النظرة الأدبية المعاصرة

المؤلف: رامان سلدن
ترجمة: د. جابر عصفور

إن الترجمة هي تأليف غير مباشر، بمعنى أن المترجم يريد بالترجمة تحريك الحياة الأدبية والثقافية للمجتمع العربي، وهذا يعني - أيضا - أن اختيارات المترجم تكشف عن رؤيته للواقع الثقافي، وطبيعة الدور الذي يريد أن يؤديه، وتفصح عن موقفه من كثير من الأسئلة والهموم المطروحة في الواقع الثقافي العربي. وهذا الكتاب - النظرية الأدبية المعاصرة - يكشف عن موقف المترجم من التيارات والنظريات الأدبية المعاصرة، الذي يدور حول تقديم هذه النظريات، من أجل فهمها، ومن ثم تحديد موقف منها بعد ذلك، فلا يتأتى للذات العربية أن تحدد موقفا من (الآخر) ونتاجه الثقافي، قبل أن تتفهمه، هذا بالإضافة إلى أن النظريات الأدبية المعاصرة، رغم اختلافاتها، تتيح أدوات جديدة في تحليل وتقصي النص الأدبي على نحو يساهم في كشف الأغوار العميقة به، صحيح أن المترجم قد أشار في أكثر من مكان - من كتاباته العديدة - إلى خلافه المعرفي أو المنهجي أو الإجرائي مع بعض النظريات الأدبية المعاصرة، إلا أن دراساته تبين استفادته من هذه النظريات، وعقله النقدي يقوم بتمثل هذه النظريات ثم إعادة صياغتها بشكل يسمح باستخدامها كأدوات إجرائية في تحليل النص الأدبي الذي ينتمي لثقافة ولغة مغايرتين وهذا واضح في كتابه: "المرايا المتجاورة: دراسة في فكر طه حسين" حيث استفاد من أدوات التحليل التي تقدمها البنيوية إلى جانب ما تقدمه النظريات الفلسفية والأدبية المعاصرة. ويأتي هذا الكتاب الذي يترجمه جابر عصفور في سياق خطة تهدف إلى تعريف القارئ والمثقف العربي بأهم الاتجاهات المعاصرة، فلقد ترجم من قبل لتيري ايجلتون "الماركسية والنقد الأدبي" ، وهو نص أدبي يثير أسئلة كثيرة، ويحفز العقل إلى الحوار حول قضايا الإبداع والثقافة وعلاقتها بالتاريخ والمجتمع، كما ترجم أيضا عن لوسيان جولدمان، ونشر ترجمة كتاب "عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكوه" وهذا يعني أنه يهدف إلى وضع الأسس والأصول للواقع الثقافي، وذلك لأن معظم الكتابات المؤلفة في هذا الحقل - حقل النظريات الأدبية - هي في حقيقة الأمر كتب مترجمة، آثر البعض ألا يميز بين حديثه وبين ما ينقله من الكتب المترجمة. ولابد من التمييز بين عرض هذه الاتجاهات، والتعليق عليها وتحليلها، حتى لا يختلط الهامش بالمتن، وحتى لا يضيع الخطاب العربي ا لنقدي في سياق الخطاب الغربي، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن الكيفية التي نستخدم بها الاقتباسات في أبحاثنا الأدبية والنقدية، وهل مشروع استخدام التناص، استخدام نص من كتاب آخر مقتطع من سياقه، لكي يؤيد وجهة نظر أي مؤلف، أم أن الأمر يحتاج إلى وقفة لمناقشة هذا الأمر؟! أعتقد أن الكتاب غني ويثير تساؤلات عديدة.

لماذا هذا الكتاب؟

ينبغي أن نتساءل: لماذا اختار المترجم هذا الكتاب التعليمي؟ لأن عنوانه في اللغة الإنجليزية هو "دليل القارئ إلى النظرية الأدبية المعاصرة"، ولم يختر أيضا من النصوص لأعلام النظرية الأدبية المعاصرة، رغم أن النصوص الأصلية هي أقصر الطرق لفهم أي اتجاه، لأن الكتاب يقدم رؤيته وتفسيره لهذه النظريات الأدبية، التي تبلغ - أحيانا - درجة معقدة، لا ينفع معها التبسيط والإيجاز، ويبقى كصدى لا يبلغ درجة الأصل بالإضافة إلى أن ثقافتنا العربية، تعاني غياب ترجمة أمهات النصوص الرئيسية المعاصرة، والمترجم يرتبط اسمه بالنص الذي يقدمه، فنذكر عبدالرحمن بدوي لترجمته الوجود والعدم لسارتر، ونذكر فؤاد زكريا لترجمته العقل والثورة لهربرت ماركيوز، لكن رغم أهمية ترجمة النصوص كاستراتيجية ثقافية، فإن صعوبة النصوص تجعل درجة انتشارها وقراءتها محدودة، لأنها تتطلب معرفة عميقة بالنص ومصطلحاته، والجهد الذي بذله المترجم في هذا الكتاب يساوي نفس الجهد في ترجمة أي نص للأعلام الذين ذكرهم الكتاب مثل باختين - لوكاتش - بنيامين - ديدرا وغيرهم، ولذلك فإن الجزء الثاني من الكتاب وهو مجموعة من النصوص في الأصل الإنجليزي، كان ضروريا إلحاقها بهذا الكتاب.

تعريف بالمؤلف والكتاب!

مؤلف الكتاب هو رامان سلدن Raman Seldon، وهو أستاذ للأدب الإنجليزي في جامعة لانكستر، وقد صدر له كتاب، النقد والموضوعية عام 1984، وصدر له كتاب "نظرية النقد - من آفلاطون إلى العصر الحاضر" عام 1988 عن دار لونجمان - Long man ، والكتاب الذي نعرض له صدر عام 1985، وأهمية الكتاب ترجع إلى أنه يحاول أن يوقظ القارئ من السبات الدوجماطيقى، أي تحريره من الركون إلى المفاهيم التقليدية الشائعة عن النقد والنظريات الأدبية، ويدعوه إلى تحرير وعيه من المسلمات التي سيطرت على العقل الإبداعي والنقدي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ويدفعه دفعا إلى الدخول لرؤية المشهد النقدي في أواخر القرن العشرين، الذي يتميز بالتعقيد الشديد، وتعدد الاتجاهات والروافد، وتكمن أهمية الكتاب في مقدمة المؤلف الذي يحاول وضع منهج لتصنيف النظريات الأدبية المعاصرة، وهو بذلك يحل مشكلة كبيرة، لأن وضع هذه النظريات بشكل متجاور يجعلنا أمام أعداد كبيرة من الأسماء لا تساعدنا في إدراك شيء من المشهد النقدي، وقد اعتمد المؤلف رامان سلدن على المخطط البياني الذي صاغه رومان ياكوبسونRoman Jakoa bson في دراسته "تعقيب ختامي، اللغويات والشعريات" ، واستمد منه أساسا لتحديد خطة الكتاب التي تقدم النظريات الأدبية، ويقدم هذا الأساس على أن عناصر التوصيل اللغوي في العمل الأدبي تساعدنا على تصنيف الاتجاهات المتباينة للنظرية الأدبية، لأن كل اتجاه يركز على عنصر ما من عناصر التوصيل اللغوي.

فعملية التوصيل اللغوي تقوم على متكلم هو مرسل يرسل "رسالة" إلى المخاطب القارئ المستقبل للرسالة، وتستخدم الرسالة شفرة هي عادة اللغة التي يعرفها كل من المرسل والمستقبل. وكل نظرية أدبية تتجه بدورها إلى التركيز على وظيفة بعينها دون غيرها، فالنظريات الأدبية الرومانسية تركز على الاستخدام الانفعالي للغة عند المبدع، بينما تركز الشكلية والبنيوية والماركسية على السياق أو النص الأدبي، أما النظريات الفينومينولوجية فهي تركز على القارئ ودوره في قراءة النص وتأويله وفك رموزه.

وهذا التخطيط المنهجي الذي قدمه المؤلف، يساهم إلى حد كبير في فض كثير من الاشتباك بين النظريات الأدبية، لأن الموضوع الذي تركز عليه كل منها مختلف عن الآخر. ولذلك فإن تحديد موضوع الدراسة النقدية المبدع أو النص أو القارئ يبين أن الاختلاف ليس في وجهات النظر، ولكن في الموضوع. والهدف الحقيقي للكتاب هو التحرر من أسر النظرة التقليدية، ومعاونة القارئ في خلق خبرة حية بالنصوص بناء على وعي منفتح، وليس مغلقا ويحتوي على مفاهيم مسبقة.

من الشكلية إلى البنيوية

بتكون الكتاب من مقدمة وستة فصول، يحاول المؤلف خلالها أن يقدم صورة للاتجاهات الرئيسية في النقد الأدبي المعاصر، التي تفرعت عنها الاتجاهات الأخرى والفروع، بحيث إذا آلم القارئ بهذه الاتجاهات ساعده ذلك في فهم الخطاب النقدي المعاصر، وما يكتنفه من هموم وقضايا.

ففي الفصل الأول يتحدث المؤلف عن الشكلية الروسية، التي كان الشغل الشاغل لها هو التحديد العلمي للنماذج والفروض والمسلمات التي تفسر الكيفية التي تنتج بها الوسائل الأدبية هذه التأثيرات الجمالية، والكيفية التي يتميز بها "الأدبي" عن "غير الأدبي"، وإذا كان النقاد الجدد قد نظروا للأدب بوصفه شكلا من أشكال الفهم الإنساني، فإن الشكليين فهموا الأدب بوصفه استخداما خاصا للغة. ويستعرض هذا الفصل التطور التاريخي للشكلية منذ حلقة موسكو اللغوية التي تأسست عام 1915 حتى أعمال باختين وتودروف. ثم يتعرض للقضايا الرئيسية التي تناولوها، وتمثل خصوصية نظريتهم الأدبية مثل: "الفن بوصفه تكنيكا" لأن الفن لديهم يعيد إلينا الوعى بالأشياء التي أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومي المعتاد عن طريق الاستخدام الخاص باللغة. ويعرض رؤاهم حول القص، والتحفيز، والوظيفة الجمالية للنص الأدبى.

وفي الفصل الثاني، يقدم المؤلف النظريات الماركسية في النقد الأدبي لدى أبرز اتجاهاتها وهى الواقعية الاشتراكية، والواقعية النقدية، ومدرسة فرانكفورت، ثم يتوقف عند أبرز الجهود لدى أعلام هذه الاتجاهات، فيتوقف عند جورج لوكاتشG. Lukats وإنجازه حول تحديد مصطلح الانعكاس، ورفضه للنزعة الطبيعية. وبرتولد بريخت الذي نادى بتحطيم الإيهام بالواقع عن طريق استخدام أثر التغريب، بحيث يشارك المتلقي للعمل الفني في صياغة وعيه به ولا يكون دوره سلبيا في تلقي العمل الفني.

ويتوقف المؤلف عند النظرية الاجتماعية لدى مدرسة فرانكفورت التي رفضت مصطلح الواقعية في تفسير النص الأدبي، واعتمدوا على توصيف تجربة الحرية التي يقدمها الفن للتحرر من أسر الثقافة السائدة في المجتمع التي تسعى للتسلط على الأفراد، وتصدير التسلط لهم، لكي يمارسوه على أنفسهم أيضا. ثم يتوقف المؤلف عند التطورات الأخيرة للنظرية الماركسية في النقد الأدبي عند إيجلتون وجيمسون، اللذين استفادا من الإنجازات النظرية لكل ما سبق، فقدم جيمسون كتابه الهام: الماركسية والشكل 1971، وسجن اللغة 1972، وهو يكشف عن قدرة في استخدام الجدل في ميدان النقد الأدبي، وقدم أيضا اللاوعي السياسي 1981.

أما تيري إيجلتون فقد برز بكتابه: النقد والأيديولوجيا 1976، واستفاد من ألتوسير وماشيري في تفسير النص، وله أيضا: فالتر بنيامين أو نحو نقد ثوري 1981.

وفي الفصل الثالث يتناول المؤلف البنيوية ونظرياتها المختلفة، وإذا كان المترجم قد سبق له تقديم كتاب عصر البنيوية، الذي يركز على تقديم البعد الفلسفي، فإن المؤلف هنا يركز على البنيوية بوصفها منهجا يتيح أدوات جديدة في تحليل القص، وتفسير النصوص عن طريق نظريتهم في الاستعارة والكناية التي قدمها رومان ياكوبسون، ويقدم مناقشة تطبيقية للبنيوية في الشعر والقص.

نظريات ما بعد البنيوية

في الفصل الرابع يتناول المؤلف النظريات الأدبية التي جاءت بعد البنيوية، وهي كانت بمثابة تطور لجوانب متضمنة في البنيوية نفسها، على نحو ما يمكن القول معه إن "ما بعد البنيوية" ليس سوى ثمرة لهذه الجوانب المتضمنة، والأسماء التي ذكرها المؤلف لنظريات ما بعد البنيوية مثل زولان بارت، وجاك لاكان، تحسب على البنيوية.

ثم يقدم المؤلف جاك ديريدا ونظريته الأدبية: التفكيك من خلال تحليله لبحث ديريدا: البنية والعلاقة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية 1966. ثم يعرض للاتجاهات التي تأثرت بديريدا في الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما لدى بول دي مان الذي أصدر "العمى والبصيرة" 1971، و"أمثولات القراءة" 1979 ثم يختم هذا الفصل بالحديث عن ميشيل فوكوه وإدوارد سعيد، اللذين يربطان بين الخطاب الأدبي والسلطة السياسية بكل أشكالها، لأن السلطة بجميع أشكالها تظهر في دلالة العمل الفني.

نظريات القارئ

في الفصل الخامس يتوقف المؤلف عند النظريات الأدبية التي تهتم بالمنظور الذاتي في العملية الإبداعية، وتركز على القارئ، وترى أن القارئ يبذل - في قراءته - جهدا مساويا لجهد المبدع، لأن القارئ يعيد بناء وتركيب النص على نحو خلاق، يضيء جوانب عديدة، ويدفع النص إلى أقصى مدى ممكن؟ وأهمية هذه النظريات أنها تحطم الصورة السلبية التي كان يتميز بها القارئ وتقدم صورة إيجابية ناتجة عن المشاركة الفعالة، لأن القارئ هو الذي يملك الدور المركزي في تحديد المعنى في النص الأدبي. ويولي المؤلف أهمية تحليل تجربة القارئ، لأنها تجربة تكشف عن إبداع أصيل في فهم النص وتقديم التحويل الدلالى له، وإنتاج النقاد الكبار هو في حقيقة الأمر قراءة أصيلة ومبدعة وليست بريئة لنصوص أخرى.

النقد النسائي

والفصل السادس والأخير من الكتاب، يتناول النقد النسائي، وهو اتجاه ضمن اتجاهات النقد المعاصر، يتناول الكتابة النسائية، ويرى أنها تدور أغلبها عن الاختلاف الجنسي بين الرجل والمرأة من خلال خمسة محاور أساسية هي البيولوجيا، والتجربة، والخطاب، واللاوعي، والأوضاع الاجتماعية والسياسية، وهو فصل جاد رغم طرافة موضوعه، لأنه يدرس مشكلات النظرية النسائية، وعدم تبنيها لنظرية محددة، وإنما تستفيد من النظريات المتاحة بما يساهم في الدفاع عن الكتابة النسائية.

ويبقى أن نشير إلى أن المترجم احتفظ بقائمة مراجع أوردها في نهاية كل فصل تساعد كل مستزيد، بالإضافة إلى شروحه وتعليقاته لتقريب المعنى والفكرة للقارئ العربي، وبالتالي فالكتاب خطة عمل للحوار مع هذه الاتجاهات الأدبية المعاصرة.