ركعتان ممّا على الشاعر
التفت الشعراء المعاصرون إلى قيمة العنونة، وما تمنحه لنصوصهم من حضور، فاتجهوا إلى العناية بالعنوان، سواء على مستوى النص الشعري المفرد، أو على مستوى مجموعة النصوص المنضوية تحت عنوان واحد؛ ليمثل العلامة الأكثر اقتصادًا في اللغة، والأوقع في القصد.
وفي شعر الشاعر السعيد عبدالكريم (من مواليد 1962 بمصر)، يتبدّى أثر تلك العلاقة التفاعلية بين العنوان والنص، ويبرع بشكل لافت في صياغة العتبة الأولى لنصوصه الشعرية؛ فيغدو العنوان ترجمانًا للنص في رؤاه المتوهجة، ووجهًا جماليًا له، وانتصارًا للوظيفة الإيحائية للعنوان.
مركز دلالي
وتتولّد من هذه البراعة في الصياغة، مسكوكات تعبيرية، تقود شغف التلقي إلى النص، كما تقود النص إلى تلك العتبة الأولى في مسيرة ممتدة من الدلالات المتبادلة. وليس في الأمر اعتسافًا، إذا أمكن اتخاذ العنوان - في هذه الحال - علامة مهمة في طريق قراءة النص، واستيعاب أبعاده، ولهذا يدعو اأندريه مارتنيهب فعل التلقي إلى الانتباه إلى العنوان بوصفه مركزًا دلاليًا، واسلطة تلقٍ ممكنة، ولتميّزه بأعلى اقتصاد لغوي ممكن، ولاكتنازه بعلاقات إحالة (مقصدية) حرة إلى العالم، وإلى النص، وإلى المرسلب (مبادئ ألسنية عامة، ترجمة ريمون رزق، ص 223).
وفي هذه السبيل، تتوافد عناوين دواوين السعيد عبدالكريم، بوصفها دوالًا، تعتمد السلاسة في التركيب، والإيحاء في المفردة، والوفرة في الدلالة، وهي حين تقدم الذات، تنفتح على سياق جمعي، فيه ذلك القدر المعتبر من القرب، والترقي الروحي، والكشف الصوفي، ومن هذه الدواوين:
- بوح المريد (2014).
- تجليات اختلاط الماء (2001).
- لا تمْر للعاصفة (2015).
- ركعتان مما عليّ (2016).
يتثاقف عنوان الديوان الأخير اركعتان مما عليّب (صدر عن منشورات الاتحاد المغربي للمبدعين، مطبعة فاس بريس)، مع مرجعيتين إحداهما ظاهرة، والأخرى داخلية مضمرة؛ فيستدعي - ظاهرًا - شعيرة دينية، يجب على المؤمن قضاؤها؛ لكنها حين تكون عنوانًا لقصيدة، ثم عنوانًا لديوان كامل، فإن الدلالات تأخذ مسارات أُخر، وبالتالي يتحقق العدول الأسلوبي أو الانزياح الدلالي، حين يميل بالدلالة الظاهرة إلى دلالة كنائية يلزم عنها الوجوب، والاستحقاق اللازم على المرء أن يؤديه في الحياة، وبهذا تنتقل الدلالة من الخصوص إلى العموم، والانزياح سبيل الشعرية ومنبعها المتدفق؛ ثم تشرع نافذة السؤال:
ما نوع فوائت الصلاة الواجبة على الشاعر؟ وكيف تبرأ الذمة بقضائها؟ وهل الشاعر وحده هو المطالب بقضاء الواجب؟
ركعات واجبة
التكوين اللفظي للعنوان اركعتان مما عليّب جملة غير تامة الأركان من حيث البناء النحوي، فيغيب المسند إليه، الذي يمكن تقديره بالاسم اهاتان، ووجودها هنا لا يعني شيئًا ذا بال، فهي مجرد إشارة أو لافتة تشير إلى ما بعدها. وقد تصدّر المسند المثنى اركعتانب، وهو أقل عدد لصلاة مفروضة، فهي أقل الواجب، ومع الملفوظ التالي امما عليّب تتنحى هذه القلة جانبًا، فالركعات الواجبة على الشاعر كثيرة، أكثر مما يدل عليه التلقي الأولي لكلمة اركعتانب، والتبعيض من دلالات الحرف امِنب المدغم في اماب الموصولة، ليس هذا فحسب؛ فإن إضافة التكلم إلى الجرّ اعليّب تجلب الذات الشاعرة إلى الواجهة، كما تجلب معها كل ذات تتلو العنوان، بوجوده التداوليّ الحي، مع الفرد المتدين، في آناء الليل وأطراف النهار.
لكن المرجعية الخارجية للعنوان - حتى الآن - لم تشف الغُلّة، في محاورة الأسئلة التي أشرعتها نافذة العنوان، وإن منحت التلقي إغراء تثاقفيًا لقراءة النص الشعري. وهو النص الثاني من الديوان الذي يضم خمسة وعشرين نصًا شعريًا، وقد قسمه الشاعر إلى قسمين بعنوانين فرعيين، هما: الركعة الأولى، والركعة الثانية، والتقسيم كأنه إشعار افتتاحي بأن هيكل النص يقف موازيًا لهيكل المعبد الذي تقام فيه الشعائر الدينية، وأن الأمر ليس فرديًا بحال، وإنما هو حاجة جمعية، تخص كل مصل أو كل من عليه واجب.
والركعة الأولى كاشفة عن ضرورة التخلص من ميراث القهر والاستبداد، والخروج من الوهم الذي عاش عليه، سنوات طوالًا، جيل الشاعر، وربما أجيال أخرى قبله وبعده. إن قضاء الفوائت الوطنية واجب مقدس، لا يسقط بالتقادم، ويعزز ذلك حشد بعض الملفوظات التي تحمل أبعادًا دينية وتاريخية، مثل: ردة - استشهد - آلهة - الوحي - نبي - الدين - الرب - أهل الله.
والنص لا يتثاقف أو يتناص مع الملفوظ الديني اركعتانب فحسب، بل يتثاقف مع ما يمثله من رمزية دينية في شمولها، ووجوب استحقاقها، ومن الاستحقاقات الواجبة على الأجيال تجاه الوطن، مراجعة الحقبة الناصرية، وما خلفته من إرث سياسي وفكري ووطني، بدا في النص شديد الوطأة، وصاحبها ارِدّةب كبرى ضد الحريات، وحقوق الإنسان.
الركعة الأولى تدفع بالجيل نحو التطهر من خطايا الخوف، والانبطاح، وتبرير الهزيمة، وعبادة الزعيم الأوحد، ورفض كل اصنوف الرِّدّةب، والإعلام المأجور الذي ايسرق فكر الواحد منّا والفطرةب، فلسنا شعوبًا تستعذب الدوران في ساقية النازيين واقيح اللادينيينب، وهكذا يتعمق خطاب الركعة الأولى:
كُنَّا في سَاقِيَةِ النَّازِيينَ نَدُورُ وَقَيْح اللَّادِينِيِّينَ
وَحَتَّى حِينَ أضَعْنَا الأحْلَامَ
وَحِينَ كُسِرْنَا
لِلنَّكْسَةِ بَرَّرْنَا
كَانَ الملْهَمُ مَقْطُوعًا عَنْهُ الوَحْيُ
لأنَّا شَعْبٌ هَمَجِيٌّ
لَا يَعْرِفُ مَعْنَى أنْ يُحْكَمَ فِي زَمَنٍ ضَالٍ
بِنَبِيٍّ
مَهْزُومٍ
لِيُعَلِّمَنَا الصَّبْرَ عَلَى البَلْوَى
***
لَا تَرْتَدِّي
فَأنَا وَلَدُ النَّكْسَةِ كَالعُودِ المكْسُورِ
رَحِيقِي مَعْصُورٌ
لَا تَرْتَدِّي
إنِّي أكْرَهُ كُلَّ صُنُوفِ الرِّدَّةِ إلَّا الرِّدَّةَ للعِشْقِ
فَضُمِّينِي
فَأنَا مِنْ جِيلٍ مَجْزُومٍ
وَسَيَلْعَنُنَا التَّارِيخُ غَدًا
وَسَتَلْعَنُنَا الأرْضُ
لِجُوعِ الأرْضِ
وَتَلْطِيخِ التَّارِيخِ بِكُلِّ أكَاذِيبِ الدَّجَّالِينَ
وَقَطْعِ رُؤُوسِ النَّخْلِ وَحَبْلِ اللهِ
وَنَحْنُ نُتَابِعُ أخْبَارَ الملْهَى وَالملْهَمِ والمخْتَارِ
تَعَلَّمْنَا أنْ نَسْمَعَ عَنْ صَنَمٍ وَاحِد
مِنْ بُوقٍ وَاحِد
كُنَّا شَعْبًا وَبِرَأْسٍ وَاحِد
قاسم مشترك
أما الركعة الثانية، فهي أيضا قاسم مشترك بين الشاعر وأبناء جيله، ثم مع أجيال جديدة لاحقة، وفيها تقام صلاة الحرية والحقيقة والأمل، كما تجلت في ثورات الربيع العربي، وعلى وجه الخصوص ما حدث بمصر في يناير (2011)، وهنا يحضر المكان (ميدان التحرير)، بوصفه أيقونة للتجليات الإنسانية، فيقدم الشاعر شهادته وشجونه معًا، لكنه مازال متلبثًا بأشواق الانعتاق من آثار الحقبة الستينية، بأوزارها الجاثمة على الربوع، ومازالت الحرية قيد الحلم.
ويلاحظ أن المساحة التي تشغلها سطور الركعة الثانية، أقل من نصف مساحة سطور الركعة الأولى، وكأنه انعكاس بارز الدلالة على انحسار الحرية وأنوار الحقيقة والأمل، أمام سطوة الماضي، والقيود وأرزائها وآلامها، ولهذا تحضر الكائنات قصيرة العمر لتشكل بعض صورها مثل العصفور الذي يخلع اريش جناحيه ويرهن حوصلةب، كما تحضر الرمزية من خلال مشهد السيدة التي ادمرها العشاقُ وعبد الناصرب، ثم يقول:
سَنُوَاصِلُ إعْدَادَ مَوَائِدِ فَرْحٍ لِلآتِينَ
وَيَغْسِلُ بِالماءِ عُيُونَكِ
عِشْقُ الفُقَرَاءِ
وَتَبْدَأُ ذَاكِرَةُ العَفْوِ الموْتَ بِحَضْرَةِ كُلِّ عَصَافِيرِ الثَّوْرَةِ
يَا رَائِعَةً كَوَلِيمَةِ ضَوْءٍ
عَلَّمَنِي عِشْقُكِ
مِنْ أوَّلِ فَجْرٍ للتَّارِيخِ حَاشَايَ بِأَنْ أهْدِمَ أوْ أظْلِمَ
مَنْ يَغْرِسُ حِزْمَةَ ضَوْءٍ
لَا يَدْخُلُ أرْضَ الظُّلْمَةِ
مَكْتُوبٌ فِي صَفْحَةِ قَلْبِي
مُذْ كُنَّا فِي التَّحْرِيرِ الأوَّلِ يَا سَيِّدَتِي
وَجَعَلْنَاكِ شُهُودًا
من زاوية أخرى، تنفتح الركعتان، ركعة مساءلة الاستبداد والزيف، وركعة التوق إلى الحرية والحقيقة، على عدد من نصوص الديوان في الدلالة والأداء، ويغلب على عناوينها القصر، فتجيء في كلمة واحدة، مثل اظمآنب، واعتابب، وامرثيةب، واوجدب، واالمشهدب، واالسلامب، واانسحابب، واحضارةب، واأسماءب، أو تأتي في كلمتين مضافتين، مثل اكفن الملحب، واوصل العارفب، واتصريح دفنب، واتهنئة العيدب، واقاهرتيب، واعرس الريحانب.
هذا الانفتاح الدلالي على نصوص الديوان، يقيم جسرًا تفاعليًا بين العنوان الرئيس للديوان، وما يضمه من نصوص، ويصل التفاعل إلى ذروته مع نص اوطن بديلب؛ فيبرز اميدان التحريرب المكان والرمز، كما برز في صلاة الركعة الثانية .