نمور شرسة من الورق تبدأ حرب الفضاء محمد الرميحي

نمور شرسة من الورق تبدأ حرب الفضاء

حديث الشهر
صناعة الصحف بين وهم الديمقراطية واحتكار السلطة
إننا نواجه واحدة من أقوى البنيات الصناعية التي عرفها العالم، وأعني بها صناعة الإعلام التي أصبحت تنافس في أهميتها صناعة السلاح والنفط، ووجه القوة هنا لا يرجع فقط إلى حجم الأموال الهائلة المستثمرة في هذا المجال، ولكنه يعود للهدف الخطير لهذه الصناعة، فهي تتوجه مباشرة إلى العقول وتعيد تشكيل وعي الإنسان المعاصر، كما أن تأثيرها بالغ الخطورة على كل مراكز صنع القرار السياسي في كل الدول، أضف إلى ذلك أن الربح المادي في صناعة الإعلام يفوق هامش الناتج عن الاتجار بالعقارات والصناعات التحويلية، وبالتالي فهي صناعة توجه مصير العالم وتشهد كل يوم عددا من التقنيات المتطورة تزيد من فاعليتها وشدة تأثيرها. ومثل صناعة السلاح والنفط أصبحت صناعة الإعلام فريسة للتنافسات القوية والعملاقة، وبدلا من أن تزيد ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة من تدفق المعرفة أصبحنا رغما عنا نسير إلى نوع من احتكار المعرفة لأنها جزء أساسي من احتكار السلطة.

الصحف العربية والأرقام المتواضعة

في أواخر الثمانينيات وعلى هامش ندوة اقتصادية كبرى تعقد سنويا في شتاء سويسرا في منتجع دابوس، حضرت ندوة عن الإعلام والتقنية الحديثة، كان فيها ممثلون لصحف وتلفزيونات من العالم، وعند بدء التعرف في اليوم الأول كان على المشارك أن يقف ليقدم اسمه والمؤسسة التي يعمل بها وعدد النسخ التي يطبعها من جريدته "إن كان يعمل في جريدة ".. ووقف المشاركون وا حدا تلو آخر. وبدأت الأرقام تتوالى بالملايين، وإن تواضعت فبمئات الآلاف، ووقف صديق صحفي من دولة عربية وذكر اسمه ثم تلفت قليلا وقال: ثلاثون ألف نسخة!! وعندما جلس أسر إلي بفجيعته، فقد ضاعف عدد النسخ التي تبيعها مطبوعته فقط لأنه لا يريد أن يكون قزما بين عمالقة، ومع ذلك وبعد هذه المضاعفة الرقمية لم يلتفت إلى ما قاله أحد!!

منذ تلك الحادثة وأنا أتذكر دائما كم نحن في الواقع متواضعون في أمور شتى وكثيرة ومن بينها عدد القراء في صحفنا اليومية، ومع ذلك تسمع لنا جلبة وضجيج يضعاننا في تناقض مع ذلك الواقع.

لذلك عندما وقع في يدي أخيرا كتاب لنيكولاس كلارج وهو صحفي وكاتب بريطاني بعنوان "نمور من ورق " قرأت الكتاب بشغف. وعنوان الكتاب بالإنجليزية أريد به اللبس فـ Paper Tigers يمكن أن تكون "نمور من ورق "، ويمكن أن تكون "نمور الصحف "، لأن PAPER هي صحيفة وورق باللغة الإنجليزية في الوقت نفسه. نمور الصحف هو الموضوع المقصود بالكتاب، لأن الكاتب يتحدث عن الملاك الكبار للصحف في العالم الرأسمالي، ويركز على بلاد مثل الولايات المتحدة وأوربا وجنوب آسيا والهند وباكستان وتركيا وعن "العائلات " القديمة التي تملك الصحف أو قل مجموعات عديدة من الصحف وكذلك الملاك الجدد.

أمضى الكاتب ثماني سنوات لتحضير هذا الكتاب، قابل فيها أكثر من ثمانمائة شخص وسافر فيها أكثر من مائتي ألف ميل في القارات الخمس وعاد بحصيلة ليست غنية بالمعلومات- لمن يهتم بهذا الموضوع- فحسب سلطة الصحافة في المجتمعات الرأسمالية تفوق سلطة المال وتؤكد ها ولكنها أيضا ممتعة للقراءة. والكتاب ليس صغيرا أيضا فهو يتألف من 592 صفحة ومقسم إلى فصول، كل فصل يروي قصة مالك مع إحدى الصحف الكبرى أو مجموعة من الصحف.

لعبة السلطة

المعلومات والتحليلات في الكتاب مثيرة وكاشفة للعلاقة بين السلطة أو البحث عن السلطة وبين ملكية الجرائد اليومية والتأثير في الناس وفي مسيرة القرارات السياسية.

إنها سلطة الصحافة في المجتمعات التعددية أو الديمقراطية وهي سلطة تفوق سلطة المال، بل تؤكد سلطة المال.

وعندما نتذكر دور الواشنطن بوست مثلا في الإطاحة برئيس الولايات المتحدة الأسبق ريتشارد نيكسون، أو نتذكر الدور الذي لعبته مجموعة الديلي ميرور وصاحبها روبرت ماكسويل في إضعاف هيبة الملكية في بريطانيا بمتابعة قضايا العائلة المالكة ونشرها، نتذكر ولو للمحة سلطة الصحافة ومالكيها.

ولعله كان مشهدا مثيرا عندما وقف نيل كينوك زعيم حزب العمال البريطاني السابق بعد انتهاء الانتخابات الأخيرة في بريطانيا سنة 1992، وقال: لقد ربح رؤساء تحرير الصحف الانتخابات.. وهو يعني أن مجموعة الصحف المؤيدة لحزب المحافظين هي التي جعلت فوزه بالانتخابات أمرا ممكنا. وتلك حقيقة، فمن يعرف مثلا أن في بريطانيا اليوم أكثر من خمسين مليون نسمة وأن عدد الأعضاء الملتزمين في حزب المحافظين لا يزيد على 750 ألف شخص على أعلى تقدير، يدرك على وجه اليقين الدور الذي يلعبه الإعلام والصحف خاصة في توجيه و" إقناع " الرأي العام بصواب هذا التوجه السياسي وخطا التوجه الآخر!. يسعى ملاك الصحف في البلدان التي تسمح بتداول ملكية الصحف- كأية ملكية أخرى- أي البلدان التي تعتمد قوى السوق والتعددية السياسية، يسعى هؤلاء إلى شراء وامتلاك الصحف في أكثر من بلد وفي أكثر من قارة، مالك مثل روبرت مردوخ الأسترالي أساسا يملك صحفا في أستراليا وبريطانيا وأمريكا، بل ويدير شبكة من محطات التلفزيون عبر الأقمار الصناعية في بريطانيا وأستراليا وهونج كونج ويسعى إلى امتلاك أي وسائل إعلام أخرى إذا ما وجدها متاحة.

روبرت هوسنت يملك صحفا في فرنسا وما كان يسمى بأوربا الشرقية، بعد انفتاحها، كونراد بلاك يملك صحفا في بريطانيا وكندا وأستراليا، أما المالكة الكبرى في هونج كونج سالي أوسيان فهي تملك صحفا في هونج كونج وفي كل منطقة في العالم يسكنها صينيون خارج الصين، سواء كانوا في كاليفورنيا أو سيدني في أستراليا، ومن الملاحظ أن التوجه العام في ملكية الصحف في العالم هو نحو القلة، حيث يقوم هؤلاء الملاك المتنفذون بشراء الصحف في كل مكان، فإمبراطورياتهم موزعة جغرافيا حول العالم وتنطق بلغات مختلفة ويزدادون سلطة يوما بعد يوم.

العائلات تتقلص والقبضة تشتد

يحدثنا نيكولاس كلارج في الكتاب الذي أشرت إليه آنفا أنه حتى سنة 1970 كان هناك 125 عائلة- وبينهم أشخاص بمفردهم- تملك صحفا أو مجموعة صحف مهمة في العالم ، وبينهم من يحتكرون الصحف القومية أو الإقليمية في بلادهم، الآن "سنة 1993 " تقلص عددهم إلى أقل من ثلاثين أسرة وشركة تحتكر أهم الصحف أو مجموعاتها في العالم، ففي العقود القليلة الماضية أصبحت ملكية الصحف في أيدي أقل عدد من الناس، بعضها اندمج في شركات تملك سلسلة من الصحف في أكثر من قارة، ولكن أكثرها اشتراه أو استحوذ عليه "نمور الصحف " لإشباع جوعهم للصحافة المطبوعة والسلطة التي تتأتى معها، وكمثل القطط المتوحشة كل مالك له "منطقته " المحرمة على الآخرين، وهو على استعداد لدخول معارك ضارية مالية أو سياسية لطرد المتطفلين على منطقته الصحفية، عائلة شندلر لديها مدينة لوس أنجلوس وتملك صحيفة لوس أنجلوس تايمز النافذة والاثنتان لديها متساويتان، أي المدينة والصحيفة، وكذلك عائلة جراهام لديها الواشنطن بوست ومنطقة واشنطن أيضا! وعائلة سلز بيرجر تملك نيويورك تايمز، وأغاخان: نيروبي وسمير جين: دلهي، وسركار: كلكتا، كل من هؤلاء يحتكر المنطقة والجريدة أو سلسلة الجرائد فيها.

من الأفكار الشائعة أن العائلات التي تملك الجرائد في الغرب هي عائلات عريقة في المهنة ولها فترة زمنية طويلة في هذا العمل، وقد وجد مؤلف الكتاب أن ذلك خرافة، فقط خمسة من هؤلاء المالكين لهم تاريخ في الملكية، والتاريخ هنا يعني جيلين أو ثلاثة من الملكية، أربع من الخمس هي عائلات أمريكية سلزبيرجر، شندلر، جراهام، وكوكس شامبرلدز، قصص عائلاتهم تقريبا متشابهة، جد حصل على ماله من المقاولات أو من الصناعة وفي الغالب كان قد خدم الجيش لذلك يسمى "كولونيلا" أو "جنرالا" يشتري صحيفة صغيرة في البلدة وذلك لتعزيز نفوذه وتدريجيا يشتري الصحف المنافسة حتى يعزز من احتكاره على الصناعة الصحفية ويحول هذا الاحتكار إلى دجاجة تبيض ذهبا، ثم تأتي ملايين الدولارات طوعا لهذا الاحتكار. هذه العائلات القديمة هي أرستقراطية مالكي الصحف، وسلطتها على المجتمع الذي تعمل فيه تكاد تكون كاملة وكذلك على اقتصاده. "الإقطاعية الصحفية" كما يلاحظ الكاتب تكاد تشابه الإقطاعية الزراعية أثناء حكم الإقطاع في أوربا، مقاطعة كبيرة من " الأرض " مسيطر عليها من قبل جريدة سلزبيرجر أو شندلر مثلا ويمثلون قمة الغيرة بالنسبة لمنافسيهم فعندما سأل المؤلف ملاك صحف سيطرة ملاك الصحف على مجتمعاتهم تكاد ان تكون مطلقة حول العالم: ما هي الصحيفة التي تريد أن تمتلكها؟ كانت الإجابة في معظم الأوقات، إما نيويورك تايمز لسلزبيرجر، أو واشنطن بوست لجراهام أو لوس أنجلوس تايمز لعائلة شندلر! البقية الباقية من الملاك وهم الأكثرية اشتروا ملكيتهم لأسباب خاصة بهم وليست أسبابا تاريخية أو عائلية، ويصنفهم الكاتب بعد العائلات الصحفية النبيلة بالأشخاص "الانتهازيين "- ليس بمعناها السلبي بل بالمعنى المحايد- أن يرى شخص في مؤسسة صحفية قابلية للتوسع والربح فيشتريها، وهؤلاء معظمهم صناعيون وتجار أو مالكون لصحف محدودة الانتشار، عملوا أثناء حياتهم على شراء أو تطوير ما يملكون ثم أضافوا إليه، بعضهم توسع جغرافيا بإنشاء صحف جديدة أو شرائها في أماكن أخرى عندما تحين الفرص، أشخاص مثل روبرت مردوخ أو كونراد بلاك أو سالي أوسيان- صاحبة احتكار هونج كونج- وغيرهم أمثال سمير جين وأفيك سركار الذين احتكروا الصحف في دلهي وكلكتا على التوالي، وتوسعوا لشراء صحف في الهند كما يفعل أمثالهم في الغرب.

أربع فئات من الملاك

بقية ملاك الصحف يصنفون في ثلاث فئات، مع أن بعضهم يمكن أن يصنف في أكثر من فئة في آن واحد، إما محتكرون سياسيون، أو محتكرون ماليون، أو استعراضيون بالنسبة لهم ملكية الصحف هي طريقة أخرى للفت الانتباه للشخص والملكية، أو ملاك غائبون يتركون الإدارة لمتخصصين دون أن يعرف إلا القلة علاقتهم بالصحف التي يملكونها. روبرت هرسنت صاحب الفيجارو في باريس وعائلة جونيكا صاحبة انديا اكسبريس مثال للاستخدام السياسي للصحف، دين سنجلتون ولورد ستيفن- كمثال- الصحافة بالنسبة لهما عمل تجاري لجني الأرباح. المستثمر الكندي ويز مورثمار زوخرمان الذي اشتري نيويورك ديلي نيوز في أكتوبر 1992 مستثمر مالي واستعراضي في الوقت نفسه.

من أهم أصحاب الصحف الاستعراضيين روبرت ماكسويل الذي بنى إمبراطورية مجموعة "الميرور" والذي فقد حياته بشكل غامض العام قبل الماضي وترتب على ذلك فضائح سياسية ومالية. وأصيل نادر المليونير البريطاني ذو الأصل التركي والذي اشترى مجموعة صحف ناطقة بالتركية في كل من تركيا وقبرص انتهى أيضا بفضائح مدوية وإفلاس. أغا خان يملك أوسع جريدة في نيروبي تدعى كامبون، دائما يتحاشى الصحافة بما فيها الحديث لصحيفته رغم أنه على رأس مذهب ديني له أتباع.

هناك أصحاب صحف رغم ملكيتهم لعدد كبير منها إلا أنهم "مغمورون " نسبيا. كفث ثمبسون اللورد البريطاني الذي يملك 130 صحيفة في الولايات المتحدة و55 في بريطانيا و50 في كندا، ومع ذلك فإن اسمه لا يتردد إلا قليلا إن قارناه بروبرت مردوخ أو بروبرت ماكسويل مثلا.

ومثل أي احتكار آخر- خاصة إذا كان عمليا- يتابع المحتكرون القلة للصحافة في العالم أخبار بعضهم، وذلك يذكرنا بالشركات النفطية الكبيرة التي يطلق عليها الشقيقات السبع، يؤكدون أنهم لا يقابلون بعضهم بعضا ولكن المؤلف يقول: "كلما ذكرت أنني قابلت أحدهم في مكان مثل لندن أو نيويورك يرد من أقابله بالقول: نعم لقد كان هناك، وطار الخميس الماضي ليمضي عطلة قصيرة في جزر البهاما"!! سمير جين- يقول المؤلف- كان قادرا على أن يقول لي من مكتبه في جريدة "تايمز أوف انديا" في بومبى بالضبط أين يوجد منافساه الاثنان سركار وجوانيك في ذلك الوقت أحدهما في نيويورك والثاني في شاندجرا على التوالي، وبالضبط ماذا يعتقد أنهما يفعلان هناك! اوتس شندلر في لوس أنجلوس تايمز يراقب دين سنجلتون في هيوستن. آرثر سلزبيرجر الناشر الشاب لنيويورك تايمز يراقب مثيله دونالد جراهام في الواشنطن بوست. في بعض الأوقات- يضيف المؤلف- يعتقد أن هناك من ثلاثين إلى أربعين شخصية مهمة في كل العالم وجميعهم يراقبون جدول تحركات بعضهم بدقة، ويذكرونني- يتابع الكاتب- بالملوك المحاربين في القرون الوسطى وكذلك بطالبات مدرسة داخلية للفتيات اليافعات تتحكم فيهن عواطف الغيرة وحب التملك!

لقد أخضعت مجموعة قليلة من ملاك الصحف فيما يزيد قليلا على العقد مناطق جغرافية لنفوذها أكبر مما أخضعه الإسكندر الأكبر وجنكيز خان في كل حياتهما، وأصبح توزيع الأخبار بيد عدد قليل جدا من الناس. روبرت مردوخ مثلا عليه أن يوجد مرشحين سياسيين في أربع قارات لتقوم صحفه وتلفازه بتلميعهم وتأييدهم.

تآكل وجهات النظر

لقد اتفق كثير من المحللين على أن المرحلة التي تحقق فيها احتكار الصحافة قد جعلت التعددية التقليدية فى وجهات النظر متآكلة، وأصبحت القيمة الإخبارية تراعي مباشرة أو غير مباشرة حق مصالح المالكين الكبار، خياراتهم ومواقفهم السياسية والعرقية والاقتصادية، تتسرب من خلال رؤساء تحريرهم وكبار العاملين معهم إلى أن تصل إلى أصغر صحفي في المؤسسات الكبرى حتى تصبح جزءا من نسيج ثقافة المؤسسة وبالتالي تتحول إلى طبيعة ثانية لكل العاملين، ولا تجد وجهة النظر الأخرى مكانا لها إن لم تكن موافقة للنهج العام في المؤسسة خاصة في القضايا التي يعتبرها المالك قضايا أساسية.

كبار نمور الورق يحمون مصالحهم المتبادلة، بل ويصرفون الأنظار عن النشر في مشكلات بعضهم البعض في مجال الصحافة أو غيرها من الأعمال، فلم يعرف الجمهور البريطاني- الذي تتابع صحفه كل كبيرة وصغيرة لدى الأحزاب السياسية ونقابات العمال والحكومة- لم يعرف حتى وفاة أو قل الاغتيال الغامض لروبرت ماكسويل في نوفمبر 1991 أنه اختلس مئات الملايين من الجنيهات من محفظة التأمين الخاصة بعماله لوضعها في شركاته الخاصة ولم يذكر حتى سطرا واحدا عن مشكلاته المالية.

وكانت دوافع أصيل نادر في شراء أكبر جريدتين تركيتين يوميتين هو منعهما من إدخال أنفيهما في إمبراطوريته الصناعية ومشروعاته ومن ضمنها سلسلة الفنادق على "الساحل التركوازي "!!

لا يشجع أصحاب الصحف نقد أصحاب الصحف الأخرى أو التعرض لمؤسساتهم الصناعية أو التجارية، فهناك حلف غير معلن فيما بينهم إلا في الأمور الصغيرة، مثلا مالكو الصحف الكبرى في بريطانيا أمثال مردوخ أو بلاك أو روثرمير من النادر أن ينشروا ما يسيء إلى أي واحد منهم. وفي خلال ثلاثين سنة لم ينشر شيء سلبي حول عائلات جراهام أو سلزبيرجر أو شندلر أصحاب الصحف الثلاث الأهم في الولايات المتحدة. فوق ذلك رؤساء التحرير أنفسهم لا يريدون إزعاج الملاك الآخرين لأنهم لا يريدون أن يفسدوا على أنفسهم مجالات فرص العمل الأخرى في المستقبل، بمعنى أنهم يحصلون على رواتبهم اليوم من هذا المالك ولكن من يدري لعلهم يحتاجون إلى عمل في المستقبل عند ما لك آخر.

يقول المؤلف: لقد اعترف لي أكثر من مالك للصحف- شخصيا- أن فلانا أو علانا من الملاك الآخرين سوف يفلسون قريبا، وأنه يعرف حجم مديونياتهم، قالوا لي هذا الكلام في لندن وسيدني وتكساس وبومبي، وعندما أسألهم لماذا لا يوجهون المحررين الاقتصاديين في صحفهم لنشر ما يعرفونه يصرفون عيونهم عني وهم يبتسمون ابتسامة تشبه ابتسامة بوذا!!

ملاك الصحف يتملقهم الصناعيون والسياسيون على السواء، فالسياسي الذي يعتقد أن التغطية الصحفية لنشاطاته تفيده في الصعود على السلم السياسي يحاول أن يوطد العلاقة مع أصحاب الصحف: دعوات خاصة على العشاء، بعض الأسرار المعروفة لأسبقية النشر في مقابل إشادة بأعماله السياسية وتلميعه اجتماعيا.

رؤساء ومديرو التحرير عيونهم مفتوحة على اتساعها لرغبات المالك، ما يحب وما يكره، وتتحول رغباته وإشاراته إلى موضوعات عامة يقرؤها القراء، إن كان المالك مثلا لا يحب المعكرونة فإن حملة ضد المعجنات وضررها على الصحة العامة تترجم هذا الكره، وإن أشار إلى أنه قضى إجازة ممتازة في إسبانيا، أو اشتكى من تأخر طائرته، أو اعتقد أن موضوع البيئة موضوع مهم، فإن محرر البيئة والمحرر الاقتصادي وكاتب العمود كلهم يوكل إليهم رئيس التحرير متابعة هذا الموضوع المهم الذي يشغل بال "الرئيس ".

مكاتب الصحف خاصة الأدوار البعيدة عن الإدارة تعج بالشائعات، فبعض اقتراحات المالك تكبر وتضخم عندما تنتقل من مستوى إداري في الصحيفة إلى مستوى أدنى.

يذكر الكاتب مثالا طريفا، فمرة أشار أحد ملاك الصحف وهو يمشي في الممر متجها إلى مكتبه إلى رئيس تحريره قائلا: هل تعلم أنه أثناء دخولي المبنى هذا الصباح وجدت أن المحل الصغير للقطع الأثرية الذي أمامنا قد أغلق، مع الأسف الشديد لابد أنه أحد ضحايا الوضع الاقتصادي السيىء! ملاحظة عابرة. ثم يتوجه رئيس التحرير للمؤتمر اليومي للتحرير وهو غارق في التفكير ويقول في الاجتماع لقد أبلغني "الرئيس " أن هناك أزمة تواجه قطاع بيع القطع الأثرية وهم يغلقون محلاتهم نتيجة للانكماش الاقتصادي الذي تمر به البلاد!

وتنتقل هذه المعلومة مضخمة كل مرة إلى أن تصل إلى محرري الصفحات الاقتصادية، الرئيس منزعج لأجل الوضع الاقتصادي ولابد من حملة صحفية لدراسة الموضوع وأن تكون الموضوع الرئيسي إصدارات الصحف الجديدة غالبا ما تفشل، لذلك يركزون على الصحف ذات السمعة على الصفحة الأولى غدا، وعند الظهر يكون مجموعة من المحررين قد قابلوا المتخصصين في الجامعات وغرف التجارة، وقابلوا عشرات من المواطنين، وذهبت مجموعة أخرى لتصوير المحل المغلق والبحث عن صاحبه لإجراء مقابلة حية معه، ويكتشف الجميع بعد ذلك أن المحل مغلق مؤقتا لأن صاحبه في إجازة سنوية وسيعود لفتحه بعد أسبوع!

أهمية أن تكون مالكا

لماذا أصبحت سلطة صاحب الجريدة أقوى وأكثر تأثيرا مثلا من سلطة صاحب سلسلة من محلات البقالة الكبيرة، أو سلطة صاحب متجر متعدد الأدوار من المحلات الكبرى؟ ونظريا فإن صاحب متاجر البقالة أو المحلات الكبرى يجب أن يتمتع باحترام أكثر من صاحب جريدة سيارة! ولكن الأمر ليس كذلك. ببساطة لأنه بمجرد أن تملك جريدة يومية فإن المالك يتحول تلقائيا إلى خبير في الاقتصاد والسياسة و... مستقبل العالم. ويكون محط امتداح وثناء ليس فقط من موظفيه، ولكن من عدد من الناس أصحاب الأعمال، أعضاء مجالس الإدارة، جمعيات النفع العام، أو أناس يتوقعون الحصول على عمل عنده.

لماذا يلجأ هؤلاء الرجال الأغنياء لشراء الصحف القائمة على الرغم من أن إصدار جريدة أو أكثر في الدول التي تتبع نظام السوق لا توجد أمامها أي حواجز.

يختصر المؤلف الإجابة بالقول إن الإصدارات الجديدة في الغالب تفشل.

رالف انجلسول في الولايات المتحدة أطلق أكبر مشروع صحفي جديد وصرف عليه ملايين الدولارات في مدينة سانت لويس، واستمر المشروع فقط ثلاثة أشهر قبل أن يفشل ويأخذ معه 120 مليون دولار، روبرت ماكسويل أراد أن ينافس الجريدة المسائية في لندن التي يملكها روثر مير وهي " الإيفننج ستاندر" فأطلق " الديلي نيوز" استمرت ثلاثة أشهر وأغلقت بخسارة بلغت 50 مليون جنيه إسترليني.

"بالمناسبة الإيفننج ستاندر هي الجريدة البريطانية الاكثر انتشارا من كل الصحف- أخيرا توزع حوالي 650 ألف نسخة وهي مسائية توزع في لندن الكبرى فقط ".

المشروعات الصحفية الجديدة الناجحة قليلة، الريبابليكا " الجمهورية" في إيطاليا، الموندو في إسبانيا، ويو. إس. أيه توداي في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا جريدة الإندبندنت وقصة الأخيرة طريفة أيضا فعندما اختلف بعض الصحافيين مع صاحب التلجراف كونراد بلاك الذي يملك الصحيفة السابقة، إضافة إلى مجموعة صحف أخرى في بريطانيا أولا والكاريبي وكندا والولايات المتحدة، خرجوا كمجموعة وأسسوا " الإندبندنت " ولخبرتهم الصحفية الممتازة نجحت الجريدة.

الصراع على أسواق الشرق

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي حصل سباق من قبل " نمور الصحف " على امتلاك الصحف في عواصم ودول أوربا الشرقية، بعض هذه الصحف كانت أرقامها التوزيعية كبيرة، ولكنها كانت توزع تلك الأعداد لأنها صحيفة الحزب أو الدولة في الدولة الاشتراكية السابقة، وكان على جميع المصانع والمؤسسات والمنظمات الحزبية شراء هذه الصحيفة وكانت قراءتها واجبا سياسيا وحزبيا ، وفي كل الحالات كان المالك الغربي وليس ممثل عنه هو الذي يسعى لامتلاك الصحف هناك ويتفاوض مباشرة حتى لقد أصاب هؤلاء الملاك نشاط مرضي في التسابق على اقتناص هذه الصحف، كما يقول المؤلف، ويبدو أن هناك ثلاثة أسباب جعلتهم يسعون حثيثا لتملك صحافة في أوربا الشرقية، أول هذه الأسباب حياتهم العملية خارج مجال الإعلام، بمعنى اهتماماتهم ومصالحهم الاقتصادية، فقد بدا أن هناك فرصا عظيمة للاستثمار، أي شيء معروض للبيع بدءا من شراء المصانع والأراضي وإقامة المشروعات الاستهلاكية وبأثمان بخسة، إلى شراء الصحف التي تحقق الربح بجانب احتكارها للرأي العام أيضا. وثاني هذه الأسباب، هو أن شعوب أوربا الشرقية أصبحت سوقا شرهة للمصنوعات الغربية، فقد كان حلم الحصول على أشياء مصنعة في الغرب حلما محرما في الماضي، وبعد الانفتاح تدفق الناس للحصول على أدوات الاستهلاك الغربي، فركدت البضاعة المحلية التي لم تكن تخلو من الجودة وأصبحت أكثر رخصا. أما السبب الثالث فهو عدد القراء وبالتالي عدد المستهلكين الضخم في بلاد لم تعرف المنافسة بعد.

من الأرض إلى السماء

كبار محتكري الصحافة أو نمور الورق يتجهون اتجاها آخر يضاف إلى احتكاراتهم الأرضية، فقد تحول التنافس الآن إلى السماء وأعني بها السيطرة على البث التلفزيوني العالمي والذي أصبح حقيقة معيشه لدى معظم شعوب الأرض- عدا القلة التي لا تزال تحت ستار حديدي بشكل أو بآخر- السيطرة على البث التلفزيوني الدولي هي بمثابة الحصول على "رخصة بطبع النقود" كما يقول أحد المعلقين. وإذا كان ذلك حقيقة فلم لا يتجه إليها ملاك الصحف! وهذا ما تم بالفعل من كبارهم: روبرت مردوخ صاحب جريدة التايمز وعدد آخر من الجرائد في القارات الأربع. أنشا منذ سنوات محطة سكاي البريطانية، بدأت في بريطانيا وأوربا واصبحت دولية تشع برامج مختلفة.

انتشار الأقمار الصناعية التي تبث إلى العالم البرامج التلفزيونية تقدم أكثر تعبيراتها حيوية في القاعة التي يشغلها اتحاد الاتصالات الدولية في قصر الأمم في مدينة جنيف. في تلك القاعة خريطة ضخمة في وسطها الكرة الأرضية زاهية محاطة بخطوط متداخلة متجهة إلى الفضاء الأزرق، أسهم تشير إلى 446 نقطة هي الأقمار الصناعية التي أطلقت في الفضاء منذ سنة 1970، مئات منها تستقبل وتبث البرامج التلفزيونية لأركان العالم الأربعة وهناك قائمة للدول التي قامت بإطلاق هذه الأقمار.

138 قمرا صناعيا أطلقها الاتحاد السوفييتي "سابقا"، 126 أطلقتها الولايات المتحدة، 6 أقمار أطلقتها بريطانيا، 17 فرنسا، وعلى الرغم من أن أقل من ربع هذه الأقمار تبث برامج تلفزيونية والباقي لها أغراض أخرى، من بينها جمع المعلومات العسكرية، فإنه بحلول سنة 2000 سيزيد عدد الأقمار الصناعية الخاصة بالبث التلفزيوني على 370 قمرا.

هناك معركة متوقعة بين قطبين من أقطاب ملاك الصحافة على هذا المجال، من جهة هناك روبرت مردوخ ومن جهة أخرى هناك تيد تيرنر صاحب محطة CNN الأمريكية المشهورة. احتكار البث التلفزيوني العالمي من تيد تيرنر لم يقابل بأي تحد حقيقي منذ سنة 1980، ولكن مردوخ صاحب السكاي في بريطانيا وتلفزيون فوكس في أمريكا، يتأهب للدخول في آسيا لربط شبكته الدولية مع بعضها.

وفي هذه الأثناء فإن هناك حربا أخرى أيضا لتخفيف تكاليف إطلاق القمر الصناعي، فالأوربيون والأمريكيون في مواجهة تكاليف الإطلاق الصينية والروسية المنخفضة يتشاركون معا في أبحاث تجعل إطلاق الأقمار الصناعية إلى الفضاء أقل تكلفة.

خلال السنوات السبع القادمة يقدر الخبراء "أي حتى سنة 2000" أن مشاهدي التلفزيون المبثوث عبر الأقمار الصناعية سيفوق في بعض البلدان مشاهدي التلفزيون القومي والمحلي.

لصالح من؟

إن الاكتشافات الجديدة لوسائل الاتصال لا تتوقف، وسوف تؤدي بالضرورة إلى إحداث طفرة كبيرة في كم وفورية الإعلام، ولكن ما يحدث الآن يثير المخاوف من ألا تصبح هذه الوسائل أدوات في خدمة الديمقراطية وتدفق المعرفة بقدر ما تكون أداة لتوجيه العقول والتلاعب بها. وبدلا من أن تكون وسيلة للمشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي تتحول لتقدم نوعا من الوعي الزائف وتسبب الانحراف عن جوهر القضايا الأساسية. وهكذا لا يصبح من المهم توالي تطور هذه التقنيات بقدر ما يكون السؤال.. لمصلحة من وعت سيطرة من سيجري استخدام هذه التقنيات؟

هل تستمر هذه الشركات في إحكام سيطرتها الإعلامية؟ فرغم الحقائق المذهلة التى أوردها الكتاب الذي تعرضنا له في مجال صناعة الصحف فقط إلا أن المعلومات الضرورية من أجل كسر هذه الدائرة المغلقة من الامتيازات لم تتوافر بعد. وهذا الأمر هو جزء من احتكار المعلومات التي تتحكم فيها مؤسسة ما، وهو الذي يعطيها قوتها اللامرئية.

ولكن من المؤكد أن اتساع هذا النظام وتطوره سوف يتيح الفرصة لأعداد كبيرة من العمالة المؤهلة التي يمكن أن تزيد من انتقادها لتلك القبضة من الاحتكار وتسعى إلى كسرها، كما أن ظهور أنواع مختلفة من التعاونيات الإعلامية تقوم على أساس ثقافي أو عرقي أو اقتصادي سوف تساعد على هذا الأمر، كما أن رخص وسائل الاتصال سوف يكون فرصة طيبة تتيح لأعداد كبيرة من الأفراد اكتساب المعرفة الكافية بالممارسات الفنية والإجرائية للعمل الإعلامي.

إن ارتفاع الحس الديمقراطي والرغبة في المشاركة لدى قطاعات كبيرة من الناس سوف يولد جماعات صغيرة متفرقة تعمل بعيدا عن السلطة الإعلامية. وسوف تكون هذه الجماعات- التي هي موجودة بالفعل وإن كانت غير مؤثرة- النواة الحقيقية لكسر هذا الاحتكار الإعلامي.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نمور شرسة من الورق تبدا حرب الفضاء