ ‬لوحة‭ ‬العالم‭ ‬والطبيب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬توماس‭ ‬لينيكر‭ (‬1460-1524‭)‬،‭ ‬أستاذ‭ ‬الطب‭ ‬بجامعة‭ ‬أكسفورد‭ ‬ومؤسس‭ ‬الكلية‭ ‬الملكية‭ ‬للأطباء‭ ‬في‭ ‬إنجلترا‭. ‬كما‭ ‬سترى‭ ‬بورتريه‭ ‬الطبيب‭ ‬والعالم‭ ‬الإنجليزي‭ ‬وليام‭ ‬هيرفي،‭ ‬مكتشف‭ ‬الدورة‭ ‬الدموية‭ ‬الكبرى،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يرجع‭ ‬اكتشاف‭ ‬الدورة‭ ‬الدموية‭ ‬الصغرى‭ ‬للعالم‭ ‬العربي‭ ‬الشهير‭ ‬ابن‭ ‬النفيس،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭. ‬ويعتبر‭ ‬هارفي‭ ‬منشئ‭ ‬علم‭ ‬وظائف‭ ‬الأعضاء‭ ‬ومؤسس‭ ‬المدرسة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬الطب‭. ‬وكذلك،‭ ‬بورتريه‭ ‬للطبيب‭ ‬الدنماركي‭ ‬توماس‭ ‬بارتولين‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬ريادي‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬بوادر‭ ‬علم‭ ‬التخدير‭. ‬والفيلسوف‭ ‬واللاهوتي‭ ‬الألماني‭ ‬نيكولاس‭ ‬الكوزاني،‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬فلاسفة‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬الأربعين‭ ‬شخصية‭. ‬

نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬العلمية‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬حقل‭ ‬الطب،‭ ‬وذلك‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬شهرة‭ ‬الجامعة‭ ‬والمدينة‭ ‬بالعموم،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يكسب‭ ‬الجامعة‭ ‬شهرتها‭ ‬العلمية‭ ‬كان‭ ‬مجال‭ ‬الطب‭ ‬والتشريح‭. ‬هذه‭ ‬القاعة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وإلى‭ ‬اليمين‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬الموصل‭ ‬بالقاعة‭ ‬الكبيرة‭ ‬يصادفك‭ ‬منبر‭ ‬ذو‭ ‬درجات‭ ‬معدودة؛‭ ‬إنه‭ ‬منبر‭ ‬جاليليو‭. ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬الكبير‭ ‬يعتليه‭ ‬لإلقاء‭ ‬دروسه‭ ‬في‭ ‬القاعة‭ ‬الكبرى‭ ‬لثماني‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1592‭ ‬و1610‭. ‬معلومات‭ ‬مثيرة‭ ‬كانت‭ ‬مرشدة‭ ‬المتحف‭ ‬تلقيها‭ ‬على‭ ‬مسامعنا،‭ ‬ويكتسي‭ ‬وجهها‭ ‬سمت‭ ‬الفخار‭. ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬فإذا‭ ‬بنا‭ ‬نلج‭ ‬قاعة‭ ‬ضخمة‭ ‬فخمة،‭ ‬ساحرة‭ ‬باهرة‭. ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬القاعة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مخصصة‭ ‬لفقهاء‭ ‬القانون‭ ‬حصرًا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬استثناء‭ ‬وحيداً‭ ‬هو‭ ‬جاليليو،‭ ‬الذي‭ ‬سمح‭ ‬له‭ ‬باستخدامها‭ ‬للتدريس،‭ ‬نظرًا‭ ‬لكثرة‭ ‬طلابه‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تسعهم‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬القاعات‭ ‬الأخرى‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬وضع‭ ‬جاليليو‭ ‬تطويره‭ ‬للمنهج‭ ‬العلمي‭ ‬الحديث،‭ ‬ومما‭ ‬ينسب‭ ‬إليه‭ ‬قوله‭: ‬اإقامتي‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أسعد‭ ‬فترات‭ ‬حياتيب،‭ ‬وحق‭ ‬له‭. ‬تستخدم‭ ‬القاعة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬الاحتفالات‭ ‬الكبرى،‭ ‬كافتتاح‭ ‬السنة‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬وتقديم‭ ‬الشهادات‭ ‬الفخرية‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬الجامعة‭ ‬للشخصيات‭ ‬المؤثرة‭.‬

 

مسرح‭ ‬التشريح

قالت‭ ‬لنا‭ ‬المرشدة‭ ‬وهي‭ ‬تهم‭ ‬بالخروج‭ ‬من‭ ‬القاعة‭: ‬اأما‭ ‬الآن‭ ‬فسندخل‭ ‬حجرة‭ ‬التشريح،‭ ‬لن‭ ‬تصدقوا‭ ‬عتاقة‭ ‬وفرادة‭ ‬ما‭ ‬ستشاهدونب‭. ‬ها‭ ‬نحن‭ ‬ندخل‭ ‬حجرة‭ ‬التشريح،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يسمونها‭ ‬مسرح‭ ‬التشريح،‭ ‬المبنية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر،‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬عالم‭ ‬التشريح‭ ‬هورنيموس‭ ‬فبريسوس‭ ‬وأندرياس‭ ‬فيزاليوس‭ ‬يلقون‭ ‬دروسهما‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭. ‬القاعة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬ستة‭ ‬أطواق‭ ‬من‭ ‬الشرفات‭ ‬الخشبية،‭ ‬بيضاوية‭ ‬الشكل،‭ ‬تبدأ‭ ‬ضيقة‭ ‬قرب‭ ‬السرير‭ (‬طاولة‭ ‬التشريح‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬توضع‭ ‬عليه‭ ‬جثة‭ ‬التشريح،‭ ‬ثم‭ ‬تتسع‭ ‬كلما‭ ‬ابتعدت‭ ‬وارتفعت‭ ‬عنها‭. ‬ويقف‭ ‬المتعلمون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الشرفات‭ ‬للتعلم‭ ‬ودراسة‭ ‬آليات‭ ‬التشريح‭. ‬كانت‭ ‬الحجرة‭ ‬مظلمة،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬إضاءة‭ ‬بسيطة‭. ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬مسرح‭ ‬التشريح‭ ‬ورحنا‭ ‬نتأمل‭ ‬المكان‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أعطتنا‭ ‬المرشدة‭ ‬قسطًا‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إشارات‭ ‬أو‭ ‬معلومات،‭ ‬ففي‭ ‬هيبة‭ ‬العلم‭ ‬والتاريخ‭ ‬يجمل‭ ‬الصمت‭ ‬للحظات،‭ ‬والكلمات‭ ‬الكثيرة‭ ‬تصبح‭ ‬ثرثرة‭ ‬مفسدة‭ ‬لجمال‭ ‬اللحظة‭. ‬

عادت‭ ‬المرشدة‭ ‬تقول‭: ‬اإن‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬قد‭ ‬بني‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1594،‭ ‬وكان‭ ‬بمنزلة‭ ‬مركز‭ ‬إشعاع‭ ‬لعلم‭ ‬التشريح‭ ‬البشري‭ ‬الحديث‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬للعلوم‭ ‬لحظات‭ ‬تاريخية‭ ‬فارقة‭ ‬تفصل‭ ‬ما‭ ‬قبلها‭ ‬عما‭ ‬ببعدها،‭ ‬فإن‭ ‬نشأة‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬قد‭ ‬غيرت‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬الطب‭ ‬بشكل‭ ‬جذري‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬التغيرات‭ ‬الهائلة‭ ‬في‭ ‬مفاصل‭ ‬المعرفة‭ ‬العلمية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬وهو‭ ‬نتيجة‭ ‬طبيعية‭ ‬للتحولات‭ ‬في‭ ‬منهجية‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬إجمالًا،‭ ‬إبان‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشرب‭.‬

ثم‭ ‬انصرفنا‭ ‬من‭ ‬المسرح‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬أخرى‭ ‬بجوارها،‭ ‬إنها‭ ‬قاعة‭ ‬الطب،‭ ‬وهي‭ ‬تستخدم‭ ‬اليوم‭ ‬لمناقشة‭ ‬الأطاريح‭ ‬الجامعية‭ ‬لطلاب‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الطب،‭ ‬وفِي‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬التخصصات‭ ‬العلمية‭. ‬ويوجد‭ ‬في‭ ‬القاعة‭ ‬جمجمات‭ ‬حقيقية‭ ‬تعود‭ ‬لسبعة‭ ‬أساتذة‭ ‬تبرعوا‭ ‬بأجسادهم‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬البحث،‭ ‬وقد‭ ‬شهدت‭ ‬القاعة‭ ‬الدروس‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬التشريحية‭. ‬

وبعدما‭ ‬انتهينا‭ ‬من‭ ‬تجوالنا‭ ‬في‭ ‬حجرات‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬من‭ ‬الفناء‭ ‬القديم،‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬الفناء‭ ‬الحديث،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬هبطنا‭ ‬السلم‭. ‬لقد‭ ‬شهد‭ ‬مبنى‭ ‬بلازا‭ ‬بو‭ ‬تغيرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ففي‭ ‬العقد‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬بني‭ ‬جناح‭ ‬آخر‭ ‬مخصص‭ ‬لكلية‭ ‬القانون‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬التغيرات‭ ‬التي‭ ‬أعطت‭ ‬المبنى‭ ‬شكله‭ ‬الحالي‭ ‬جرت‭ ‬خلال‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬والأربعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬بفضل‭ ‬مدير‭ ‬الجامعة‭ ‬آنذاك‭ ‬كارلو‭ ‬آنتي،‭ ‬إذ‭ ‬وجه‭ ‬تعليماته‭ ‬بإيلاء‭ ‬الناحية‭ ‬الجمالية‭ ‬للمبنى‭ ‬ما‭ ‬تستحقه‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬قدر‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالأبعاد‭ ‬الوظيفية،‭ ‬بل‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬معماري‭ ‬منسجم‭ ‬مع‭ ‬كامل‭ ‬مجمع‭ ‬مباني‭ ‬القصر‭. ‬والفناء‭ ‬الحديث‭ ‬مربع‭ ‬الشكل‭ ‬ومنفتح‭ ‬على‭ ‬نواحٍ‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬القصر،‭ ‬وللفناء‭ ‬رواق‭ ‬حداثي‭ ‬تزين‭ ‬جدرانه‭ ‬منحوتات‭ ‬كبيرة‭ ‬الحجم‭. ‬

ومن‭ ‬جميل‭ ‬ما‭ ‬شاهدنا‭ ‬هنا،‭ ‬بيت‭ ‬الدرج؛‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬جذابة‭ ‬صممها‭ ‬ونفذها‭ ‬الفنان‭ ‬جيوبنتي‭. ‬توصل‭ ‬درجات‭ ‬السلم‭ ‬الفني‭ ‬إلى‭ ‬مكاتب‭ ‬إدارية‭ ‬مخصصة‭ ‬لمدير‭ ‬الجامعة‭. ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬السلم،‭ ‬يوجد‭ ‬منحوتة‭ ‬للفنان‭ ‬أورتور‭ ‬مارتيني،‭ ‬صنعها‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬وهي‭ ‬لشخص‭ ‬متكئ‭ ‬على‭ ‬يمينه،‭ ‬بينما‭ ‬يده‭ ‬اليسرى‭ ‬تستريح‭ ‬على‭ ‬ركبته،‭ ‬أما‭ ‬وجهه‭ ‬فيتطلع‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬هو‭ ‬الزعيم‭ ‬بريمو‭ ‬فانيتي،‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬النضال‭ ‬ضد‭ ‬الفاشية‭. ‬وهناك‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬من‭ ‬جدران‭ ‬الفناء‭ ‬الحديث‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬آخر‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬حقبة‭ ‬المقاومة‭ ‬والتحرير‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الفاشي،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬جدار‭ ‬خشبي‭ ‬أسفله‭ ‬محطم‭ ‬وأعلاه‭ ‬مستوٍ‭ ‬سليم‭.‬

 

قصور‭ ‬وميادين

وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬جولتنا‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬مشينا‭ ‬قليلًا،‭ ‬فصرنا‭ ‬إلى‭ ‬موضع‭ ‬فيه‭ ‬بناء‭ ‬ضخم‭ ‬مستطيل‭ ‬الشكل‭ ‬ومنحرف‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬يبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬هيكل‭ ‬سفينة‭ ‬مقلوب،‭ ‬ويتمتع‭ ‬بواجهة‭ ‬جميلة،‭ ‬تزينها‭ ‬الأروقة‭ ‬المقوسة‭ ‬المتتابعة‭ ‬في‭ ‬طابقي‭ ‬المبنى‭. ‬وعلى‭ ‬جانبي‭ ‬المبنى‭ ‬ميدانان،‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬ميدان‭ ‬فروتا،‭ ‬وتعني‭ ‬في‭ ‬الإيطالية‭ ‬الفاكهة،‭ ‬والآخر‭ ‬هو‭ ‬ميدان‭ ‬إيربي‭ ‬وتعني‭ ‬الأعشاب‭. ‬إنه‭ ‬قصر‭ ‬قديم‭ ‬يقال‭ ‬له‭ ‬قصر‭ ‬ديلا‭ ‬راجيوني،‭ ‬بني‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬ليكون‭ ‬مقرًا‭ ‬لمحكمة‭ ‬المدينة،‭ ‬وكان‭ ‬يسمى‭ ‬اقصر‭ ‬العدلب،‭ ‬وبقي‭ ‬مستخدمًا‭ ‬حتى‭ ‬سقوط‭ ‬جمهورية‭ ‬البندقية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬ويعد‭ ‬أحد‭ ‬روائع‭ ‬المعماري‭ ‬جيوفاني‭ ‬إيريماتني‭. ‬في‭ ‬ساحتي‭ ‬القصر‭ ‬أكشاك‭ ‬الخضراوات‭ ‬والفاكهة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المقاهي‭ ‬والحانات‭. ‬وبداخل‭ ‬المبنى،‭ ‬في‭ ‬طابقه‭ ‬الأرضي،‭ ‬محال‭ ‬تبيع‭ ‬منتجات‭ ‬غذائية‭ ‬لذيذة‭ ‬متنوعة،‭ ‬من‭ ‬الزيوت‭ ‬والأعشاب‭ ‬وما‭ ‬شابه‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬الطابقِ‭ ‬العلوي‭ ‬فنجد‭ ‬قاعة‭ ‬المحكمة،‭ ‬وهي‭ ‬قاعة‭ ‬فسيحة‭ ‬طولها‭ ‬81‭ ‬مترًا‭ ‬وعرضها‭ ‬27‭ ‬مترًا،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يبلغ‭ ‬ارتفاعها‭ ‬27‭ ‬مترًا‭ ‬أيضًا‭. ‬يمكنك‭ ‬قضاء‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬هنا‭ ‬لتمتع‭ ‬ناظريك‭ ‬بالجداريات‭ ‬الجميلة‭ ‬ولوحاتها‭ ‬المتقنة‭. ‬تجولنا‭ ‬بين‭ ‬المحال‭ ‬ثم‭ ‬مضينا‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬شيئًا‭ ‬قليلًا،‭ ‬فوجدنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬بياتسا‭ ‬دي‭ ‬سينوري‭. ‬لم‭ ‬نقض‭ ‬فيه‭ ‬مزيد‭ ‬وقت،‭ ‬حيث‭ ‬اتجهنا‭ ‬إلى‭ ‬مقهى‭ ‬بيدروكي‭ ‬لنأخذ‭ ‬قسطًا‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ ‬في‭ ‬الحجرة‭ ‬الحمراء،‭ ‬حيث‭ ‬اخترنا‭ ‬مشروب‭ ‬القهوة‭ ‬الخاص‭ ‬بالمقهى،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬جرعة‭ ‬من‭ ‬القهوة‭ ‬الداكنة‭ ‬مغطاة‭ ‬بكريمة‭ ‬ممزوجة‭ ‬بنكهة‭ ‬النعناع،‭ ‬ومنثور‭ ‬فوقها‭ ‬زخات‭ ‬من‭ ‬بودرة‭ ‬الكاكاو‭. ‬مشروب‭ ‬رائق‭ ‬أعاد‭ ‬لنا‭ ‬التوازن‭ ‬بعد‭ ‬جولة‭ ‬ماتعة‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬الجامعة،‭ ‬وزاد‭ ‬من‭ ‬لذته‭ ‬امتزاج‭ ‬ارتشافه‭ ‬مع‭ ‬تناول‭ ‬قطعة‭ ‬كعك‭ ‬الليمون،‭ ‬المزين‭ ‬بشرائح‭ ‬من‭ ‬الفراولة‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء،‭ ‬أخذنا‭ ‬نقرأ‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬حول‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسة‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬اقتنيناه‭ ‬من‭ ‬محل‭ ‬بيع‭ ‬الكتب‭ ‬الملحق‭ ‬بالجامعة‭.‬

 

في‭ ‬بادوفا‭ ‬ضجة

وبينما‭ ‬نحن‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحال،‭ ‬إذ‭ ‬ترامت‭ ‬إلى‭ ‬آذاننا‭ ‬ضجة‭ ‬وجلبة‭ ‬أناس‭ ‬وصيحات‭ ‬ترتفع‭ ‬من‭ ‬مكبرات‭ ‬الصوت،‭ ‬فمضينا‭ ‬نحو‭ ‬مصدر‭ ‬الصوت،‭ ‬أحمل‭ ‬حقيبة‭ ‬الكاميرا‭ ‬متأبطًا‭ ‬كتاب‭ ‬تاريخ‭ ‬جامعة‭ ‬بادوفا،‭ ‬فإذا‭ ‬هي‭ ‬مسيرة‭ ‬نسوية‭ ‬تنادي‭ ‬بسقوط‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬المتوحش‭. ‬لكنها،‭ ‬يا‭ ‬للغرابة،‭ ‬منظمة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬تيار‭ ‬نسوي‭ ‬خاص‭ ‬بالسيدات‭ ‬المتحولات‭ ‬جنسيًا‭. ‬والحق‭ ‬أنّ‭ ‬الرجال‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬نصيب‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬المشاركة‭ ‬والتنظيم،‭ ‬أما‭ ‬الشرطة‭ ‬فقد‭ ‬أفسحت‭ ‬المجال‭ ‬للمسيرة‭ ‬للسير‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬مرسوم،‭ ‬بحيث‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬ساحة‭ ‬غاري‭ ‬باليدي،‭ ‬ثم‭ ‬تستمر‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬الشارع‭ ‬عند‭ ‬محطة‭ ‬القطارات،‭ ‬وتتخلل‭ ‬الطريق‭ ‬قنطرة‭ ‬القناة‭ ‬المائية‭ ‬التي‭ ‬تشق‭ ‬نواحي‭ ‬بادوفا‭. ‬سرنا‭ ‬مع‭ ‬السائرين‭ ‬إلى‭ ‬منتصف‭ ‬الشارع،‭ ‬لكننا‭ ‬انعطفنا‭ ‬عن‭ ‬خط‭ ‬السير‭ ‬واتجهنا‭ ‬يسارًا‭ ‬لنصب‭ ‬تذكاري‭ ‬تراءى‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬يقع‭ ‬بمحاذاة‭ ‬القنطرة‭ ‬القديمة‭. ‬شد‭ ‬انتباهنا‭ ‬شكله‭ ‬الحداثي‭ ‬وسط‭ ‬عتاقة‭ ‬المباني،‭ ‬فاقتربنا‭ ‬منه‭ ‬لنستكشف‭ ‬سره‭ ‬ومغزاه‭ ‬وما‭ ‬يرمز‭ ‬إليه‭. ‬أما‭ ‬النصب‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يخطر‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬أنه‭ ‬صمم‭ ‬إحياء‭ ‬لذكرى‭ ‬ضحايا‭ ‬الحادث‭ ‬الإرهابي،‭ ‬الذي‭ ‬ضرب‭ ‬برجي‭ ‬مركز‭ ‬التجارة‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬2001‭. ‬وهو‭ ‬النصب‭ ‬التذكاري‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬قارة‭ ‬أوربا،‭ ‬يقام‭ ‬لهذه‭ ‬المناسبة‭ ‬ويحمل‭ ‬اسم‭ ‬الذاكرة‭ ‬والنور،‭ ‬وقد‭ ‬جرى‭ ‬افتتاحه‭ ‬الرسمي‭ ‬في‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬2005‭. ‬ولئن‭ ‬تأمله‭ ‬الناظر‭ ‬قليلًا‭ ‬لأدرك‭ ‬وجه‭ ‬الشبه‭ ‬بين‭ ‬الواجهة‭ ‬الزجاجية‭ ‬للنصب‭ ‬والبرج‭ ‬العالمي‭ ‬الحقيقي‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يقترب‭ ‬إليه‭ ‬سيرى‭ ‬أنه‭ ‬يتخذ‭ ‬شكل‭ ‬كتاب‭ ‬مفتوح،‭ ‬غلافه‭ ‬الواجهة‭ ‬الزجاجية،‭ ‬بينما‭ ‬يسكن‭ ‬متنه‭ ‬الداخلي‭ ‬دعامة‭ ‬فولاذية‭ ‬طولها‭ ‬ستة‭ ‬أمتار،‭ ‬جلبت‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الدمار‭ ‬الذي‭ ‬خلفه‭ ‬انفجار‭ ‬البرج‭. ‬يرمز‭ ‬النصب،‭ ‬بهيئة‭ ‬الكتاب‭ ‬المفتوح‭ ‬وفضاءات‭ ‬الضوء‭ ‬المنتشرة‭ ‬بدقة،‭ ‬كما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬اسمه،‭ ‬إلى‭ ‬نور‭ ‬التسامح‭ ‬والحرية‭ ‬والعلم‭ ‬ضد‭ ‬ظلام‭ ‬الجهل‭ ‬والتطرف‭. ‬والحق،‭ ‬أننا‭ ‬شعرنا‭ ‬بشذوذ‭ ‬البناء‭ ‬عما‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬فضاء‭ ‬معماري‭ ‬وطبيعي‭ ‬مغرق‭ ‬في‭ ‬العتاقة،‭ ‬يجعلك‭ ‬تخال‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬ماض،‭ ‬مع‭ ‬اتفاقنا‭ ‬بالتأكيد‭ ‬مع‭ ‬نبل‭ ‬غاياته‭.‬

 

متحف‭ ‬إيمارتاني

عدنا‭ ‬أدراجنا‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬أتينا‭ ‬منه،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬جانبه‭ ‬الآخر‭ ‬باتجاه‭ ‬مركز‭ ‬المدينة‭. ‬فكان‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭ ‬حديقة‭ ‬غناء‭ ‬سرنا‭ ‬بمحاذاتها‭. ‬هنا‭ ‬تقع‭ ‬كنيسة‭ ‬سكروفيني‭ ‬ذات‭ ‬الجدارية‭ ‬الزرقاء‭ ‬البديعة‭. ‬أردنا‭ ‬إنهاء‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬بدخول‭ ‬هذه‭ ‬الكنيسة،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬مسورة،‭ ‬ومدخلها‭ ‬الوحيد‭ ‬يقع‭ ‬مع‭ ‬مدخل‭ ‬متحف‭ ‬إيمارتاني،‭ ‬اللصيق‭ ‬بدوره‭ ‬بدير‭ ‬إيمارتاني،‭ ‬الواقع‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الساحة‭ ‬الرومانية‭ ‬القديمة‭. ‬فقررنا‭ ‬دخول‭ ‬المتحف‭ ‬والكنيسة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬التذكرة‭ ‬كانت‭ ‬تتيح‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬الآثار‭ ‬وقسم‭ ‬الفن‭ ‬الوسيط‭ ‬وقسم‭ ‬الفن‭ ‬الحديث،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬قصر‭ ‬زركمان‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬المقابلة،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬كنيسة‭ ‬ساكروفيني‭.‬

المتحف‭ ‬كبير‭ ‬ويتكون‭ ‬من‭ ‬طابقين‭. ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضي،‭ ‬ترى‭ ‬الآثار‭ ‬الرومانية،‭ ‬من‭ ‬مزهريات‭ ‬وقوارير‭ ‬ولوحات‭ ‬فسيفسائية‭ ‬قديمة‭. ‬أما‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬فيحتوي‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تغطي‭ ‬الفترة‭ ‬التاريخية‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬وتتنوع‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬البورتريه‭ ‬إلى‭ ‬اللوحات‭ ‬الانطباعية،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬المنحوتات‭ ‬والتماثيل‭ ‬النصفية‭ ‬والجداريات‭ ‬الضخمة‭. ‬أما‭ ‬القاعات‭ ‬فبعضها‭ ‬واسع‭ ‬فسيح‭ ‬وبعضها‭ ‬الآخر‭ ‬متوسط‭ ‬إلى‭ ‬صغير‭ ‬الحجم‭.‬

للمتحف‭ ‬باحة‭ ‬تحيطها‭ ‬حجرات‭ ‬تزينها‭ ‬أروقة‭ ‬واسعة،‭ ‬وحديقة‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية،‭ ‬عبرنا‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬لنصل‭ ‬إلى‭ ‬الكنيسة‭ ‬الصغرى‭. ‬للدخول‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الكنيسة،‭ ‬يجب‭ ‬عليك‭ ‬انتظار‭ ‬بداية‭ ‬الجولة‭ ‬المدرجة‭ ‬في‭ ‬الجدول‭ ‬اليومي،‭ ‬وتبدأ‭ ‬الجولة‭ ‬بعرض‭ ‬فيلم‭ ‬وثائقي‭ ‬مدته‭ ‬15‭ ‬دقيقة،‭ ‬يحكي‭ ‬تاريخ‭ ‬المكان‭ ‬وقصة‭ ‬صاحبه،‭ ‬كما‭ ‬يبرز‭ ‬النواحي‭ ‬الجمالية‭ ‬لهذه‭ ‬الكنيسة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بالفعل‭ ‬تحفة‭ ‬فنية‭. ‬

 

سكروفيني‭... ‬التحفة‭ ‬الزرقاء

إنّ‭ ‬كنيسة‭ ‬سكروفيني‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬كنيسة‭ ‬صغيرة‭ ‬بنيت‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1303-1305‭ ‬كمعبد‭ ‬خاص‭ ‬لقصر‭ ‬فخم‭ ‬كان‭ ‬موجودًا‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬الغابر‭. ‬وهذا‭ ‬القصر‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬إنريكو‭ ‬سكروفيني‭ ‬ومنه‭ ‬استمدت‭ ‬الكنيسة‭ ‬اسمها،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬مظهرها‭ ‬الخارجي‭ ‬يشي‭ ‬بأي‭ ‬فرادة‭ ‬أو‭ ‬أهمية‭ ‬معمارية‭ ‬تذكر‭. ‬ولقد‭ ‬صار‭ ‬للكنيسة‭ ‬شهرتها‭ ‬الذائعة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬بسبب‭ ‬الجدارية‭ ‬الزرقاء‭ ‬الرائعة،‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬وزخرف‭ ‬تفاصيلها‭ ‬الفنان‭ ‬الإيطالي‭ ‬جيتو‭ ‬دي‭ ‬بندوني‭. ‬تجسد‭ ‬الجدارية‭ ‬قصة‭ ‬الخلاص،‭ ‬بحسب‭ ‬الاعتقاد‭ ‬المسيحي،‭ ‬وتتضمن‭ ‬لوحات‭ ‬عدة،‭ ‬منها‭ ‬لوحة‭ ‬اليوم‭ ‬الآخر‭. ‬لطالما‭ ‬كان‭ ‬اللون‭ ‬الأزرق‭ ‬محببا‭ ‬للكثيرين،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الجدارية‭ ‬ستجعلك‭ ‬تكتشف‭ ‬جماليات‭ ‬اللون‭ ‬الأزرق‭ ‬المطعم‭ ‬بالذهبي‭ ‬وأبعاده‭ ‬الروحانية‭.  

ها‭ ‬نحن‭ ‬ننهي‭ ‬تطوافنا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بادوفا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أفلت‭ ‬الشمس‭ ‬وجن‭ ‬الليل،‭ ‬بتناول‭ ‬عشائنا‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المطاعم‭ ‬هنا؛‭ ‬عشاء‭ ‬يعوض‭ ‬عن‭ ‬تجاهلنا‭ ‬لوجبة‭ ‬الغداء‭ ‬واكتفائنا‭ ‬بالكعك‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬بيدروكي‭. ‬كان‭ ‬العشاء‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬بيتزا‭ ‬تكسوها‭ ‬طبقات‭ ‬من‭ ‬الجبن‭ ‬المذاب،‭ ‬وفوقها‭ ‬شرائح‭ ‬من‭ ‬الجرجير‭ ‬والطماطم‭ ‬المجففة،‭ ‬أردناها‭ ‬صغيرة‭ ‬الحجم،‭ ‬لكن‭ ‬البيتزا‭ ‬تباع‭ ‬هنا‭ ‬بحجم‭ ‬واحد،‭ ‬رأيناه‭ ‬كبيرًا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ناس‭ ‬إيطاليا‭ ‬يعتبرونه‭ ‬وجبة‭ ‬فردية‭ ‬بامتياز‭. ‬

في‭ ‬الخارج،‭ ‬كانت‭ ‬الأضواء‭ ‬الصفراء‭ ‬منعكسة‭ ‬على‭ ‬الأزقة‭ ‬والميادين‭ ‬الحجرية‭. ‬وكانت‭ ‬الشرفات‭ ‬والشبابيك‭ ‬المزينة‭ ‬بأصيصات‭ ‬الورد‭ ‬مضاءة‭ ‬بإضاءة‭ ‬خفيفة‭. ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬رحنا‭ ‬نتمشى‭ ‬بين‭ ‬تفاصيل‭ ‬ألوانها،‭ ‬لتضاف‭ ‬وتبقى‭ ‬في‭ ‬مخزون‭ ‬الذاكرة‭. ‬

ياله‭ ‬من‭ ‬جمال‭! ‬فلم‭ ‬يخطئ‭ ‬وليام‭ ‬شكسبير‭ ‬حين‭ ‬وصف‭ ‬بادوفا‭ ‬بالبهية‭ ‬حاضنة‭ ‬الفنون‭ ‬والآداب‭ .