صور من الحياة: البعير وأنا سليم الفهد

صور من الحياة: البعير وأنا

علاقتي الحميمة بالجمل قديمة جدا، إلى حد أني لا أعي متى وكيف ولماذا بدأت هذه العلاقة المتينة الراسخة.. كل ما أخبره: أني وعيت (على الدنيا) وأنا مغرم صبابة بالجمل!

لكي أنعش ذاكرتي: بشأن ماضي وتاريخ علاقتي بالجمل، أثناء فترة الطفولة الأولى، لجأت إلى الذين يكبرونني سنا من أفراد الأسرة وقيل لي: إنني حين حفظت عن ظهر قلب جزء " عم " من القرآن الكريم، وحاول الوالد رحمه الله مكافأتي فقد طلبت منه اقتناء بعيرصغير" على قدي " كنت يومها في كتاب " الملا مرشد" بحي المرقاب رحمه الله. وقد قوبل طلبي من الكبار بالدهشة والغرابة المعجونتين بالاستهجان! ذلك أن أقراني الأطفال كانوا يطمحون إلى اقتناء دراجة هوائية من واردات بلاد الهند. وكان مالك الدراجة يتيه فخرا وغرورا وتميزا عن بقية الأطفال. لا أذكر عمري يومها على وجه التحديد، لكني أتذكر بدقة تفاصيل لقائي بأبي رحمه الله بعد إعلان "نجاحي " بحفظ جزء كامل من القرآن الكريم. وعلى الرغم من أن الزفة الاحتفالية التي طافت شوارع الحي كانت مبهجة ومفرحة، إلا أن تفكيري كان محصورا في الهدية التي سأمنح إياها نظير إنجازي. وكنت قد حسمت نوع الهدية و ذهني ومع نفسي، دون أن أبوح بالسر لأحد! ووسط الطقوس الاحتفالية المألوفة لمثل هذه المناسبة وجدتني أقول لنفسي بصوت خافت مهموس: لا شك أن العائلة ستشاورني في الهدية التي أرغب فيها. هكذا سمعت منهم إبان ذهابي وإيابي إلى مدرسة "ملا مرشد" الأهلية.

وحين عن لي سؤال رفاق الدراسة عن نوع الهدية المرتجاة: أجمعوا كلهم على الدراجة الهوائية. ولست ألومهم على هذا الاختيار. فقد كانت هذه الدراجة مطمح كل الأطفال ومحط آمالهم. حسبك أن تعرف أن قيمتها المعنوية فضلا عن المادية غالية جدا، إن المعلمين أنفسهم يمتطون النعال ويمشون يوميا من منازلهم إلى المدرسة الأهلية التقليدية " الكتاب "، ليس حبا في التريض بل لغياب الدراجة، الناشىء عن شح النقود والسيولة المادية. زد على ذلك: الخشية من كل جديد وعدم ألفته، والاعتقاد بأن امتطاء الدراجة يقلل من هيبة المعلم و"الملا" أو الفقيه كما يعرف في ديار المغرب وبعض ديار المشرق.

أريد بعيرا

الحاصل أن السؤال المنتظر جاء أخيرا، قيل لي: ماذا تبغي هدية لك نظير إنجازك؟ قلت بدون تردد: أريد جملا صغيرا الحين. وجم القوم من الطلب الغريب. تبادلوا النظرات فيما بينهم بشيء من الدهشة والغرابة. رأيت في عيونهم عدم القبول. قال العم الكبير رحمه الله: بعير مرة واحدة؟! لم لا تطلب شيئا يليق بسنك ويرغب فيه كل أقرانك؟! أصررت على بغيتي وتشبثت بها، كما هو دأب الأطفال وعادتهم في مثل هذه المناسبات. ولعلي تماديت أكثر من ذلك، حين انفجرت في البكاء والعويل والصراخ، ملعلعا باسم الهدية التي أرغب فيها مرددا: "أبغي بعير صغير بس "! طلب غريب بالنسبة إلى طفل، فالبعير- طال عمره- ليس لعبة يقتنيها الأطفال مطلقا. وسمعت من يقول زاجرا يردد الموال نفسه: تعال هنا يا ولد، أهذا وقت طلب بعير؟! سيما أن المنطقة في سبيلها أن تودع المواصلات البهيمية، إثر وصول السيارة والدراجة. ثمة آخر أسمعه وأشعر بأنه يزيد في عيار القمع والزجر قائلا: هذا " جاهل " صغير لا تعيروه اهتماما، قال يبغي بعير قال. صحيح إنك- المعني العبد لله- غاوي شقاوة وفقر وصعلكة و. . زدت أنا الآخر في عيار ونبرة وطبقة العويل علي "أكسر خاطرهم " فيرقون لحالي ويرأفون ببراءتي.

في العشية تحلقنا حول العشاء. مازال القوم يهذرون في مسألة البعير هذه. وشممت بأن نيتهم تتجه صوب اصطحابي إلى متجر صاحبه هندي يبيع الدراجات الهندية والإنجليزية، وقبل تناول الطعام اضطررت إلى الكف عن ممارسة تمثيلية البكاء، بعد أن لوحوا لي بـ "الفلقة" أو "الجحيشة"- حسب لساننا العربي في الخليج- ولأني كنت شديد الجوع؟ ولا أرغب في تناول وجبة قمعية قبل العشاء، اضطررت إلى أن أبلع ريقي وألوذ بالصمت، ولكن على مضض.

وقت النوم تغطيت بالعناد، متوسدا رغبتي الأثيرة إلى نفسي. ولعلي حلمت بالبعير وأنا نائم! وربما بكيت. الله أعلم. الحاصل أني حين صحوت مبكرا- كالعادة- قادوني إلى " الجاخور" حظيرة الدواب حيث وجدت ناقة بيضاء شيماء، ترضع رضيعها الجمل الصغير. غمرتني الدهشة والسعادة. ولابد أني- وقتها- دحرجت العديد من الأسئلة، كأن أشبع فضولي لمعرفة عملية الرضاعة، وعن العلاقة بين الجمل الطفل وأمه، وقد أطرح أسئلة حرجة من فصيلة "عيب وخطأ" دون أن أدري، كما هو دأب الأطفال الذين يحبون ويتمرغون في سن السؤال. لا أتذكر بدقة كيف تصادقت مع الجمل الطفل، لكني متأكد أن العملية تمت بسرعة شديدة. لعلها لم تستغرق مني سوى ساعة وربما أقل. أما العلاقة مع الأم فقد استغرقت وقتا أطول. كانت الناقة متوجسة حذرة قلقة. ولعل حدس الجمل ورهافة استشرافه للأيام القادمة الحبلى بالمفاجآت، يخبره جيدا الإنسان الذي يعرف الجمل عن قرب.

والجمل رغم كل ما قيل فيه وكتب عنه وأنتج من أفلام سينمائية وتلفزيونية، إلا أني أظن أنه مظلوم ولم يأخذ حظه من الصيت والسمعة و"الانتشار" مثل الفرس والمهرة.

الجمل المظلوم

وخذ عندك على سبيل المثال مسألة رواج أندية الفروسية ورياضتها، على حساب مثيلاتها المكرسة للهجن، ستلاحظ أن الحصان معزز مكرم في كل مكان وزمان، ويحظى بمكاسب وفوائد ومميزات، لا تتوافر بنفس القدر والحجم والأهمية لعمنا الجمل! مع أنه لا يقل عنه في مناقبه ومزاياه وخصائصه. هذا إن لم نقل إنه يمتاز عنه بقدرات تنقص الفرس وغير موجودة فيه! ولعل الجمل لم يحظ بالإنصاف إلا أخيرا حين اختاره الفريق الوطني الكويتي المشارك فى بطولة كأس العالم "إسبانيا 1982 " كتعويذة له. وقد أثار هذا الاختيار زوبعة في الصحافة الغربية بعامة وفي صحافة الإثارة بخاصة، التى راحت تتهكم على عمنا الجمل. . وعلى العرب والمسلمين! وأذكر أن وصول فريقنا الوطني إلى بطولة كأس العالم كان محرضا لوزارة الإعلام على إقامة تظاهرة فنية ثقافية كويتية في إسبانيا طوال شهرين كاملين. وكان العبدلله بمعية فريق العمل الذي خطط لأنشطة هذه التظاهرة وأشرف على تنفيذها. وأذكر من هذا الفريق الطيب الأخ الصديق حمد السعيدان رحمه الله وغفر له، والإخوة عبدالرحمن الهادي مدير المركز الإعلامي الكويتي حاليا في مصر المحروسة، وخالد الحربان المعلق الرياضي المعروف، وأحمد البقجي مدير إدارة الإنتاج في التلفزيون . . وأمير الشريف القيم على المصروفات من الإدارة المالية فى الوزارة وغيرهم كثر. وقد اتفق فريق العمل على أن تكون الأنشطة الإعلامية والثقافية والفنية المكرسة لهذه المناسبة متمحورة حول هدف عام يقول أو يسعى إلى أن يقنع الآخرين بأن فريقنا الكروي لم يصل إلى بطولة كأس العالم لعام 1982 مصادفة أو من فراغ. بل إنه خارج ومولود من رحم التنميه الوطنية الشاملة، وبشائرها الواعدة. وكنا نقيم في العاصمة الإسبانية "مدريد"، بينما كان فريقنا يقيم فى مدينة "بلد الوليد"، التي كانت تنتمي إلى الأندلس الإسلامي الضائع، كما يبدو من اسمها. أما الجمل العربي فقد كان مغربيا تم جلبه بالمركب من مدينة "طنجة" إلى أحد الموانىء الإسبانية، قبل بداية البطولة بشهر على الأقل. وقد تكفل بشرائه واختياره وجلبه الرياضي الإعلامي المعروف فوزي جلال بناء على تكليف من الشهيد الشيخ فهد الأحمد رحمه الله وغفر له. وقد ضجت صحف الإثارة الأوربية بالإعلام المضاد تجاه تعويذة الجمل، وبخاصة حينما علمت أنه- حضرة الجمل ذاته- سيشارك في الطقوس الفلكلورية لحفل الافتتاح.

أيهما أهم. . الجمل أم اللاعبون؟

ومن هنا فإن المؤتمرات الصحفية التي نظمت "لأبي أحمد" رحمه الله بمعية سفيرنا آنذاك الأخ محمد السداح / قبل بداية البطولة الكروية العالمية، يندر أن تمر بدون أسئلة استفزازية من قبل بعض الصحفيين الأوربيين العنصريين، إلا أن الشهيد "بوأحمد" تمكن من إخراسهم وإفحامهم، وأذكر في هذا السياق أنه تحدث- بحرارته المعهودة - عن أسباب ومبررات اختيار الجمل تعويذة لفريقنا المشارك في البطولة العالمية الكروية، موضحا الدور الحيوي المهم الذي يقوم به الجمل في الحياة اليومية لعرب الصحاري والبوادي، مؤكدا على فعله الفذ في نقل الحضارة العربية الإسلامية. . وفي نشر العقيدة الإسلامية. وكان يختم "مرافعته " المنطقية عن الجمل بتساؤل يبدو أنه موجه إلى الصحفيين الاستفزازيين قائلا: إن بعضكم يعيب علينا اختيار الجمل تعويذة للفريق الوطني أكان يرضيكم أن نختار خنزيرا أو كلبا؟! ثم يستطرد قائلا: لعلنا لو فعلنا ذلك، لكنتم لحستم تهكمكم واستنكاركم، وبلعتم ريقكم وأسئلتكم الاستفزازية، لكننا- صراحة- لا نسعى إلى إرضاء صحافة الإثارة والابتزاز. . ولا يهمنا ذلك مطلقا! وأحسبني لست بحاجة إلى التنويه بسعادتي بهذا الكلام الجميل المنصف للجمل. حسبه- أي الجمل- أنه كان السبب المباشر في تعرفي بـ "أبي أحمد" ومحبتي له واقترابي منه في "الوقت بدل الضائع " كما يقولون في لغة الرياضة وكرة القدم. وأذكر أنه داعبني ذات هاتف تلفوني قائلا: أراكم يامعشر الإعلاميين تسألون عن الجمل أكثر من سؤالكهم عن أعضاء الفريق! ثم أردف ضاحكا: أخشى أن يسرق الجمل "الكاميرا" والأضواء من الكابتن اللاعب المدهش "جاسم يعقوب " وبقية أقرانه! إذ يبدو أنكم تهتمون به أكثر من اللاعبين! وإذا كان الأمر كذلك، فقد أضطر إلى نحر "التعويذة" لتكون إدام وليمة تحضرونها جميعا! وعلى الرغم من معرفتي بأنه قال ما قال، من قبيل الدعابة والمزاح، إلا أني لم أخف قلقي على بعيرنا العربي المغربي، الأمر الذي دفعني إلى إعلان خشيتي ووسوستي عليه إلى الأخ حمد السعيدان- رحمه الله- الذي اهتبل الفرصة التي قدمتها إليه فلم يوفرها- التعويذة- ولم يوفرني من لسعاته الساخرة المألوفة عنه. والمهم أن كل هذه المداعبات لم تثنني عن متابعة أخبار البعير، بل إنها حرضتني على الاتصال بالأخ "فوزي " بصفة مستمرة لم تنقطع إلا عند عودتنا إلى الوطن.

مشاكل التعويذة

الحق أني توجست من اختيار الأخ "فوزي " قيما على الجمل، ذلك أنه إنسان يفقه في الرياضة والإعلام الرياضي، ومخلوق "حضري " قد لا يفقه في طباع وسجايا وعيوب وسلوك وأخلاق الجمال. لكن حماسه للتعويذة كان فيه بعض العزاء المقرون بالشك والريبة، لأن صاحبنا- حسب ظني- ربما لا يفرق بين البعير والناقة! وربما يجلب من أسواق المملكة المغربية الشقيقة جملا بسنامين، زيا دة في " بركة " التعويذة، واجتهادا " حضريا " منه لإتقان المهنة التي كلف بها! وبعد لأي وطول انتظار وترقب من المرحوم "حمد السعيدان " والعبدلله، حضر الجمل بما حمل. وكان بعيرا صحراويا وحشيا مسرجا بالمتاعب والمشاكل والذي منهما! وهذا يعني أنه (الجمل لا فوزي جلال) يحتاج إلى دربة وتمارين، ليألف مناخ الملعب الدولي، الطافح بالضجيج والألعاب النيرانية، وجميع الطقوس الاحتفالية المالوفة في مناسبات الحفلات الافتتاحية. وقد اعترضت بعض الصحف الإسبانية والأوربية، على مشاركة عمنا الجمل، في حفل الافتتاح بدعاوى عنصرية ما أنزل الله بها من سلطان. كأن يزعم بأن الجمل حيوان وحشي متوحش، قد يسبب الضرر لبعض الموجودين في الملعب، الذين يزيد عددهم على 150 ألفا من البشر! وقيل يومها إن إحدى الجهات المختصة الإسبانية- لعلها جمعية الرفق بالحيوان- ستمنعه بحكم قضائي أو عرفي. وكنا ننظر إلى هذه الحركات على أنها جزء من الحرب النفسية الموجهة إلى فريق يشارك للمرة الأولى في هذه البطولة الكروية العالمية، ومن هنا لم نحفل بها أو نأبه لها، فشرعنا في إشاعة التعويذة وترويجها وانتشارها، بشكل ميداليات وملصقات وغيرهما. لكن مربط الجمل ليس هنا، بل يكمن في إمكان تدريبه، دون أن يصدر عنه سلوك "عروبي " لا تحمد عقباه! (ملاحظة: استخدمت مفردة " عروبي " في هذا السياق بلسان اللهجة المغربية وهي رديف لمعني " بدوي " بلساننا المشرقي الدارج) والحق أن "عروبيته " هذه ليست عيبا فيه لا سمح الله، بل إن تبعات سلوكه- هو الحيوان الصبور المسكون بهدوء الصحراء- تقع على كاهل مدربيه! فالمدة القصيرة لم تكن كافية لتدريبه. زد على ذلك أن الجمال المغربية المطروحة للبيع عادة ما تكون من الفصيلة المعدة للنحر والذبح والسلخ والأكل. أي أنها نوعية معدة للجزارة لا لمثل هذه المناسبات الاحتفالية. الحاصل أن تعويذتنا حرنت تارة، وهاجت تارة أخرى. فاضطر القيم عليها إلى إلغاء دورها حين أخفقت في "البروفة" التي تسبق الافتتاح! وقد شعرنا بالإحباط لهذا الإخفاق، وتطير بعضنا من شؤمه ولم يهدأ لي بال- مع ذلك كله- إلا حين علمت بأن إدارة الفريق الوطني، أهدت البعير المشدوه، إلى إحدى حدائق الحيوانات، في إسبانيا وحمدنا المولى سبحانه وتعالى كثيرا على نجاة البعير من الذبح وإن كان على الطريقة الإسلامية!

 

سليم الفهد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




البعير وأنا