«سرُّ قرطبة»

  «سرُّ قرطبة»
        

          لم يصمت دقيقة واحدة، طوال الرحلة، موضوع واحد، الحب، حبّه لها، الجمال، جمالها، وجهها وما فيه من أشياء، الأشياء هي عيناها، شفتاها، وجنتاها، شعرها. ثم ينزل من منطقة الوجه ليصل إلى رجليها مرورًا بمناطق أخرى. هو يتخيّلها، لم ير بعد جسدها. الخيال أجمل من الواقع.

          لم يترك فرصة لي للتكلّم، فضّلت أنا ذلك لئلا يطول الحوار الذي لم يكن حوارًا، بل محاضرة عن الحب والجمال والمستمع واحد، أنا.. أنا لوحدي.

          كنا معًا في القطار، من مدريد إلى قرطبة، وقرطبة الاسم نقله الإسبان إلى الشيلي عندما اكتشفوها بعد خروج المسلمين من الأندلس، بعد مضي ما يقارب السبعمائة سنة فيها، ثم الاسم، اسم قرطبة طار وحطّ في شمالي لبنان، عندما هاجر لبنانيون كعادتهم إلى تلك البلاد، وعاد منهم مَن عاد حاملاً معه اسم «قرطبة» وهي قرية في شمالي لبنان.

          لم يسكت، حتى أني نسيت ضجة القطار وضجة المسافرين، وبقي صوت هذا الذي يحاضر لي شخصيًا منذ أكثر من أربع ساعات، عن الحب، حبّه.  والجمال، جمالها. والجسد، جسدها. وأنا الصابر الكازز على أسناني لئلا أنتفض وأثور وأرمي صاحبي بحجارة نارية تسكته إلى الأبد.

          مرّ القطار بمدن وقرى كثيرة وغابت الشمس وانطفأت، وهدأ المسافرون، وعفّت رائحة الخمر والسجائر. ساد السكون في القطار وغفوت أنا.

          عندما فتحت عينيّ شمس الأندلس، ارتسم الفرح والسرور على وجهي وعادت الذكريات الحلوة، ذكرياتي أنا، اسمها «كارمن»، أكتفي بذكر اسمها ولن أقول أكثر، ليس بخلاً، بل خوفًا من أن تُنقص من جمالها وسحرها الكلمات. وكثيرًا ما تكذب الكلمات وتصدق المشاعر والذكريات الصامتة والصاخبة بالحنين، سأصمت الآن، وتمنيت أن يعود صاحبي إلى موضوعه. نظرت إليه، مازال نائمًا ولم تؤثر عليه شمس الأندلس، هززته، فتح عينًا واحدة وقال: هه.. أنا.. فقط هه..أنا.. وعاد إلى النوم العميق ترافقه أنغام شخيره.

***

          السفر بالقطار ليس كالسفر بالطائرة، الفارق كبير بينهما، الطائرة مملّة. ضجتها مزعجة، وأكثر إزعاجًا عندما تكون بجوار شخص لا تعرفه، وتكتشف وأنت طائر بين الغيوم أنه شخص مزعج، وإذا نظرت من النافذة الصغيرة، فإنك لن ترى سوى الغيوم، ومرارًا تدخل الطائرة في قلبها كأن قائدها يطير مغمّض العينين، والهبوط مرّات في بقع هوائية، وما يسمّونها بقعًا في الجو فارغة، وفارغة من أي شيء. لا أدري، لكنها فارغة، عندها يسيطر الخوف على المسافرين ويسود الصمت، صوت الخائفين والخائفات، منهم مَن يقرأ سورة من القرآن، ومنهم من يدعو الله والملائكة ويسوع والسيدة مريم أن تنتهي هذه السفرة على خير.

          أما السفر بالقطار، لن أقول إنه مريح، لكنه أجمل، أولاً إنك على الأرض وهذا أسلم، ويمر قطارك بمدن وقرى ومناظر لم ترها من قبل، وتسمع لهجات ولغات، وترى أسماء لمحطات لم تسمع بها، وتختار رفيقًا أو رفيقة للسفر، تختار وأنت في مكانك، في القطار، وأجمل رفيق للسفر هي «رفيقة السفر»، هذا أجمل وأطيب وأكثر شاعرية، وهذا أيضًا يجعلك متمنيًا ألا يصل القطار إلى المحطة المنشودة، فتبقى طوال حياتك مسافرًا برفقة رفيقة أوجدتها الصدف لتكون أنيسة لوحدتك.

          وأنا أتخيّل هذا مغمّض العينين، شعرت بهزّة، صديقي يهزّني من كتفي، وصلنا إلى قرطبة، قال صارخًا وعيناه مفتحتان جدًا، نظرت إليه ولعنته، لقد أعادني إليه، إلى الواقع.

صورة القيثارة

          وصلنا إلى قرطبة القديمة في الحي العربي، قال إنها تسكن في هذا الحي، وأنا لم أخبره أني أيضًا سكنت هنا ذات مرة، ولي فيه ذكريات وليست كقصّة حبّه التي لم أتأكد منها، وهو أيضًا يجهل اسمها وعنوانها.

          نزلنا من القطار، سرنا باتجاه طريق ضيقة، أشار إليّ أن هذا هو الطريق الصحيح، أخبرتني أنه بقرب مقهى - بار، اقترحت أن نشرب أو نأكل شيئًا في البار، والبار هو «باتيو» Patio سقفه دالية تتدلى منها عناقيد عنب. جلسنا على طاولة رخامية قرب بركة ماء، طلبت شراباً وسردينًا وبعض الصحون، رفيقي طلب شرابًا لكنه لم يكن واثقًا من طلبه، حالته كانت في غير محل، فكره كان يبحث عنها، عن منزلها، لم يكن متأكدًا من العنوان في هذا الطريق في قلب الحي العربي، لم يقل ذلك، لكني استنتجت من حالته وتعابير وجهه، بعد قليل دخل شاب وشابة هو يحمل قيثارة علمت أن النادل يدعى خوسيه «Jose».

          النادل: Hola Manuel.. هولا مانويل، الوقت مبكر للقيثارة، قال ضاحكًا: مانويل: صديقتي «مارغا» Marga من جبال البيرينيه Pyrene على الحدود الفرنسية.

          خوسيه ضاحكًا: يعني أنها ليست إسبانية مائة بالمائة!

          قدّم لهما فنجانين من القهوة والحليب وخبزًا، شربا وأكلا. ثم عاد خوسيه بزجاجة شراب مؤهلاً بصديقة عازف القيثارة مانويل الذي أخذ يعرّي القيثارة من ثوبها بلطف ونعومة، لمّا صارت عارية تمامًا، أخذها بين ذراعيه وراح يداعب أوتارها وهو يتكلّم هامسًا إلى صديقته مارغا، أنا كنت سعيدًا بهذا الجو. رفيقي صامت وعلى محياه تعبير خجول من السرور. طلع صوت القيثارة وصوت خفيف من مارغا، فجأة غصّ الباتيو - البار بالناس، وسبحت في أجوائه الموسيقى والغناء ودخان السيجار والضجة الخاصة بالإسبان في المقاهي والبارات وفي الشوارع، والقيثارة مازالت تتلوّى بين ذراعيّ مانويل برفقة صوت مارغا، امتلأت طاولتنا بصحون المازة الإسبانية «Tapas» وأعتقد أني مازلت قادرًا على الوقوف والسير، ولم أكن واثقًا من حالة صديقي الذي لم يعد يذكر تلك الحبيبة التي لا اسم لها ولا عنوان.

***

          دلّنا النادل خوسيه على منزل يؤجّر غرفًا. ذهبنا إلى العنوان، استقبلتنا سيدة، أدخلتنا إلى غرفة كل ما فيها باللون الأحمر، البساط، الأغطية، الستارات، كل شيء. نمنا، غفا صاحبي وبقيت اتحسّر على صوت القيثارة وصوت مارغا وضجة البار، إذ أمضيت ليلة مستمعًا «مكرهًا» لشخير صاحبي، لعنة الله عليه وعلى هذه الليلة.

          في الصباح، عندما خرجنا من الغرفة لتناول الفطور، فوجئنا بوجود النادل خوسيه، عندما رآنا ضحك وقال: هذه زوجتي. وهذه ابنتي. جلسنا معًا نتناول الفطور بمرح وسرور، بعدها، خرجنا سويّة مع خوسيه الذي ودّعنا ذاهبًا إلى عمله طالبًا منا أن نأتي الساعة الثانية لأكل البائيليا Paella.

          رحت ورفيقي ندور في أزقّة الحي، باحثين عن المرأة التي لا نعرف اسمها ولا عنوانها، وأصبحت هذه المسألة مشكلتي أنا، أكثر منه، لأنه - على ما رأيت - صار لا يعطي اهتمامًا لهذا الموضوع، موضوع مجيئنا إلى قرطبة، عندما انتشرت شمس الظهر على أرض ومنازل ورءوس الناس ونحن منهم، وأخذت الأزقة والطرق تفرغ من الناس هروبًا من نار الشمس، أسرعنا باتجاه البار، وكانت الساعة الثالثة، قبل أن نصل إلى بار = الكوردوباس - El Cordobes، استقبلتنا رائحة البائيليا Paella. والكوردوباس اسم لمصارع الثيران المشهور في إسبانيا وفي العالم والمعبود في مدينته قرطبة.

          أكل كلٌّ منا صحنًا «عرمرما» وشربنا وعدنا إلى المنزل، إلى القيلولة، والقيلولة في الأندلس من ضرورات العيش.

          عند السابعة مساء خرجنا دون أن نقرّر إلى أي مكان، لكن اتجاه سيرنا اعتاد أن يوصلنا إلى البار، وعلمنا أن ليلة السبت ستكون ليلة عامرة. لم نبق طويلاً في البار، إذ أن  النهار لم ينته بعد والشمس مازالت مسلّطة على كل شيء، ذهبنا لزيارة «الجامع - الكاتدرائية» وبقينا في هذا المكان طويلاً متنقلين من زاوية إلى زاوية وقنطرة وأخرى، دون أن نملّ من النظر إلى الفسيفساء الذي يعطي نورًا ولونًا يأخذك إلى أحلام روحانية معبّرة عن أسمى الشعور، شعور بالجمال الصافي، البحت، النادر.

لسنا غريبين

          عندما وصلنا، بل عدنا إلى البار وكانت الساعة العاشرة، قلت لصاحبي إذا أمضينا السهرة هنا، يعني هذا أننا سنمضي الوقت ونحن نشرب، وإذا غنّوا سنغنّي، وإذا رقصوا سنرقص.

          ومضت الساعات، وامتلأت الكراسي بالنساء والرجال، وامتلأت الطاولات بالصحون والقناني، والأجواء بالغناء، هاهو عازف القيثارة ورفيقته، سلّما علينا وجلسا معنا، طبعًا أهلاً وسهلاً، شعرنا أننا لسنا بغريبين، وأننا من عائلة بار «الكوردوباس» وأصدقاؤنا هم خوسيه ومانويل ومارغا الجميلة.. أوه.. وما أن مضت ساعة على جلوسنا حول الطاولة حتى أصبحنا معهما «خوش - بوش»، خصوصًا فريد، هنا اعتذر لأني لم أذكر بعد اسم صديقي.. هو فريد وأنا أنيس، لنعد إلى السهرة.

          إذًا أصبحنا «خوش - بوش» مع مانويل ومارغا، يا الله ما أجملها! قلتها بصوت عال وأنا أنظر إليها، ابتسمت كأنها أحسّت أو فهمت ما أقوله بهذه اللغة.. سألتني ماذا قلت؟ أجبتها Eres Muy Maia يعني أنت جميلة جدًا، أخذت كأسها وراحت ترقص على أنغام الفلامنكو والسيفيّانا Sevillana بمشاركة التصفيق وغناء الناس، ومارغا ترقص وترقص معها الكئوس والعيون والصدور والخصور، وتصفّق لها الأكفّ، وكادت دمعة تسقط من عيني، لا أدري ما معناها، وما لبثت عيناي إلاّ أن تترطّبا، لم أذكر أني دمعت هكذا يومًا، دموعًا تعبّر ليس عن الحزن ولا عن الفرح ولا عن الشوق ولا عن الحب، شعور جعلني أتقدّم من مارغا راقصًا.

***

          في اليوم التالي، اقترحت على فريد أن نودّع قرطبة ونسافر لزيارة غرناطة، ونزور قصر الحمراء وجنائنه، نظر إلي ولم يقل شيئًا بعد دقائق، قال لي بصوت خافت: قرطبة.. حلوة.. جميلة.. سأبقى.. ما قولك أن نمضي بعض أيام فيها، قرطبة ساحرة! أجبته أني أفضّل الذهاب غدًا إلى غرناطة أو إشبيليا، قال: نلتقي إذًا في مدريد. أنا سأبقى هنا. لم أجب، لكنه تابع: نبقى أيامًا ثم نذهب معًا حيثما تريد. قلت: أنت تريد وترغب بالبقاء لوحدك في قرطبة، لقد وجدت الآن أصحابًا، وجوّا، لكن تلك المرأة التي أتينا للبحث عنها، أين صارت؟ انتهى البحث عنها والاهتمام بها؟

          - يا أنيس.. يا صديقي.

          - كفى.. كفى.

          - طيب.. أعتقد أن هذه المدينة قد بدّلت أشياء من أفكاري، وحالتي، بل قد جعلتني أحب، أحب كل شيء، أحب الحاضر، اليوم، ولا أكترث للبارحة وللغد، حياتي أصبحت يوميّة، أرغب في تكملة هذه المرحلة الجديدة من تجربتي.

          - أي تجربة، عن أي  تجربة؟ ماذا تقول؟ تتفلسف! سررنا.. نعم! وأمضينا أوقاتًا أستطيع أن أقول إنها لذيذة، فيها مزيج من الفرح والبهجة والحب والغناء والرقص، واللهو، والعربدة، كان عيدًا دائمًا..

          - تعني أنك ستبقى معي؟

          - لا. أنا سأمضي أيامًا في غرناطة ثم أعود إلى مدريد.

***

          في اليوم التالي، رافقني فريد إلى محطة القطار، وصلت إلى مدريد في العاشرة ليلاً.

          مضى شهران، مازلت أنتظر عودته إلى مدريد.

 

 

أمين الباشا