المجتمعات الإسلامية في مواجهة الغرب عبدالسلام رضوان

المجتمعات الإسلامية في مواجهة الغرب

الفصام الثقافي
المؤلف: داريوش شايجان

فازت الطبعة الأولى من هذا الكتاب والمنشورة بالفرنسية بجائزة جوتييه عام 1989 التي تمنح لأفضل دراسة أكاديمية. وهو يتناول القضية اكثر إثارة للجدل في الساحة الثقافية للعالم الإسلامي والمتمثلة في العلاقة بين ثقافة هذا العالم وتأثير الحضارة والحداثة الغربية عليه.

  • لقد فات على مفكري النهضة الإسلاميين أن الحقوق الفردية والحريات كانت نتائج لنموذج مغاير وزرعها في عالمنا غير ممكن إلا بتوفير مناخ موات
  • القاسم المشترك لأغلب المثقفين العرب هو رفض إقامة حكومة دينية لمعارضتها التحولات الجوهرية للعصر الحديث.

المنطلق الأساسي لمؤلف هذا الكتاب هو أن الحضارات غير الغربية تعيش زمنا معلقا يقع بين نموذجن حضاريين: نموذجها الخاص والنموذج الذي نشأ عن الثورات العلمية بداية من عصر النهضة في الغرب (أو مايسميه فوكو " المعرفة الجديدة" ). ومن ثم يعيش فرد العالم الثالث- والعالم الإسلامي- حالة من التصادم بين النموذجن تعكس الصراع بين الحداثة والتراث، وينوء الأفق الثقافي لعالمه اليومي بحالة من الفصام يراوح داخلها مساره الروحي الخاص.

ففي أحد الجانبين هناك التغيير، والقفزة النوعية، والتحويل الجيني للبنية الحيوية للكائنات، وهناك على الجانب الآخر الاستعصاء السوسيولوجي والجمود "التقاليدي" والتصلب وأيديولوجيات الخلاف. يرسم المؤلف، من خلال استعراضه لأمثلة مستقاة من مواقع مختلفة داخل العالم الإسلامي المعاصر - من إيران إلى المغرب - صورة لمجتمع يعرفه بأنه مجتمع "هامشي" مكبل من ناحية بقيود الأمجاد الغابرة ويواجه من ناحية أخرى واقعا خارجيا مستقى من الغرب. ويؤدي هذا "التقابل" بين العالمين المتعارضين إلى تشوه عميق، لا في الكيفية التي ينظر بها العالم الإسلامي إلى الغرب فحسب، بل - وهو الأكثر أهمية - في الكيفية التي يرى بها نفسه هو.

ومن خلال الاستعانة بشواهد مستقاة من سلسلة واسعة من التجارب الثقافية من الصين واليابان إلى الهند وأمريكا اللاتينية) يحلل شايجان نمط "العقلية" المكبلة بقيود تاريخها، ويستعين المؤلف في تحليله بتنوع واسع من المصادر يشمل من بين مايشمل يونج وبرنارد لويس وميشيل فوكو وفيليب كاردينال وأكتافيوباث وتوفاس كون ومحمد أركون وحامد عنايت وغيرهم.

نمط العقلية الفصامية

يبدأ المؤلف رحلة تشخيصه لنمط "العقلية" الفصامية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة بمقولة إن تأثير الغرب والحداثة "الغربية" أدى إلى ظهور مراكز مقاومة متعددة في العالم الإسلامي المعاصر، في إحدى هذه الاستجابات تمثلت في النكوص إلى الميثولوجيا القديمة أملا في أن تحل على نحو إعجازي كل ألوك المعاناة الأخلاقية والتفاوت الاجتماعي التي أصابت المجتمعات الإسلامية، في حين تمثلت استجابة أخرى في "Fuite en awant" مجازفات محفوفة بالخطر بصورة متزايدة، وتمثلت استجابة ثالثة في الرفض القاطع لقبول التحديات التي يفرضها العصر الجديد، وكل من هذه الطرائق الجامحة في الاستجابة لتأثيرات الغرب إنما تعبر - في رأي المؤلف - عن وجه مختلف للظاهرة نفسها، وهي كلها - وأيا كان اختلافها الظاهري - أعراض للمرض نفسه المستأصل، ذلك المرض الذي ينجم عن عدم الفهم، أو عدم التمثل، لظاهرة تاريخية كبرى هي الحداثة بمعناها الأوسع. فهذه الظاهرة لم تواجه من حيث ماهي عليه موضوعيا، ومن زاوية محتواها الفلسفي، بل ووجهت دائما من زواية تأثيرها "الصدمي" على تقاليدنا، وطرائق حياتنا وتفكيرنا. ونتيجة لذلك اصطبغت مواقفنا تجاه الحداثة منذ بواكير احتكاكنا بها، بصبغة أخلاقية: إما الانبهار، كما حدث عندما اكتشف العالم الإسلامي في بدايات اتصاله بالقوة المادية لنصف الكرة الغربي، ولدهشته الكبرى، إلى حد تخلف عن الركب وأي هوة ضخمة تفصله عن أوربا، أو الكراهية، كما حدث عندما حاول عالم المجتمعات الإسلامية الرازح في التخلف، فيما بعد، من خلال النأي بنفسه بعيدا عن التأثير الأوربي، أن يعيد إحياء أكثر أخيلته الميثولوجية تشوشا. لقد جاء رد الفعل الأول - أي الانبهار - مفتقرا إلى الحماسة في حين اتسم رد الفعل الثاني باللغة الهستيرية للرفض الاستحواذي، وفي كلتا الحالتين لم ينظر إلى نموذج الحداثة القادم من الغرب أبدا على أنه "نموذج" جديد يطرح "انقطاعا" مع صورة الماضي ويمتلك قوانينه الخاصة ومنطق سيطرته الخاص، بل نظر إليه فحسب على أنه مؤامرة من قوى مستترة تستخدم قوتها المادية لكي تستولي علينا وتهز أسسنا من أعماقها وتفسق أخلاقياتنا وتفسد فضائلنا وتختزلنا بالتدريج إلى حالة من العبودية السياسية والثقافية.

صحيح أن مفكري عصر النهضة الإسلاميين الأوائل تميزوا بتوجيه اهتمام خاص للنظم القضائية والسياسية للغرب وجذبتهم بقوة فكرة الحقوق الفردية والحريات، ومع ذلك فقد فاتهم شيء أساسي - وهو مافات أيضا على كثير من خلفائهم في العصر الحالي - هو أن هذه الأفكار الأساسية، التي اعجبوا كثيرا بصفاتها، لم تكن بمثابة نتائج معجزة وقعت حديثا بل مثلت المحصلة النهائية لعملية تاريخية استثنائية، بل يمكن القول إنها نتائج لتغير في "النموذج"، ولم يكن في الإمكان إعادة زرعها في عالمنا نحن بدون عملية عزل وتهميش للقيم التقليدية التي نلتصق بها بشدة والتي تحتل كل ركن في فضاء حياتنا.

وفضلا عن ذلك فقد أفسحت هذه الأفكار، الثورية على كثر من صعيد، الطريق أمام طبقات أخرى من الواقع وأنشأت علاقات اجتماعية أخرى أغلبها لم يكن موجودا في عالمنا التقليدي المغلق. وذلك لأن هذه الأشكال من الواقع الاجتماعي وجد أنها- في إطار منظورنا في الطابع الغيبي الكلي الذي تطرحه رؤيتنا للعالم- إما غائبة أو ظن أنها ناتجة عن التصادف المادي للأشياء. ولو عدنا إلى روح اللغة العربية فإننا نجد أن جاك بيرك كان مصيبا تماما عندما لاحظ أن "بنيتها مصممة لإخفاء الواقع لا لفهمه" إن التوتر بين الكشف عن مناطق جديدة من الواقع والاندفاع "النكوصي" نحو إستبعادها أو لفظها من مجال المعرفة كان من المحتم أن يخلق انشقاقات في الوعي: فبالرغم من أن الأشياء كانت تتغير خارجيا فإن الإسقاطات الذهنية ظلت تعمل وفقا للنمط القديم من تصورنا للعالم. فكيف كان يمكن للناس إذن أن تعيش بهذه التصدعات الداخلية؟ إن تلك - سواء شئنا أم أبينا - هي المشكلة المستعصية التي لا تزال تشكل أساس كل التشوهات الذهنية التي تعصف بعالمنا.

أعراض الفصام الثقافي

من هذا المدخل إلى المشكلة يستعرض المؤلف الأعراض التفصيلية للفصام الثقافي من خلال تجربة الفرد اليومية في مجتمعات العالم الإسلامي في جوانبها المختلفة، بدعا من الألية الفصامية لعملية التعليم بتقديم نصوص مقرراتها المستمدة من الغرب وتداعي طرائق الاستيعاب والتمثل وغياب الرؤية مرورا بالتناقض بين تسارع التطور التكنولوجي الحامي الوطيس وسلبية الرؤية لدى من يعلمون هذا الفرد التفكير، ومن غياب الواقع العيني خلف رؤية ضبابية للتاريخ وللتطور تمسك بتلابيب الذهن الفردي إلى نظم للحكم تبني من منجزات التقدم التكنولوجي والخطاب الديمقراطي والقومي جهاز دولة هو اكثر قمعا بين نظرائه في العالم.

الأساس الفكري والعلمي

ويتساءل المؤلف في الفصل الرابع من الكتاب: لماذا دأبت مجتمعات عالمنا الإسلامي منذ بدايات للنهضة على فصل المحتوى التقني للمنجزات التكنولوجية للغرب عن الفكر العلمي الذي أبدعها، متلقفة التقنية نابذة الأساس الفكري والعلمي الذي أبدعها؟

هل هو التوق إلى هوية ثقافيه مميزة، أم هو الخوف من التأثير المربك للأساليب " الخطرة" للتفكير؟. يرى المؤلف أن هذا الموقف "المحرف" لم يتغير في عصرنا وأنه يمثل في الأساس نهجا ملتبسا يعكس طابعه المرائي ولغته المزدوجة شخصيتنا المنقسمة: سواء في ازدرائنا لعليم نعتبره "ماديا" لكننا لا نستطيع الاستغناء عنه أو في رضائنا عن تراث محتضر تجاوزه الزمن بصورة متزايدة السفور وسط عالم متسارع التغير. إن هذه الطريقة في السير حتى منتصف الطريق إنما هي نتاج لوضع لا يتم فيه البت في أي شيء من خلال النقد، وحيث يترك كل شيء معلقا في جو مضبب من المعاني الضمنية والتطلعات المقنعة والحسرات المكتومة، ودون أن نعي حتى بالتناقضات الكامنة في موقفنا، نحاول أن نصبح وفي وقت معا حديثين وقدامى، ديمقراطيين وسلطويين، "متعلمنين" ومتدينين مسابقين للزمن ومتخلفين وراءه. وربما كان ذلك شيئا ممكنا وقابلا للتحقق لو أننا سلمنا بالحاجة إلى إقامة نوع من التوافق والفصل، حتى ولو خارجيا، من بين أسلوبين للحياة يولد تعارضهما تناقضات على كل المستويات. واليابانيون مثال شائع على ذلك: فالبيئة العاملة وأسلوب الحياة الحديث اكتسبا الطابع الغربي في حين ظلت الحيلة الأسرية والتقاليد الخاصة تقليدية، ولم تشل تلك البنية المجزأة الأنشطة العادية للناس بل حمتها من الاضطرابات العنيفة.

لكن العقلية السائدة في مجتمعات العالم الإسلامي شيء مختلف فهي تريد أن تحكم كل شيء وتدير المجتمع وتسوس العقول وتجعلها "غير منفذة" للتيارات الجارفة للتغير التكنولوجي، بل وأن تجعلها "مقاومة" لروح البحث والابتكار، ومن خلال كبح تقدمنا الثقافي تجرنا هذه النزعة إلى ظلامية جديدة تمثل بذاتها إهانة لحسنا المشترك وتسد أمامنا طريق التقدم.

فما هو موقف المثقفين في مجتمعات العالم الإسلامى إزاء هذا الخطر؟

يشير المؤلف، من خلال تعليقه على كتاب حديث يتضمن رؤية أربعة وعشرين من الكتاب والشعراء والمفكرين من بلدان عربية مختلفة لقضايا العالم الإسلامى، إلى أن القاسم المشترك بين أغلب مثقفي هذا العالم هو رفض إقامة حكومة إسلامية من منطلق أن المعارضة المتصلبة لهذه الحكومة للتحولات الجوهرية. للعصر الحديث لن تؤدي إلا إلى الإخفاق، وأنها ما أن تسيطر على مقدرات النشاط الاجتماعي حتى تتحول إلى أيديولوجية قمعية واستبدادية.

مفهوم التنوير والديمقراطية

ويتناول المؤلف بالتفصيل، في هذا الصدد كتابات هؤلاء المثقفين الناقدة لمنطلقات الأصولية الإسلامية مثل: حسين أمين، لويس عوض، كاتب ياسين، عبد الوهاب ميديب، أحمد بهاء الدين، رشيد بوجدرة، وغيرهم، ثم ينتقل إلى أوكتافيوباث في حديثه عن مفهوم التنوير والديمقراطية في مواجهة التصلب العقائدي، ذاهبا بل أن مقولة أوكتافيو باث (إن الديمقراطية ليست مجرد بنية فوقية بل هي أساس الحضارة الحديثة وإن الافتقار إلى تيار نقدي وفكري حديث هو سبب جوهري لإخفاق التجربة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية) تنطبق أكثر على تجربة العالم الإسلامي المعاصر. فغياب هذا التيار النقدي والفكري الحديث يؤدي إلى استخدام لغة مزدوجة، ويقودنا إلى شرك من التشوهات الفكرية وينسج حول عقولنا شبكة من الأكاذيب نظل نتسلق خيوطها بحماس غافل دون أن نكابد خبرة تعلم استخدام العقل. إن الإضفاء "الآلي" للطابع الإسلامي على مفاهيم علمانية مثل الديمقراطية والاشتراكية والليبرالية يسفر عن أمزجة مهجنة من التصورات، وكوكتيلات متفجرة تملأ العقول بالخلط بدلا من أن تساعدها على حل المشكلات. وهنا يكمن فشل "النهضة"، تماما كما يكمن فشل "الثورة" (أي حقبة الثورة التي بدأت في الخمسمينيات). فأناس النهضة الخاضعون لاستثمار الغرب، لم يدركوا أبدا أن وراء قوة الغرب تكمن رؤية متغيرة للعالم، وأن بين المجتمعات الإسلامية والحداثة فجوة عميقة لن يصبح فى الإمكان عبورها بالرجوع إلى قيم الأسلاف أو بإصلاحات مستمدة من أقوال الفقهاء الأصوليين، وإنما يتطلب الأمر تغيير "النسق" الفكري وتأسيس منظور جديد ونظام جديد للقيم. فمشكلة مجتمعات العالم الإسلامي المعاصر - في رأي المؤلف - إنما تكمن في نزوعه السلفي وفي دعواه أنه يملك أجوبة جاهزة لكل أسئلة العالم. هذه المجتمعات بحاجة إلى أن تتعلم بعض التواضع وبعض الفهم لنسبية القيم فإنجازاتها الحضارية الكبيرة في الماضي لا تعنى أن العالم يبدأ وينتهي بها، وعلينا أن نتذكر أن عالم الإسلام كان في فترة من التاريخ بارزا ومتفوقا لأنه استطاع أن يتمثل أكثر العناصر تنوعا في عصر نشوئه وازدهاره وأن يذيبها معا في بوتقة من تركيب مدهش. ولنتذكر أيضا التأثير الكبير في فترة التطور المبكر للعالم الإسلامي للعناصر الإغريقية والهندية والفارسية، ولثقافات الشعوب الأخرى التي دخل الإسلام بلادها.

المعاصرة والأصالة

يقدم المؤلف في الفصول التالية من الكتاب نقدا تحليليا مفصلا لظواهر القصور في الثقافة الفصامية للمجتمعات الإسلامية المعاصرة. فيتناول نظرة هذه الثقافة إلى التاريخ، وتصلب الطرائق المدرسية في التفكير، وموقع تغير "النموذج" من الفكر السائد حول المعاصرة والأصالة، والصراع بين "نموذجي" النظرة إلى العالم (الحداثي الغربي والتقليدي الإسلامي)، وتخلف وعي العالم الثالث ( والعالم الإسلامي) والتشوهات الفكرية التي تسم العلاقة بين صورته عن ذاته والواقع المعاصر للعالم، وآلية الصراع بين العنصرين المكونين للمعرفة في المجتمعات الإسلامية "النموذج" الحداثي الغربي و"النموذج" التقليدي الإسلامي حول تشكيل نظرتنا إلى الواقع المعاصر، وموقعنا داخل عمليات تغيره المتسارعة ثم يتطرق في القسم الأخير من الكتاب إلى الأسس الاجتماعية للتشوهات الفكرية التي تعاني منها ثقافة المجتمعات الإسلامية، محللا موقع المثقفين من هذه الأزمة ودورهم في تجاوزها وألوان القصور التي تشوب جهودهم من أجل تحقيق هذا التجاوز، والعلاقة بين النزوع العلماني الحداثي والأيديولوجيات التي سادت مجتمعات العالم الإسلامي.

 

عبدالسلام رضوان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب