عن المواطنة في لبنان

عن المواطنة في لبنان
        

          كنّا لبنانيين حسب دستور 1926 وصرنا مواطنين في الدستور المنبثق عن اتفاق الطائف، والمواطنون هم أولاً أفراد وليسوا مجرد أعضاء في طوائف، أيًا كان من أمر اعتراف الدولة بالانتماء إلى الطوائف واحترامه والعمل على طمأنته. كما ليسوا مجرد أبناء مناطق لا يفلتون من الانتساب إليها بقوة النظام الانتخابي النيابي والبلدي الذي يرد كل لبناني إلى محل إقامته الأصلي وهو غير محل إقامته الفعلي. ثم إن الحديث عن اللامركزية الإدارية الموسعة، وهو أقرب إلى الثورية أحيانًا، يفترض أن الانتماء المناطقي صلب وليس رخوًا كما هو في حقيقة الأمر بفعل الانتقال من منطقة إلى أخرى.

          على النحو ذاته، ليس المواطنون الأفراد مجرد أجزاء من جمهور متجانس، بفعل الانتظام الاجتماعي أو السياسي, والعداء لجمهور آخر أو الخوف منه والصراع معه على السلطة. أكثر من ذلك، لا يمكن اختزالهم في هوية واحدة طائفية أو مناطقية أو فئوية, والافتراض أنها تحرّك مواقفهم كلها وتطبع سلوكهم وتشكّل شخصياتهم.

          المواطنة مساواة ولقاء بين أشخاص ليسوا مجرد أجزاء من جماعات، مهما رفعوا من شأن انتمائهم إليها ومن قوته ومشروعيته. واللقاء بين المواطنين الأشخاص (الأفراد) هو الذي يجدد العيش المشترك وهو مصطلح يحلو لنا نحن اللبنانيين أن نردده حتى أنه وضع في نص دستورنا. غير أنه غالبًا ما بات كناية للحديث عن تقاسم السلطة بين الطوائف أو بالأحرى بين القوى ذات التمثيل السياسي الأوسع لها. فنلبسه تارة لبوس الوحدة الوطنية، وطورًا لبوس الديمقراطية التوافقية أو المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية.

          غير أن العيش المشترك، بوصفه لقاء بين مواطنين يقوم على إحياء الرغبة في البقاء معًا. ويفترض اختلاطًا وتبادلاً وتفاعلًا في الاقتصاد والاجتماع والثقافة. ويقتضي أيضًا شراكة في القيم، فممارسة الديمقراطية - مثلاً - تعزز المواطنة والعيش المشترك لا لأنها تحترم قواعد التمثيل السياسي فحسب، بل لأنها تتجاوب مع النزعة الإنسانية إلى المساواة والعدالة، والنزعة هذه تجعلها ممكنة، غير أن نفس الإنسان الأمّارة بالسوء، سوء الظلم والعنف، تجعل الديمقراطية ضرورة.

تعزيز الشراكة

          ولذلك، فإن تجديد العيش المشترك عن طريق تعزيز الشراكة في القيم يستدعي نقد الجوهرية الطائفية, أي القول بشخصية متجانسة للجماعة، ذات الأصل الديني، وطبائع مميزة لها, ونوع من الجوهر يتجسّد في الأفراد، مما يسوّغ محاسبتهم على أفعال ارتكبت باسم طوائفهم وعلى يد المنتمين إليها أو النافذين فيها حتى وإن كانوا بعيدين عنهم. وما خروج البعض، بحسب أصحاب هذه النظرة، عن المواقف المفترضة لطوائفهم إلا استثناء يؤكد صحة القاعدة. وهكذا يُرى لبنان على صورة فسيفساء، لكن الفسيفساء تقف عند حدود الطوائف، فلا ينظر إلى كل طائفة بوصفها أيضًا نوعًا من الفسيفساء. فالبلد فسيفساء، وأما الطوائف فكل متجانس يقول الطوائفيون الذين يقلقهم وضع تجانسه تحت السؤال. فانقسام أبناء الطائفة الواحدة شر مستطير، أما انقسام اللبنانيين طوائف متناحرة فهو إن كان شرًا يبقى أقلّ خطرًا على الوجود.

          وهكذا لم تعد الطائفية اليوم خجولة، ولم تعد محتاجة إلى تمويه. فقد قلّ التحايل عن المطالبة الطائفية والاتهام الطائفي وازدادت النعرات، والنعرات وسواس، وهي في الأصل سياسات تتصارع على الدولة وتقوّض وحدتها وأدوار مؤسساتها الواحدة تلو الأخرى، بل تفتك بها. تراجعت إذن فكرة المواطنة، وباتت الثقافة بوصفها مشروعًا للمواطنة أكثر تأزمًا. ذلك أنها لم تعد معززة لها لأنها لا تستطيع أن تكون مطابقة لواحدة من العصبيات. فالثقافة مهما غالت في الخصوصية هي في الأصل ذات بعد كوني، والوطنية هي التوسط بين الخصوصية المباشرة والكونية. وهي لا تتعالى على النعرات ولا تتخلص من تبريرها أو التغني بها إلا إذا تطلعت نحو مدى أوسع. إن نقد العصبيات يحمل بذور مشروع مواطني وهو بداية، بل سابق، لأي تجسيد سياسي للمواطنة. فمجموعة القيم تشكّل حدودًا للمواطنة لا تنفيها الخلافات، لكنها تلد معايير تسمح بالتعامل معها.

تراجع الخفر الطائفي

          صحيح أن الخفر الطائفي تراجع، غير أن نقد الطائفية مازال موقع لقاء بين النخب اللبنانية، من دونه ليس هناك فعل ثقافي مشترك يحتمل الاتفاق والاختلاف، والحوار في الحالتين معًا، لعل هذا الكلام يبدو نظريًا ولا مقابل عمليّ راهن له، لكننا نستطيع الحديث عن الدولة وعن الديمقراطية، أيًا كانت نعوتها، بالطريقة ذاتها.

          بالطبع، تبقى الهوّة كبيرة بين الفكرة والواقع الذي أثخنته الحروب والمخاوف. غير أن «الثقافة المشتركة»، وإن تعثّر تعبيرها السياسي أو ظلت إلى وقت طويل محرومة من التعبير، تبقى الوجهة الوحيدة للدولة والنخب والخطاب المعلن، والمشكلة أن الدفاع عن المواطنة والعمل الحق في سبيلها يتطلب وجود قوى المواطنة والتي مازالت صفيفة. فالخلافات تستغرق المجتمع اللبناني في معظمه ولاتترك مجالاً كافيًا للائتلاف حول أهداف أو تطلعات هي بطبيعتها عصيّة على المحاصّة بين الطوائف.

          ثم إن الوعي بالمواطنة في بلد مثل لبنان لاينفصل عن الوعي الديمقراطي. فالعصبيات التي تتنازع الدولة لا تؤمن فعليًا بالمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين. فهي تتصارع على الغنيمة من جهة، وتتلاعب بالقانون من جهة أخرى. وهي - أي العصبيات -، في مواجهة دائمة مع الوعي الديمقراطي. وما الإصرار على توافقية الديمقراطية إلا اعتراف بأولية تلك العصبيات التي تسعى دائمًا للتسلط وحصر الهوية والحؤول دون تظاهر فردي أو انشقاق معلن، ورفع الخلاف مع الجماعات الأخرى إلى مستوى وجودي، والتعدي المستمر على الفضاءات العامة والمشتركة كمثل ما تفعله الرقابة، بأدواتها المتعددة، على الفكر والفن.

          بات متعذرًا أن نتحدث عن الديمقراطية في لبنان خارج التوازن الطائفي. وفي ما عدا ذلك فالصراع الاجتماعي والسياسي والعلاقات بين المجموعات لايحكمها منطق الديمقراطية. ويعيدنا هذا الواقع إلى بداهة القول أن المواطنة تقوم على وعي أكبر بالمساواة بين الناس الذين يعيشون على أرض واحدة وباستقلال الدولة. كما يدفعنا هذا الواقع نحو السعي إلى إخراج الهوية، في صورة الذات كما في صورة الآخر، من أسر الانتماء الأوحد، فالهوية عند معظم الناس هويات، يعاد ترتيبها والتوافيق بينها كل صباح.

ضد الاستبداد

          لقد عرفت منطقتنا، استبدادًا وضع الوطنية في تعارض مع الديمقراطية، لكنه متعذّر في لبنان لأن الاستبداد يضمر تسلط جماعة على الأخريات. وفي كل حال يصعب تصوّر مواطنة لا تستوعب المنتمين إلى كل الجماعات. لكنه يبدو لنا اليوم أن الطوائف اللبنانية المنخرطة في الدولة مشغولة بالصراع عليها، ولها دول داخل الدولة وخارجها، ولها سياستها الخاصة وتحالفاتها الخارجية ومجتمعها الأهلي وسلطاتها البديلة. وهي قادرة بسرعة كبيرة أن تتصرف كقوة قامعة أو رادعة، حينما يظهر لها أن القانون والدولة غير قادرين على ضبط الصراع. على هذا النحو، نجدنا أمام نظام علاقات يسوده العنف. والعنف نظام تعدّ ولا مساواة، نظام استقواء وتسلط وتمييز أساسه الطائفة أو الجماعة السياسية الممثلة لها.

          وفي العقود الثلاثة الأخيرة التي مرّت على لبنان، انهار مع انهيار الدولة مجتمع حديث نشأ في هوامشها. فصارت النقابات ملحقات للأطراف المتنازعة، والأحزاب تهمّشت، تاركة المجال لكتل طائفية استعارت أسماء حزبية، والكثير من وسائل الإعلام صار أدوات للتعبئة وشيطنة الآخر المختلف والتحريض ضده.

          مع ذلك، فإن ظواهر لم يلحظها الكثيرون كانت تحدث وراء أعيننا وفي أطراف حياتنا. يمكن اختصارها في محاولة ترميم للطبقة الوسطى عن طريق التعليم، بعد أن كانت على وشك السقوط النهائي. وعمّت وسائل الاتصال فأعادت الصلة بالعالم وفتحت مجالاً أوسع لحركة الفرد في التعبير وفي الإبداع. واستقلت نسبيًا الحياة الخاصة وتكوّنت فضاءات بعيدًا عن الانقسامات العريضة. يمكن القول إن حياة ثانية تفتّحت من ترميم الطبقة الوسطى وإن جزئيًا وإحياء للتعليم، وإن كان متفاوت المستوى، وإعادة الإعمار، والإنعاش الاقتصادي وأن غير متكافئ، واستجماع علاقات اجتماعية وثقافية بالعالم وانتظام الحياة اليومية في السلم المعلق.

          وفيما كان جزء من الشبيبة ينتكس إلى ما يشبه التدني السياسي والاقتتال العسكري وعبادة الشخصيات والأصنام التي تصنعها، كان هناك جانب آخر يذهب إلى جهة أخرى، إلى التحرر من سياسة الإملاء والانقياد، إلى خروج من الجمع أو الجمهور المتراص، وإلى ممارسة سلمية للحياة.

          المواطنة هي أيضًا اشتراك في حساسية وأذواق وطريقة حياة. والمواطن لا يولد من التاريخ أو التواريخ المنفصلة والمتعارضة ولا من المعارك الكبيرة، القومية والوطنية والطائفية التي تلبسهما ولا من مبدأ واحد متعال ولا من سياسة مستبدة. لعله يولد من التخلص من التماهي مع الجماعة الطائفية والسياسية، ومن التلهي بالمنازعات التي تخترع كراهيات جديدة. غير أننا مازلنا مضطرين للانتظار.

----------------------------

          فأترُكُه بالقاعِ رَهناً ببلدة
                                        تعاوره فيها الضباع الخوامعُ
          محالف قاع كان عنه بمعزل
                                        ولكن حين المرءُ لابد واقعُ
          فلا أنا ممّا جَرّتِ الحربُ مشتكٍ
                                        ولا أنا مما أحدثَ الدهرُ جازعُ
          ولا بصري عند الهياج بطامح
                                        كأني بعير فارق الشول نازعُ

عروة بن الورد

 

 

طارق متري