ركعتان ممّا على الشاعر

ركعتان ممّا على الشاعر

‭ ‬التفت‭ ‬الشعراء‭ ‬المعاصرون‭ ‬إلى‭ ‬قيمة‭ ‬العنونة،‭ ‬وما‭ ‬تمنحه‭ ‬لنصوصهم‭ ‬من‭ ‬حضور،‭ ‬فاتجهوا‭ ‬إلى‭ ‬العناية‭ ‬بالعنوان،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬المفرد،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬مجموعة‭ ‬النصوص‭ ‬المنضوية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬واحد؛‭ ‬ليمثل‭ ‬العلامة‭ ‬الأكثر‭ ‬اقتصادًا‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬والأوقع‭ ‬في‭ ‬القصد‭.‬

  ‬وفي‭ ‬شعر‭ ‬الشاعر‭ ‬السعيد‭ ‬عبدالكريم‭ (‬من‭ ‬مواليد‭ ‬1962‭ ‬بمصر‭)‬،‭ ‬يتبدّى‭ ‬أثر‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬التفاعلية‭ ‬بين‭ ‬العنوان‭ ‬والنص،‭ ‬ويبرع‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬العتبة‭ ‬الأولى‭ ‬لنصوصه‭ ‬الشعرية؛‭ ‬فيغدو‭ ‬العنوان‭ ‬ترجمانًا‭ ‬للنص‭ ‬في‭ ‬رؤاه‭ ‬المتوهجة،‭ ‬ووجهًا‭ ‬جماليًا‭ ‬له،‭ ‬وانتصارًا‭ ‬للوظيفة‭ ‬الإيحائية‭ ‬للعنوان‭.‬

 

‭ ‬مركز‭ ‬دلالي

‭ ‬وتتولّد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البراعة‭ ‬في‭ ‬الصياغة،‭ ‬مسكوكات‭ ‬تعبيرية،‭ ‬تقود‭ ‬شغف‭ ‬التلقي‭ ‬إلى‭ ‬النص،‭ ‬كما‭ ‬تقود‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬العتبة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬ممتدة‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭ ‬المتبادلة‭. ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬اعتسافًا،‭ ‬إذا‭ ‬أمكن‭ ‬اتخاذ‭ ‬العنوان‭ - ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ - ‬علامة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬قراءة‭ ‬النص،‭ ‬واستيعاب‭ ‬أبعاده،‭ ‬ولهذا‭ ‬يدعو‭ ‬اأندريه‭ ‬مارتنيهب‭ ‬فعل‭ ‬التلقي‭ ‬إلى‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬العنوان‭ ‬بوصفه‭ ‬مركزًا‭ ‬دلاليًا،‭ ‬واسلطة‭ ‬تلقٍ‭ ‬ممكنة،‭ ‬ولتميّزه‭ ‬بأعلى‭ ‬اقتصاد‭ ‬لغوي‭ ‬ممكن،‭ ‬ولاكتنازه‭ ‬بعلاقات‭ ‬إحالة‭ (‬مقصدية‭) ‬حرة‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬وإلى‭ ‬النص،‭ ‬وإلى‭ ‬المرسلب‭ (‬مبادئ‭ ‬ألسنية‭ ‬عامة،‭ ‬ترجمة‭ ‬ريمون‭ ‬رزق،‭ ‬ص‭ ‬223‭).‬

  ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬السبيل،‭ ‬تتوافد‭ ‬عناوين‭ ‬دواوين‭ ‬السعيد‭ ‬عبدالكريم،‭ ‬بوصفها‭ ‬دوالًا،‭ ‬تعتمد‭ ‬السلاسة‭ ‬في‭ ‬التركيب،‭ ‬والإيحاء‭ ‬في‭ ‬المفردة،‭ ‬والوفرة‭ ‬في‭ ‬الدلالة،‭ ‬وهي‭ ‬حين‭ ‬تقدم‭ ‬الذات،‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬سياق‭ ‬جمعي،‭ ‬فيه‭ ‬ذلك‭ ‬القدر‭ ‬المعتبر‭ ‬من‭ ‬القرب،‭ ‬والترقي‭ ‬الروحي،‭ ‬والكشف‭ ‬الصوفي،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الدواوين‭:‬

‭- ‬بوح‭ ‬المريد‭ (‬2014‭).‬

‭- ‬تجليات‭ ‬اختلاط‭ ‬الماء‭ (‬2001‭).‬

‭- ‬لا‭ ‬تمْر‭ ‬للعاصفة‭ (‬2015‭).‬

‭- ‬ركعتان‭ ‬مما‭ ‬عليّ‭ (‬2016‭).‬

  ‬يتثاقف‭ ‬عنوان‭ ‬الديوان‭ ‬الأخير‭ ‬اركعتان‭ ‬مما‭ ‬عليّب‭ (‬صدر‭ ‬عن‭ ‬منشورات‭ ‬الاتحاد‭ ‬المغربي‭ ‬للمبدعين،‭ ‬مطبعة‭ ‬فاس‭ ‬بريس‭)‬،‭ ‬مع‭ ‬مرجعيتين‭ ‬إحداهما‭ ‬ظاهرة،‭ ‬والأخرى‭ ‬داخلية‭ ‬مضمرة؛‭ ‬فيستدعي‭ - ‬ظاهرًا‭ - ‬شعيرة‭ ‬دينية،‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬المؤمن‭ ‬قضاؤها؛‭ ‬لكنها‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬عنوانًا‭ ‬لقصيدة،‭ ‬ثم‭ ‬عنوانًا‭ ‬لديوان‭ ‬كامل،‭ ‬فإن‭ ‬الدلالات‭ ‬تأخذ‭ ‬مسارات‭ ‬أُخر،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يتحقق‭ ‬العدول‭ ‬الأسلوبي‭ ‬أو‭ ‬الانزياح‭ ‬الدلالي،‭ ‬حين‭ ‬يميل‭ ‬بالدلالة‭ ‬الظاهرة‭ ‬إلى‭ ‬دلالة‭ ‬كنائية‭ ‬يلزم‭ ‬عنها‭ ‬الوجوب،‭ ‬والاستحقاق‭ ‬اللازم‭ ‬على‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يؤديه‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وبهذا‭ ‬تنتقل‭ ‬الدلالة‭ ‬من‭ ‬الخصوص‭ ‬إلى‭ ‬العموم،‭ ‬والانزياح‭ ‬سبيل‭ ‬الشعرية‭ ‬ومنبعها‭ ‬المتدفق؛‭ ‬ثم‭ ‬تشرع‭ ‬نافذة‭ ‬السؤال‭:‬

ما‭ ‬نوع‭ ‬فوائت‭ ‬الصلاة‭ ‬الواجبة‭ ‬على‭ ‬الشاعر؟‭ ‬وكيف‭ ‬تبرأ‭ ‬الذمة‭ ‬بقضائها؟‭ ‬وهل‭ ‬الشاعر‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬المطالب‭ ‬بقضاء‭ ‬الواجب؟‭ ‬

 

ركعات‭ ‬واجبة

  ‬التكوين‭ ‬اللفظي‭ ‬للعنوان‭ ‬اركعتان‭ ‬مما‭ ‬عليّب‭ ‬جملة‭ ‬غير‭ ‬تامة‭ ‬الأركان‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬البناء‭ ‬النحوي،‭ ‬فيغيب‭ ‬المسند‭ ‬إليه،‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬تقديره‭ ‬بالاسم‭ ‬اهاتان،‭ ‬ووجودها‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬شيئًا‭ ‬ذا‭ ‬بال،‭ ‬فهي‭ ‬مجرد‭ ‬إشارة‭ ‬أو‭ ‬لافتة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعدها‭. ‬وقد‭ ‬تصدّر‭ ‬المسند‭ ‬المثنى‭ ‬اركعتانب،‭ ‬وهو‭ ‬أقل‭ ‬عدد‭ ‬لصلاة‭ ‬مفروضة،‭ ‬فهي‭ ‬أقل‭ ‬الواجب،‭ ‬ومع‭ ‬الملفوظ‭ ‬التالي‭ ‬امما‭ ‬عليّب‭ ‬تتنحى‭ ‬هذه‭ ‬القلة‭ ‬جانبًا،‭ ‬فالركعات‭ ‬الواجبة‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬كثيرة،‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يدل‭ ‬عليه‭ ‬التلقي‭ ‬الأولي‭ ‬لكلمة‭ ‬اركعتانب،‭ ‬والتبعيض‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬الحرف‭ ‬امِنب‭ ‬المدغم‭ ‬في‭ ‬اماب‭ ‬الموصولة،‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب؛‭ ‬فإن‭ ‬إضافة‭ ‬التكلم‭ ‬إلى‭ ‬الجرّ‭ ‬اعليّب‭ ‬تجلب‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة،‭ ‬كما‭ ‬تجلب‭ ‬معها‭ ‬كل‭ ‬ذات‭ ‬تتلو‭ ‬العنوان،‭ ‬بوجوده‭ ‬التداوليّ‭ ‬الحي،‭ ‬مع‭ ‬الفرد‭ ‬المتدين،‭ ‬في‭ ‬آناء‭ ‬الليل‭ ‬وأطراف‭ ‬النهار‭.‬

  ‬لكن‭ ‬المرجعية‭ ‬الخارجية‭ ‬للعنوان‭ - ‬حتى‭ ‬الآن‭ - ‬لم‭ ‬تشف‭ ‬الغُلّة،‭ ‬في‭ ‬محاورة‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬أشرعتها‭ ‬نافذة‭ ‬العنوان،‭ ‬وإن‭ ‬منحت‭ ‬التلقي‭ ‬إغراء‭ ‬تثاقفيًا‭ ‬لقراءة‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭. ‬وهو‭ ‬النص‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الديوان‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬خمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬نصًا‭ ‬شعريًا،‭ ‬وقد‭ ‬قسمه‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭ ‬بعنوانين‭ ‬فرعيين،‭ ‬هما‭: ‬الركعة‭ ‬الأولى،‭ ‬والركعة‭ ‬الثانية،‭ ‬والتقسيم‭ ‬كأنه‭ ‬إشعار‭ ‬افتتاحي‭ ‬بأن‭ ‬هيكل‭ ‬النص‭ ‬يقف‭ ‬موازيًا‭ ‬لهيكل‭ ‬المعبد‭ ‬الذي‭ ‬تقام‭ ‬فيه‭ ‬الشعائر‭ ‬الدينية،‭ ‬وأن‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬فرديًا‭ ‬بحال،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬حاجة‭ ‬جمعية،‭ ‬تخص‭ ‬كل‭ ‬مصل‭ ‬أو‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عليه‭ ‬واجب‭.‬

  ‬والركعة‭ ‬الأولى‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬ميراث‭ ‬القهر‭ ‬والاستبداد،‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬الوهم‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬عليه،‭ ‬سنوات‭ ‬طوالًا،‭ ‬جيل‭ ‬الشاعر،‭ ‬وربما‭ ‬أجيال‭ ‬أخرى‭ ‬قبله‭ ‬وبعده‭. ‬إن‭ ‬قضاء‭ ‬الفوائت‭ ‬الوطنية‭ ‬واجب‭ ‬مقدس،‭ ‬لا‭ ‬يسقط‭ ‬بالتقادم،‭ ‬ويعزز‭ ‬ذلك‭ ‬حشد‭ ‬بعض‭ ‬الملفوظات‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬أبعادًا‭ ‬دينية‭ ‬وتاريخية،‭ ‬مثل‭: ‬ردة‭ - ‬استشهد‭ - ‬آلهة‭ - ‬الوحي‭ - ‬نبي‭ - ‬الدين‭ - ‬الرب‭ - ‬أهل‭ ‬الله‭.‬

  ‬والنص‭ ‬لا‭ ‬يتثاقف‭ ‬أو‭ ‬يتناص‭ ‬مع‭ ‬الملفوظ‭ ‬الديني‭ ‬اركعتانب‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يتثاقف‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يمثله‭ ‬من‭ ‬رمزية‭ ‬دينية‭ ‬في‭ ‬شمولها،‭ ‬ووجوب‭ ‬استحقاقها،‭ ‬ومن‭ ‬الاستحقاقات‭ ‬الواجبة‭ ‬على‭ ‬الأجيال‭ ‬تجاه‭ ‬الوطن،‭ ‬مراجعة‭ ‬الحقبة‭ ‬الناصرية،‭ ‬وما‭ ‬خلفته‭ ‬من‭ ‬إرث‭ ‬سياسي‭ ‬وفكري‭ ‬ووطني،‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬شديد‭ ‬الوطأة،‭ ‬وصاحبها‭ ‬ارِدّةب‭ ‬كبرى‭ ‬ضد‭ ‬الحريات،‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭.‬

  ‬الركعة‭ ‬الأولى‭ ‬تدفع‭ ‬بالجيل‭ ‬نحو‭ ‬التطهر‭ ‬من‭ ‬خطايا‭ ‬الخوف،‭ ‬والانبطاح،‭ ‬وتبرير‭ ‬الهزيمة،‭ ‬وعبادة‭ ‬الزعيم‭ ‬الأوحد،‭ ‬ورفض‭ ‬كل‭ ‬اصنوف‭ ‬الرِّدّةب،‭ ‬والإعلام‭ ‬المأجور‭ ‬الذي‭ ‬ايسرق‭ ‬فكر‭ ‬الواحد‭ ‬منّا‭ ‬والفطرةب،‭ ‬فلسنا‭ ‬شعوبًا‭ ‬تستعذب‭ ‬الدوران‭ ‬في‭ ‬ساقية‭ ‬النازيين‭ ‬واقيح‭ ‬اللادينيينب،‭ ‬وهكذا‭ ‬يتعمق‭ ‬خطاب‭ ‬الركعة‭ ‬الأولى‭:‬

كُنَّا‭ ‬في‭ ‬سَاقِيَةِ‭ ‬النَّازِيينَ‭ ‬نَدُورُ‭ ‬وَقَيْح‭ ‬اللَّادِينِيِّينَ‭ ‬

وَحَتَّى‭ ‬حِينَ‭ ‬أضَعْنَا‭ ‬الأحْلَامَ

‭ ‬وَحِينَ‭ ‬كُسِرْنَا

لِلنَّكْسَةِ‭ ‬بَرَّرْنَا

‭ ‬كَانَ‭ ‬الملْهَمُ‭ ‬مَقْطُوعًا‭ ‬عَنْهُ‭ ‬الوَحْيُ

لأنَّا‭ ‬شَعْبٌ‭ ‬هَمَجِيٌّ

لَا‭ ‬يَعْرِفُ‭ ‬مَعْنَى‭ ‬أنْ‭ ‬يُحْكَمَ‭ ‬فِي‭ ‬زَمَنٍ‭ ‬ضَالٍ

بِنَبِيٍّ

مَهْزُومٍ

لِيُعَلِّمَنَا‭ ‬الصَّبْرَ‭ ‬عَلَى‭ ‬البَلْوَى

    ‬***

لَا‭ ‬تَرْتَدِّي

فَأنَا‭ ‬وَلَدُ‭ ‬النَّكْسَةِ‭ ‬كَالعُودِ‭ ‬المكْسُورِ

‭ ‬رَحِيقِي‭ ‬مَعْصُورٌ

لَا‭ ‬تَرْتَدِّي

إنِّي‭ ‬أكْرَهُ‭ ‬كُلَّ‭ ‬صُنُوفِ‭ ‬الرِّدَّةِ‭ ‬إلَّا‭ ‬الرِّدَّةَ‭ ‬للعِشْقِ

فَضُمِّينِي

فَأنَا‭ ‬مِنْ‭ ‬جِيلٍ‭ ‬مَجْزُومٍ

وَسَيَلْعَنُنَا‭ ‬التَّارِيخُ‭ ‬غَدًا

‭ ‬وَسَتَلْعَنُنَا‭ ‬الأرْضُ

لِجُوعِ‭ ‬الأرْضِ‭ ‬

وَتَلْطِيخِ‭ ‬التَّارِيخِ‭ ‬بِكُلِّ‭ ‬أكَاذِيبِ‭ ‬الدَّجَّالِينَ

وَقَطْعِ‭ ‬رُؤُوسِ‭ ‬النَّخْلِ‭ ‬وَحَبْلِ‭ ‬اللهِ

وَنَحْنُ‭ ‬نُتَابِعُ‭ ‬أخْبَارَ‭ ‬الملْهَى‭ ‬وَالملْهَمِ‭ ‬والمخْتَارِ

تَعَلَّمْنَا‭ ‬أنْ‭ ‬نَسْمَعَ‭ ‬عَنْ‭ ‬صَنَمٍ‭ ‬وَاحِد

مِنْ‭ ‬بُوقٍ‭ ‬وَاحِد

كُنَّا‭ ‬شَعْبًا‭ ‬وَبِرَأْسٍ‭ ‬وَاحِد

 

  ‬قاسم‭ ‬مشترك

أما‭ ‬الركعة‭ ‬الثانية،‭ ‬فهي‭ ‬أيضا‭ ‬قاسم‭ ‬مشترك‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬وأبناء‭ ‬جيله،‭ ‬ثم‭ ‬مع‭ ‬أجيال‭ ‬جديدة‭ ‬لاحقة،‭ ‬وفيها‭ ‬تقام‭ ‬صلاة‭ ‬الحرية‭ ‬والحقيقة‭ ‬والأمل،‭ ‬كما‭ ‬تجلت‭ ‬في‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بمصر‭ ‬في‭ ‬يناير‭ (‬2011‭)‬،‭ ‬وهنا‭ ‬يحضر‭ ‬المكان‭ (‬ميدان‭ ‬التحرير‭)‬،‭ ‬بوصفه‭ ‬أيقونة‭ ‬للتجليات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬فيقدم‭ ‬الشاعر‭ ‬شهادته‭ ‬وشجونه‭ ‬معًا،‭ ‬لكنه‭ ‬مازال‭ ‬متلبثًا‭ ‬بأشواق‭ ‬الانعتاق‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الحقبة‭ ‬الستينية،‭ ‬بأوزارها‭ ‬الجاثمة‭ ‬على‭ ‬الربوع،‭ ‬ومازالت‭ ‬الحرية‭ ‬قيد‭ ‬الحلم‭.‬

  ‬ويلاحظ‭ ‬أن‭ ‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬تشغلها‭ ‬سطور‭ ‬الركعة‭ ‬الثانية،‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬مساحة‭ ‬سطور‭ ‬الركعة‭ ‬الأولى،‭ ‬وكأنه‭ ‬انعكاس‭ ‬بارز‭ ‬الدلالة‭ ‬على‭ ‬انحسار‭ ‬الحرية‭ ‬وأنوار‭ ‬الحقيقة‭ ‬والأمل،‭ ‬أمام‭ ‬سطوة‭ ‬الماضي،‭ ‬والقيود‭ ‬وأرزائها‭ ‬وآلامها،‭ ‬ولهذا‭ ‬تحضر‭ ‬الكائنات‭ ‬قصيرة‭ ‬العمر‭ ‬لتشكل‭ ‬بعض‭ ‬صورها‭ ‬مثل‭ ‬العصفور‭ ‬الذي‭ ‬يخلع‭ ‬اريش‭ ‬جناحيه‭ ‬ويرهن‭ ‬حوصلةب،‭ ‬كما‭ ‬تحضر‭ ‬الرمزية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشهد‭ ‬السيدة‭ ‬التي‭ ‬ادمرها‭ ‬العشاقُ‭ ‬وعبد‭ ‬الناصرب،‭ ‬ثم‭ ‬يقول‭:‬

سَنُوَاصِلُ‭ ‬إعْدَادَ‭ ‬مَوَائِدِ‭ ‬فَرْحٍ‭ ‬لِلآتِينَ

وَيَغْسِلُ‭ ‬بِالماءِ‭ ‬عُيُونَكِ‭ ‬

عِشْقُ‭ ‬الفُقَرَاءِ

وَتَبْدَأُ‭ ‬ذَاكِرَةُ‭ ‬العَفْوِ‭ ‬الموْتَ‭ ‬بِحَضْرَةِ‭ ‬كُلِّ‭ ‬عَصَافِيرِ‭ ‬الثَّوْرَةِ

يَا‭ ‬رَائِعَةً‭ ‬كَوَلِيمَةِ‭ ‬ضَوْءٍ

عَلَّمَنِي‭ ‬عِشْقُكِ

مِنْ‭ ‬أوَّلِ‭ ‬فَجْرٍ‭ ‬للتَّارِيخِ‭ ‬حَاشَايَ‭ ‬بِأَنْ‭ ‬أهْدِمَ‭ ‬أوْ‭ ‬أظْلِمَ

مَنْ‭ ‬يَغْرِسُ‭ ‬حِزْمَةَ‭ ‬ضَوْءٍ

لَا‭ ‬يَدْخُلُ‭ ‬أرْضَ‭ ‬الظُّلْمَةِ

مَكْتُوبٌ‭ ‬فِي‭ ‬صَفْحَةِ‭ ‬قَلْبِي

مُذْ‭ ‬كُنَّا‭ ‬فِي‭ ‬التَّحْرِيرِ‭ ‬الأوَّلِ‭ ‬يَا‭ ‬سَيِّدَتِي

وَجَعَلْنَاكِ‭ ‬شُهُودًا

  ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى،‭ ‬تنفتح‭ ‬الركعتان،‭ ‬ركعة‭ ‬مساءلة‭ ‬الاستبداد‭ ‬والزيف،‭ ‬وركعة‭ ‬التوق‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬والحقيقة،‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬الديوان‭ ‬في‭ ‬الدلالة‭ ‬والأداء،‭ ‬ويغلب‭ ‬على‭ ‬عناوينها‭ ‬القصر،‭ ‬فتجيء‭ ‬في‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة،‭ ‬مثل‭ ‬اظمآنب،‭ ‬واعتابب،‭ ‬وامرثيةب،‭ ‬واوجدب،‭ ‬واالمشهدب،‭ ‬واالسلامب،‭ ‬واانسحابب،‭ ‬واحضارةب،‭ ‬واأسماءب،‭ ‬أو‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬كلمتين‭ ‬مضافتين،‭ ‬مثل‭ ‬اكفن‭ ‬الملحب،‭ ‬واوصل‭ ‬العارفب،‭ ‬واتصريح‭ ‬دفنب،‭ ‬واتهنئة‭ ‬العيدب،‭ ‬واقاهرتيب،‭ ‬واعرس‭ ‬الريحانب‭.‬

  ‬هذا‭ ‬الانفتاح‭ ‬الدلالي‭ ‬على‭ ‬نصوص‭ ‬الديوان،‭ ‬يقيم‭ ‬جسرًا‭ ‬تفاعليًا‭ ‬بين‭ ‬العنوان‭ ‬الرئيس‭ ‬للديوان،‭ ‬وما‭ ‬يضمه‭ ‬من‭ ‬نصوص،‭ ‬ويصل‭ ‬التفاعل‭ ‬إلى‭ ‬ذروته‭ ‬مع‭ ‬نص‭ ‬اوطن‭ ‬بديلب؛‭ ‬فيبرز‭ ‬اميدان‭ ‬التحريرب‭ ‬المكان‭ ‬والرمز،‭ ‬كما‭ ‬برز‭ ‬في‭ ‬صلاة‭ ‬الركعة‭ ‬الثانية‭ .