كرة القدم هل تؤثر في السياسة والوطنية؟
كرة القدم... الساحرة المستديرة... معشوقة الجماهير، إنها اللعبة الشعبية الأولى في العالم، بالقطع يُنظَر إليها على أنها سيدة الألعاب الرياضية، لكن يُنظَر إليها أيضًا - خصوصًا مع العولمة - على أنها اقتصاد عابر للحدود والقوميات، لاسيما في زمن الاحتراف.
لكنّ التطور المهم هو دخول كرة القدم ميدان الدراسات التاريخية والسياسية والأنثروبولوجية؛ حيث بدأت هذه الدراسات في كشف النقاب عن الأبعاد السياسية لكرة القدم منذ نشأتها حتى الآن.
تعود بدايات لعبة كرة القدم إلى القرن التاسع عشر، ودور امبراطورية بريطانيا العظمى - التي لا تغيب عنها الشمس - في نشر اللعبة بالمستعمرات البريطانية كافة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة، وقد يبدو ساذجًا، لماذا نشأت لعبة كرة القدم أساسًا في بريطانيا؟
كما يبدو السؤال ساذجًا، ربما تأتي الإجابة السريعة على القدر نفسه من التلقائية: «إنها مجرد لعبة نشأت لتسلية الجماهير»، بالقطع هناك قدر لا بأس به من الحقيقة في هذه الإجابة، لكن هذه الإجابة ينبغي ألّا تحجب عنا الأبعاد الأخرى لظاهرة نشأة كرة القدم.
تشير العديد من الدراسات إلى أهمية مبادئ العصر الفيكتوري البريطاني في انتشار الرياضة عامةً وكرة القدم على وجه الخصوص، كانت النظرة آنذاك أن المشاركة في الرياضة يمكن أن تُسهِم في تطوير الأخلاق المسيحية، وكان يُعتَقَد أن مبادئ الفرق الرياضية يمكن أن تُسهِم في «تنمية الرجل المثالي للمسيحية القوية».
بدأ تطبيق هذه المبادئ أولًا على مستوى المدارس؛ حيث انتشرت كرة القدم انتشارًا سريعًا، ويشير مؤرخو التاريخ الاقتصادي البريطاني في القرن التاسع عشر إلى ظاهرة مهمة في هذا الصدد، إذ ازداد القلق مع تطور الثورة الصناعية في بريطانيا من تفشّي ظاهرة عمل الأطفال، حيث لعبت المصانع دورًا في جذب الأطفال، مما اعتُبِر تعديًا على طفولتهم، وعُدّ في الوقت نفسه بابًا خلفيًّا للتسرب من التعليم والمدارس، لذلك قرر البرلمان الإنجليزي في ذلك الوقت تطبيق التعليم الإلزامي للأطفال. كما تم التوسع في لعبة كرة القدم بالمدارس، في محاولةٍ لجذب هؤلاء الأطفال إلى التعليم، وعدم تسرّبهم من المدارس، حتى أصبحت ممارسة كرة القدم من الأمور الإلزامية بها، ونُظّمَت المسابقات المحلية لها.
ومن المدارس انتقلت رياضة كرة القدم بالتبعية إلى الجامعات البريطانية؛ حيث أصبحت هي والرجبي من الرياضات المفضلة في الجامعات البريطانية الفيكتورية الكبرى، وأُجريَت المسابقات القومية بين هذه الجامعات، وكانت جامعة كامبريدج تأتي في المقدمة.
اللعبة الشعبية الأولى
مع انتهاء دراسة هؤلاء في المدارس والجامعات التحق بعضهم بالجيش البريطاني، وهكذا انتقلت اللعبة إلى داخل صفوف الجيش، وتم التشجيع على ممارسة الرياضة بشكلٍ عام، وكرة القدم على وجه الخصوص، كلعبة جماعية تساعد على تقوية الصحة البدنية وتنمية الروح الرياضية، فضلًا عن التدريب على العمل الجماعي، وأصبحت كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى داخل الجيش البريطاني، ودفع ذلك إلى إنشاء مكتب خاص في الجيش للتخطيط لبطولات «الساحرة المستديرة».
من ناحية أخرى، أدت الثورة الصناعية إلى توحُّش الرأسمالية، وبالتالي ظهور نضال الطبقة العاملة في محاولة لتهذيب هذه الرأسمالية، والكفاح من أجل حقوق العمال. ومن هنا لجأت الرأسمالية البريطانية إلى لعبة كرة القدم لمواجهة تذمّر العمال وظاهرة الإضرابات العمالية. ويشرح ميشيل فوكو جيدًا كيف استُخدِمَت اللعبة الجماعية وسيلة لإخضاع «الجسم المنفلت» وتحوّله إلى «جسم منضبط»؛ إذ خفضت المصانع ساعات العمل يوم السبت إلى نصف يوم، على أن يمارس العمال كرة القدم في النصف الآخر من اليوم بالملاعب الملحقة بمصانعهم، وهكذا ظهرت الأندية العمالية التي ستلعب دورًا مهمًا في تاريخ كرة القدم، مثل فريق مصنع ولتش أرسنال للأسلحة، وهو أقدم نادٍ مهنيّ في العالم، وما زال يلعب حتى الآن باسم مانشستر يونايتد، وسيتم تنظيم دوري المصانع، وستنتشر هذه الظاهرة في شتى أنحاء المعمورة.
أداة قومية
مع حركة الاستعمار، انتقلت لعبة كرة القدم على يد الجيش الإنجليزي إلى العديد من المستعمرات البريطانية في آسيا وإفريقيا.
ومع نهايات القرن التاسع عشر، بدأت أندية محلية لكرة القدم في نيوزيلندا وفي آسيا؛ في الهند وسنغافورة وهونج كونج، وفي إفريقيا في مصر والسودان وزنجبار، وأخذ انتشار كرة القدم المسار الإنجليزي نفسه الذي تحدثنا عنه من قبل؛ إما عن طريق المدارس، أو حتى بين الجنود المحليين الذين التحقوا بالخدمة في الجيش المحلي أو في الجيش الإنجليزي، أو حتى الأندية العمالية.
ولعل نادي السكة الحديد في مصر خير دليل على ذلك، كما يقول كريستوفر فيرارو، في دراسته المهمة عن «الإمبريالية والهوية الثقافية وكرة القدم... كيف أنشأت الإمبراطورية البريطانية الرياضة الوطنية المصرية؟».
ومن المثير للانتباه أن لعبة كرة القدم، التي دخلت إلى هذه البلاد على يد المستعمر، ستتحول إلى أداة قومية لمقاومة هذا المستعمر، وإثبات أن أهل المستعمرات ليسوا أدنى من المستعمر. وفي هذا الصدد يشير البعض إلى أن كرة القدم قد انتقلت من البريطانيين إلى السكان المحليين في خلال أقل من 30 عامًا، ولكن بعد ذلك أصبحت هذه اللعبة، وكأنها خاصة بالسكان الأصليين؛ حيث تطورت بقوة، وأصبحت هناك قدرة على الفوز على أندية المستعمر، وكثيرًا ما نظر السكان المحليون إلى هذه اللحظة على أنها لحظة انتصار قومي، أو لحظة من لحظات العمر.
لحظة مهمة
تعتبر تجربة كرة القدم في الهند من أهم الأمثلة على ذلك؛ إذ دخلت هذه الرياضة على يد الاستعمار البريطاني عام 1889، لكن سرعان ما تفوّق الهنود على مستعمريهم. ويعتبر عام 1911 من اللحظات المهمة في تاريخ نمو الوعي القومي الهندي، إذ فاز فريق موهين باجان الهندي على فريق شرق يوركشاير التابع للجيش البريطاني، وحصل على درع اتحاد الهند لكرة القدم، وكانت هذه المباراة مدعومة بالنزعة القومية، إذ حضرها حوالي مئة ألف متفرج، وفي صبيحة اليوم التالي على هذا الانتصار كتبت صحيفة بنجال - وهي واحدة من أشهر الصحف الهندية آنذاك - «يجب أن يملأ كل هندي الفخر والفرح، ويجب أن نعرف أن آكلي الأرز ومرضى الملاريا البنجاليين (الهنود) حققوا نصرًا مميزًا على الرياضة الإنجليزية، فقد كانوا أفضل من آكلي اللحوم الهيراكليين مرتدي حذاء جون بيل، (تقصد البريطانيين)».
ولبيان أهمية هذا اليوم في التاريخ، يذكر المؤرخون الهنود أن هذا اليوم اعتُبِرَ عيدًا قوميًّا وإجازة عبر سنوات عديدة، وكان هذا الفوز الكبير مصاحبًا لدعوة البرلمان الهندي إلى الاستقلال عن بريطانيا العظمى، وأنه بعد سنوات قليلة سيعود الزعيم الهندي الشهير غاندي إلى الهند من جنوب إفريقيا لبدء حركته السلمية لمقاومة الاستعمار الإنجليزي.
وفي مصر لعبت كرة القدم دورًا مهمًّا في نمو الوعي القومي وحركة الاستقلال، ومثل غيرها من بلدان آسيا وإفريقيا، دخلت كرة القدم إلى مصر بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882، هذا الاحتلال الذي قمع الحركة الوطنية التي عُرفَت بالثورة العرابية.
نمو الوعي القومي
مع مطلع القرن العشرين عادت الحركة الوطنية من جديد على يد الزعيم مصطفى كامل، وترددت عبارته الشهيرة «لو لم أكن مصريًا لوددتُ أن أكون مصريًّا»، ومع ذلك النداء كانت الرياضة، خاصةً كرة القدم، من أهم ميادين نمو الوعي القومي في مصر آنذاك، وكان تأسيس النادي الأهلي الشهير عام 1907 خير تعبير عن ذلك؛ إذ لم يأتِ الاسم «الأهلي» عفوًا، وإنّما كان ردًّا على نشأة الأندية الأجنبية أو المختلطة في مصر، وكانت الحركة الشبابية وراء إنشاء النادي، إذ كان تعبيرًا عن نادي طلاب المدارس العليا المرتبط بالحزب الوطني - حزب مصطفى كامل - ولم يكن مصادفة أن يصبح النادي الأهلي بعد ذلك هو أكبر الأندية المصرية حتى الآن.
ومع ثورة 1919 علا تيار الحركة الوطنية المصرية بقوة، لتبدأ مرحلة جديدة من «التمصير»، والمراد بها تأسيس مؤسسات مصرية عصرية تؤكد أحقية مصر المستقلة في العيش بكرامة، مثلها مثل بقية الأمم الحرّة. وعلى هذا تم تأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم عام 1921 مصاحبًا لنشأة بنك مصر عام 1920، وتأسيس المملكة المصرية عام 1922، وفي الفترة نفسها تقريبًا يتمكن نادي الزمالك المصري من هزيمة نادي الجيش البريطاني في مصر لأول مرة، حتى وصف البعض هذا الانتصار قائلًا: «إن الانتصار على فرق الجيش البريطاني، وذهاب المصريين للعب في الخارج، والدستور الجديد (دستور 1923) كلها أمور تشير إلى بلدٍ وصلت فيه الحماسة القومية إلى نقطة بالغة».
نموذج آخر
هكذا كانت ذروة مجد الكرة المصرية، في الوقت نفسه، فترات قوة الدولة المصرية، والعكس صحيح، ولعل خير دليل على ذلك تدهور أحوال الكرة المصرية مع هزيمة يونيو 1967، إذ توقّف النشاط الرياضي وفي مقدمته كرة القدم بعد يونيو 1967، ولم تعد الحياة إلى الكرة المصرية من جديد إلا بعد حرب 6 أكتوبر 1973، واستعادة كرامة الأمة.
وتقدّم فرنسا نموذجًا آخر لكرة القدم ونمو الروح القومية، حيث تصاعدت فيها منذ التسعينيات روح العنصرية واليمين المتطرف، وازداد الحديث عن العداء للأجانب والملونين والعرب.
لكن كرة القدم لعبت دورًا مهمًا في مواجهة العنصرية واليمين المتطرف؛ إذ جاءت أفضل نتائج كروية في تاريخ فرنسا عام 1998، حيث حصلت على كأس العالم للمرة الأولى، وكأس أوربا عام 2000، وكأس القارات عام 2001، حيث تَنَدّر اليسار الفرنسي على دعاوى اليمين المتطرف، مشيرًا إلى حالة الفريق القومي الفرنسي، إذ إن أكثر من نصف لاعبيه من أصول غير فرنسية، مشيرًا إلى أن المهاجرين هم دماء جديدة في عروق الأمة الفرنسية. وكان اللاعب الفرنسي الشهير زين الدين زيدان المتحدر من أصول عربية خير دليل ذلك، هذا اللاعب الذي تحوّل إلى رمز معاصر للأمة الفرنسية.
إنها الساحرة المستديرة... معشوقة الجماهير، صناعة كبرى واقتصاد عالمي، لكنها أيضًا تاريخ وسياسة ■