مهنتي بطلة

سألت‭ ‬المعلمة‭ ‬التلاميذ‭: ‬ماذا‭ ‬تريدون‭ ‬أن‭ ‬تصبحوا‭ ‬في‭ ‬المستقبل؟

فأجابت‭ ‬الصغيرة‭ ‬سليمة‭ ‬ذات‭ ‬الأعوام‭ ‬التسعة‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬بطلة‭! ‬

قالت‭ ‬المعلمة‭: ‬بطلة‭ ‬ليست‭ ‬مهنة‭ ‬يا‭ ‬صغيرتي‭. ‬

عادت‭ ‬سليمة‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬حزينة،‭ ‬وحكت‭ ‬لأمها‭ ‬ردّ‭ ‬معلمتها‭ ‬في‭ ‬الفصل،‭ ‬وقالت‭ ‬بعناد‭: ‬أنا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬بطلة‭ ‬عندما‭ ‬أكبر،‭ ‬ابتسمت‭ ‬والدتها‭ ‬بحنان‭ ‬لهذا‭ ‬الإصرار‭ ‬البريء‭ ‬بينما‭ ‬سليمة‭ ‬تنظر‭ ‬لإخوتها‭ ‬الذين‭ ‬يستعدون‭ ‬للذهاب‭ ‬للنادي‭ ‬لممارسة‭ ‬رياضة‭ ‬الجودو‭. ‬

قالت‭ ‬سليمة‭ ‬لإخوتها‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬معكم‭ ‬للتمرّن‭ ‬على‭ ‬رياضة‭ ‬الجودو‭. 

أجابوها‭: ‬أنت‭ ‬فتاة‭ ‬ولن‭ ‬تستطيعي‭ ‬ممارسة‭ ‬هذه‭ ‬الرياضة،‭ ‬وأقرب‭ ‬قاعة‭ ‬رياضية‭ ‬تبعد‭ ‬عن‭ ‬المنزل‭ ‬بحوالي‭ ‬عشرة‭ ‬كيلومترات،‭ ‬وكل‭ ‬مَن‭ ‬يرتادها‭ ‬من‭ ‬الفِتيان‭.‬

قاطعت‭ ‬والدتهم‭ ‬حديثهم‭ ‬قائلة‭: ‬هذه‭ ‬الرياضة‭ ‬يا‭ ‬أبنائي‭ ‬هي‭ ‬رياضة‭ ‬العائلة‭ ‬فأنتم‭ ‬جميعًا‭ ‬تمارسونها،‭ ‬سوف‭ ‬تذهب‭ ‬سليمة‭ ‬للتمرّن‭ ‬معكم‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬فصاعدًا‭.‬

كانت‭ ‬سليمة‭ ‬فتاة‭ ‬وحيدة‭ ‬بين‭ ‬خمسة‭ ‬فتيان،‭ ‬ودائمًا‭ ‬ما‭ ‬تساءلت‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬نفسها‭: ‬لماذا‭ ‬لديهم‭ ‬مزايا‭ ‬عنها،‭ ‬كالخروج‭ ‬من‭ ‬المنزل،‭ ‬واللعب‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت،‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬مكان،‭ ‬والقيام‭ ‬بأمور‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬بها؟‭ ‬فقط‭ ‬لأنها‭ ‬فتاة؟‭! ‬كانت‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تحدٍّ‭ ‬دائم‭ ‬لتثبت‭ ‬لإخوتها‭ ‬أنها‭ ‬قوية‭ ‬مثلهم‭ ‬ولا‭ ‬فرق‭ ‬بينها‭ ‬وبينهم،‭ ‬فكانت‭ ‬تلعب‭ ‬ألعابهم‭ ‬وتمارس‭ ‬شقاوتهم،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬ذات‭ ‬مرّة‭ ‬قصّت‭ ‬شعرها‭ ‬الجميل‭ ‬ليصبح‭ ‬مثل‭ ‬شعر‭ ‬الصبيان،‭ ‬وأسمَت‭ ‬نفسها‭ (‬سليم‭)‬،‭ ‬معتقدة‭ ‬أنها‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬تزيل‭ ‬الفوارق‭ ‬بينها‭ ‬وبينهم‭. ‬

ورغم‭ ‬بُعد‭ ‬قاعة‭ ‬الرياضة‭ ‬عن‭ ‬البيت‭ ‬بعشرة‭ ‬كيلومترات،‭ ‬وضعف‭ ‬الإمكانيات‭ ‬المادية‭ ‬لعائلة‭ ‬سليمة‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬حرصت‭ ‬على‭ ‬الالتزام‭ ‬بمواعيد‭ ‬التدريب‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تذهب‭ ‬إليه‭ ‬مشيًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭.‬

أحبّت‭ ‬سليمة‭ ‬رياضة‭ ‬الجودو‭ ‬وتعلّقت‭ ‬بها‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وبينما‭ ‬انسحب‭ ‬إخوتها‭ ‬واحدًا‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬هذه‭ ‬الرياضة‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت،‭ ‬ظلّت‭ ‬هي‭ ‬متشبثة‭ ‬بحلمها،‭ ‬لأن‭ ‬الجودو‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬التفوّق‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬وسيلة‭ ‬لإثبات‭ ‬الذات،‭ ‬وكان‭ ‬كذلك‭ ‬وسيلة‭ ‬للسفر‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬الجزائرية‭ ‬التي‭ ‬تُقام‭ ‬فيها‭ ‬المباريات‭. ‬

وعبر‭ ‬السفر،‭ ‬تعرّفت‭ ‬سليمة‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬جديد‭ ‬خارج‭ ‬الحيّ‭ ‬الشعبي‭ ‬الذي‭ ‬تقطن‭ ‬به،‭ ‬وكوّنت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الصداقات،‭ ‬واكتشفت‭ ‬ملامح‭ ‬جديدة‭ ‬لوطنها‭ ‬الجزائر‭ ‬عبر‭ ‬زيارة‭ ‬المدن‭ ‬الجزائرية،‭ ‬والتعرّف‭ ‬على‭ ‬عاداتها‭ ‬ولهجاتها‭ ‬المتنوعة‭.‬

تفوّقت‭ ‬سليمة‭ ‬في‭ ‬الجودو،‭ ‬وكانت‭ ‬تهزم‭ ‬الفِتية‭ ‬في‭ ‬التدريبات‭ ‬لبنيَتها‭ ‬القوية‭ ‬وحركاتها‭ ‬الرشيقة‭ ‬والذكية‭. ‬وقد‭ ‬لفتت‭ ‬انتباه‭ ‬مدرّبيها‭ ‬واحترامهم،‭ ‬كذلك‭ ‬بدأت‭ ‬تحظى‭ ‬بشعبية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬حيِّها‭ ‬وبين‭ ‬صديقاتها‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهن‭ ‬الفتاة‭ ‬الخارقة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بحمايتهن‭ ‬والدفاع‭ ‬عنهن،‭ ‬ويحسب‭ ‬لها‭ ‬الصبيان‭ ‬والشباب‭ ‬ألف‭ ‬حساب‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬سنة‭ ‬1986‭ ‬جاء‭ ‬اليوم‭ ‬المشهود‭ ‬عندما‭ ‬فازت‭ ‬سليمة‭ ‬بأوّل‭ ‬ميدالية‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬البطولة‭ ‬الوطنية‭ ‬للجودو‭ ‬في‭ ‬فئة‭ ‬الأشبال،‭ ‬ثم‭ ‬توالت‭ ‬الميداليات،‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1990‭ ‬التحقت‭ ‬بالفريق‭ ‬الوطني‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬التحاقها‭ ‬سهلاً‭.‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬دورة‭ ‬دولية‭ ‬مهمة‭ ‬لرياضة‭ ‬الجودو‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬أن‭ ‬تنتظم‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ (‬بجاية‭) ‬الجزائرية‭. ‬ولأن‭ ‬هذه‭ ‬الدورة‭ ‬كانت‭ ‬تخصّ‭ ‬فتيات‭ ‬أكبر‭ ‬سنًا،‭ ‬وبسبب‭ ‬غياب‭ ‬سليمة‭ ‬المتكرر‭ ‬عن‭ ‬التدريب‭ ‬لظروف‭ ‬دراستها،‭ ‬فقد‭ ‬قرّر‭ ‬مدربها‭ ‬منعها‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬مع‭ ‬الفريق‭ ‬ومن‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدورة‭ ‬الدولية‭.‬

وكان‭ ‬أن‭ ‬عادت‭ ‬الى‭ ‬المنزل‭ ‬حزينة‭ ‬ومحبطة،‭ ‬وروت‭ ‬لوالدتها‭ ‬رفض‭ ‬المدرب‭ ‬مشاركتها‭ ‬في‭ ‬الدورة،‭ ‬فأعطتها‭ ‬والدتها‭ ‬مبلغًا‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬كان‭ ‬مخصصًا‭ ‬للمصاريف‭ ‬الشهرية‭ ‬للأسرة،‭ ‬وقالت‭ ‬لها‭: ‬حلّقي‭ ‬نحو‭ ‬حلمك‭. 

سافرت‭ ‬سليمة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ (‬بجاية‭) ‬حيث‭ ‬تعقد‭ ‬الدورة‭ ‬الدولية‭ ‬لرياضة‭ ‬الجودو،‭ ‬ووجدها‭ ‬مدرّبها‭ ‬أمامه‭ ‬فأُعجب‭ ‬بإصرارها‭ ‬وشغفها،‭ ‬وتركها‭ ‬تشارك‭ ‬في‭ ‬المنافسات،‭ ‬فتفوّقت‭ ‬وتألّقت‭ ‬ونالت‭ ‬إعجاب‭ ‬المسؤولين‭ ‬الذين‭ ‬تساءلوا‭: ‬من‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬النهائي،‭ ‬وتُوّجت‭ ‬بالميدالية‭ ‬الفضية‭ ‬ضد‭ ‬منافستها‭ ‬الإسبانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بطلة‭ ‬أوربا‭ ‬آنذاك؟‭! ‬وهكذا‭ ‬بدأت‭ ‬سليمة‭ ‬مسارها‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬البطولات‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تتعدّى‭ ‬سنّ‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭.‬

‭ ‬وفجأة‭ ‬تغيّرت‭ ‬ظروف‭ ‬الجزائر‭ ‬في‭ ‬التسعينيات‭ ‬بتأثير‭ ‬من‭ ‬الإرهاب‭ ‬الذي‭ ‬استمر‭ ‬لعشر‭ ‬سنوات‭ ‬كاملة،‭ ‬مهدّدًا‭ ‬لحياة‭ ‬الناس،‭ ‬ومقيّدًا‭ ‬لكل‭ ‬أشكال‭ ‬النشاط‭ ‬في‭ ‬وطنها‭.‬

في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الخطير‭ ‬اعترض‭ ‬والداها‭ ‬على‭ ‬استمرارها‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬رياضة‭ ‬الجودو‭ ‬خوفًا‭ ‬عليها،‭ ‬وقد‭ ‬تلقّت‭ ‬الأسرة‭ ‬صدمة‭ ‬كبيرة‭ ‬عندما‭ ‬طالت‭ ‬يد‭ ‬الإرهاب‭ ‬الدامية‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬أشقّاء‭ ‬سليمة،‭ ‬لكنها‭ ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬قررت‭ ‬مواصلة‭ ‬مشوارها‭ ‬الرياضي‭ ‬ولم‭ ‬تستسلم‭ ‬أو‭ ‬تخضع‭ ‬للظروف‭ ‬العصيبة‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬البلاد،‭ ‬ونجحت‭ ‬سليمة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منارة‭ ‬أمل‭ ‬ومصدر‭ ‬فخر‭ ‬وفرح‭ ‬وطني‭ ‬بإنجازاتها‭ ‬وبطولاتها‭ ‬أثناء‭ ‬عزلة‭ ‬الجزائر‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬الصعبة‭.‬

‭ ‬ومرّت‭ ‬السنوات‭ ‬وتوالت‭ ‬التتويجات‭ ‬والتكريمات‭ ‬والألقاب‭ ‬وعشرات‭ ‬الميداليات‭ ‬التي‭ ‬حصدتها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬أفريقيا‭ ‬والعالم‭.‬

هكذا‭ ‬حققت‭ ‬سليمة‭ ‬الفتاة‭ ‬الصغيرة‭ ‬حلمها‭ ‬وأصبحت‭ ‬بطلة،‭ ‬ورفعت‭ ‬راية‭ ‬الجزائر‭ ‬عاليًا‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬الدولية،‭ ‬وكانت‭ ‬خير‭ ‬سفيرة‭ ‬للرياضة‭ ‬الجزائرية،‭ ‬ورائدة‭ ‬من‭ ‬رائدات‭ ‬الرياضة‭ ‬النسائية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭.‬

‭ ‬ولم‭ ‬تتوقف‭ ‬سليمة‭ ‬سواكري‭ ‬لحظة‭ ‬عن‭ ‬العطاء‭ ‬وحب‭ ‬الخير‭ ‬للآخرين‭ ‬مؤمنة‭ ‬بأن‭ ‬الإرادة‭ ‬تصنع‭ ‬البطولات،‭ ‬ومازال‭ ‬نضالها‭ ‬مستمرًا‭ ‬خارج‭ ‬بساط‭ ‬الجودو‭ ‬الأحمر‭ ‬نظرًا‭ ‬لتوَّليها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المناصب‭ ‬والمسؤوليات‭ ‬في‭ ‬وطنها‭ ‬الجزائر‭.‬

رسوم‭: ‬موفق‭ ‬فرزات