جمال العربية فاروق شوشة
جمال العربية
"عن الجرس والموسيقى" يلاحظ علماء لغتنا العربية أن العرب القدماء تفننوا في طرق ترديد الأصوات في الكلام حتى يكون له نغم وموسيقى، وحتى يسترعي الآذان بألفاظه، كما يسترعي القلوب والعقول بمعانيه، مما يدل على مهارتهم في نسج الكلمات وبراعتهم في ترتيبها وتنسيقها. والهدف من هذا هو العناية بحسن الجرس ووقع الألفاظ في الأسماع، بحيث يصبح البيت الشعري أو الجملة من الكلام أشبه بفاصلة موسيقية، متعددة النغم، مختلفة الألوانط يستمتع بها من له دراية بهذا الفن، ويرى فيها دليل المهارة والقدرة الفنية. يـقول تعـالى: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة كلمة "الساعة" جاءت في هذه الآية الكريمة مرتين، ولها معنى مختلف في كل مرة: في المرة الأولى معناها يوم القيامة، وفي الثانية تدل على جزء محدد من الزمن. والشاعر القديم يقول:
ويرى علماء البلاغة أن المقابلة في هذا البيت بين كلمتي: مات ويحيا قد زادت البيت جمالا. كما يرون جمالا ثانيا في كلمة "يحيا" التي جاءت مرتن، مرة فعلا بمعنى يعيش والأخرى اسما هو "يحيى" الممدوح الذي يتوجه إليه الشاعر بالخطاب. ويقول تعالى:
والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ
المساق. وتقول الخنساء:
فيرى علماء البلاغة في تأملهم لهذا التقابل بين كلمات الساق والمساق، ينهون وينأون، الجوى والجوانح، مبلغ العناية الموجهة إلى تردد الأصوات !! الكلام، وما ينتج عن هذا من إيقاع موسيقي تطرب له الآذان وتستمتع به الأسماع. وقريب من هذا الجمال - المتمثل في الجرس والإيقاع - ما جاء على صورة تقسيمات موسيقية، حتى لكان البيت الشعري يحتوي على عدة قواف بدلا من قافية واحدة، مما يزيد في موسيقى الشعر ويغنيها ويجعلها أوقع وأشد تأثيرا. يقول مسلم بن الوليد:
ويقول أبو تمام:
ويقول شوقي:
ففي هذه النماذج الثلاثة نطالع جمال التقسيم الموسيقي والإيقاع النغمي في مهج ورهج، وأجل وأمل، وفي: معتصم ومنتقم، ومرتقب ومرتغب، وأخيرا في: الدموع والضلوع. فبالإضافة إلى القافية الأساسية في هذه الأبيات جاءت هذه الكلمات بمثابة قافية أخرى داخلية، كلما أتقنت وابتعدت عن الصنعة والتكلف، كان لها وقع موسيقي جميل. وقريب من هذا ما لاحظه علماء البلاغة العربية والمتأملون في إبداعنا الشعري وهم يتوقعون في موسيقى الشعر العاطفى مثلا غير مايتوقعونه في موسيقى الشعر الحماسي أو القومي، فضلا عن حسن اختيار الشاعر للمفردات الملائمة للدلالة على معانيه والمناسبة للتعبير عنها. وقد لاحظوا أن موسيقى الألفاظ والمفردات - في كثير من النصوص الشعرية المتميزة - عندما يطرق الشاعر المعنى العنيف والقوي غيرها في المعاني الهادئة الرفيقة، كأنما الحروف والأصوات بدورها تجيء منسجمة مع المعنى العنيف أو الرقيق الهادىء. ويقولون إن أنسب الحروف والأصوات للمعاني العنيفة هي، الخاء والقاف والجيم والضاد والطاء والظاء والصاد. وهي كثيرة التكرار في قصيدة للشاعر الفارس محمود سامي البارودي يفخر فيها ببأسه وشجاعته فيقول:
بينما يرق البارودي وترق معه حروفه وأصواته ومعانيه حين يقول في مقام الغزل والوجد والصبابة:
"في سبيل المجد" لعله الشاعرالوحيد بين شعراء تراثنا العربي الذي استحق أن يوصف بالشاعر الفيلسوف. وقد ساعد فقده المبكر لبصره في طفولته، وامتلاء حافظته بعلوم عصره ومعارفه، وانتسابه إلى أسرة معروفة بالعلم والقضاء، وترفعه الشديد عن عرض الدنيا مالا وجاها ومنصبا، ساعد كل هذا في صوغ نفسه الأبية، واعتداده بفكره واعتزاله للحياة والناس، مؤثرا أن يكون رهين الثلاثة من سجونه - على حد تعبيره -: العمى ولزوم البيت وكون النفس سجينة الجسد الخبيث، يقول المعري:
والقصيدة التي نطالعها الآن للمعري، واحدة من عيون آثاره الشعرية وأكثرها شهرة وذيوع صيت، وهي تمثل شعر المعري في فورة الشباب وقمة الاعتزاز بالنفس والهمة ضمن قصائده التي أودعها ديوانه الأول: "سقط الزند" بينما يضم ديوانه الثاني "اللزوميات" أو لزوم مالا يلزم شعر النضج والحكمة وعمق التأمل في الحياة والموت. كما أنها نموذج لأسلوبه الشعري الذي يتكىء إلى ثقافة لغوية عريضة، وقدرة على التصوير، وولع بحوار الأفكار وتقليبها على وجوهها المختلفة. يقول أبوالعلاء المعري:
***
|
|