الاغتراب الجديد.. د. أحمد أبوزيد

الاغتراب الجديد.. د. أحمد أبوزيد
        

          من الأفكار التي تناولها عدد كبير من الأعمال الروائية فكرة الهروب من هذا المجتمع الفاسد الغاشم، إلى الطبيعة الحرة المتحررة من القيود والتي تساعد على استشفاف أسرار الكون وطبيعة النفس البشرية. ويتخذ هذا الموضوع أشكالاً عدة من التعبير التي تؤدي كلها المعنى نفسه، وذلك ابتداء من رواية دوستويفسكي القصيرة التي ظهرت عام 1864 وترجمت إلى الإنجليزية بعنوان «مذكرات من تحت سطح الأرضNotes from Underground» وحتى رواية الكاتب الأمريكي الزنجي ريتشارد رايت عن «الرجل الذي عاش تحت سطح الأرض» The Man Who Lived Underground التي تحكي قصة زنجي أسود يهرب لاتهامه بجريمة لم يرتكبها وتلصق به، لا لشيء إلا لأنه زنجي أسود غير مرغوب فيه، وحين يجد أنه أصبح على وشك الوقوع في قبضة مطارديه يختبئ داخل بالوعة لكى يعيش تحت الأرض بعيدا عن المجتمع الذي يلفظه.

          الرواية ترمز في بعض أبعادها على الأقل إلى هروبه هو نفسه من الجنوب حيث التمييز العنصرى واضطهاد الزنوج، فقد كان ريتشارد رايت سليل عائلة من العبيد، وكان أبوه نفسه عاملاً في مزرعة كغيره من أبناء العبيد، وبالرغم من نبوغه كان يشعر بأنهم في الجنوب ينظرون إليه باستعلاء مهين على أنه مجرد زنجي أسود بدلاً من أن يعاملوه على أنه كاتب أمريكي مرموق، مما اضطره إلى النزوح إلى الشمال الأكثر تسامحًا قبل أن يترك إلى باريس. فالرواية ترمز إلى اختفائه تحت الأرض.

          ورواية دوستويفسكي التي تأثر ريتشارد رايت بها تدور هي أيضا حول إنسان لانعرف اسمه وهو يروي قصته وذكرياته المريرة عن حياته القاسية البائسة المنعزلة كموظف متقاعد له قيمه وأفكاره وأسلوبه التقليدي الخاص في التفكير والحياة التي تختلف عن النمط السائد في المجتمع، ويعاني في الوقت ذاته بحكم تقدمه في السن  الوحدة وآلام وأوجاع الجسد والروح، ويحس بقسوة الحياة والمجتمع والعجز في الوقت نفسه حتى عن لقاء الآخرين والتعامل معهم بنوع من الندّية لأنهم ينظرون إليه كشيء أكثر منه إنسانًا، ويدفعه اليأس والبؤس إلى الشعور بالغضب والنقمة والانزواء.

          من جانب آخر نجد فرانز كافكا في روايته القصيرة بعنوان المسخMetamorphosis يتناول الفكرة نفسها والموضوع بأسلوبه الرمزي المميز، حيث يتحوّل البطل إلى حشرة يأنف منها أفراد عائلته فينبذونها وتضطر إلى الاختفاء كما يفعل هو في صورته الآدمية. فهو يرمز بذلك إلى كيف يمكن للحياة البشرية أن تتضاءل وتتحول إلى صور أدنى وأقل منزلة ومكانة حين تجد نفسها بعيدة عن الحياة العادية لسبب أو آخر.

          كل هذه الأعمال الروائية وغيرها كثير في الآداب الغربية تدور في آخر الأمر حول مشكلة أساسية تؤرق عقل الإنسان وهى الخشية من أن يجد الشخص نفسه وحيدًا ومعزولاً أو منعزلاً برغمه عن المجتمع تمامًا لأسباب ترجع في الأغلب إلى المجتمع ونظرة الآخرين إليه. وقد كان الإنسان دائما كائنًا اجتماعيًا، وكانت الرفقة والزمالة خاصة من أهم الخصائص المميزة لهويته، ومع ذلك كان تاريخ الإنسانية تاريخ اغتراب دائم, كما كان كل تقدم حققه خلال ذلك التاريخ الطويل عامل اغتراب على مستويات مختلفة.

أشكال غريبة من الاغتراب

          فقد كان الإنسان المبكر جزءًا من الطبيعة التي يرتبط بها أشد الارتباط، ثم تراجعت هذه الرابطة بتطور وتقدم الحياة الحضرية ونشأة االمجتمع الصناعي، وتدهور المجتمع الرعوي والزراعي، حيث يرتبط الإنسان بالأرض، وأدى ذلك إلى ظهور أشكال غريبة من الاغتراب أشار الماركسيون إلى أحدها وهو الاغتراب في العمل، ثم تفاقمت الأزمة بالانفصال الكامل بين العمل اليدوي والعمل الذهني على ماهو عليه الحال الآن. فبالرغم من كل التقدم العلمي والتكنولوجي ظل المجتمع الإنساني عرضة لبعض القوى المناوئة، التي لايستطيع التحكم فيها، وتثير قلقه حول المستقبل وتفرض عليه حالة من اللايقين سياسيًا واقتصاديًا وعدم الثقة في الذات والقدرات والأهداف والنتائج، وفى مؤسسات المجتمع ونظمه بما فيها أنماط القيم الأخلاقية بل والمعتقدات الدينية، وكلها أزمات يعجز العلم عن حلها.

          هذه النماذج من الكتابات الأدبية تبين أن الاغتراب ظاهرة تتخذ أشكالاً مختلفة, تكلم عن بعضها المفكرون الماركسيون بوجه خاص مثلما تتبعها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرهم في الثقافات والمجتمعات المختلفة, بما في ذلك دول العالم الثالث والمجتمعات القبلية التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية والتي عرف مثقفوها حالات من الاغتراب لاتختلف عما كتب عنه ريتشارد رايت. ولكن بالرغم من التفاوت والتباين في المواقف فإنها تشترك في خصائص وملامح معينة يمكن رصدها بسهولة لدى الفرد والجماعة. فالمفهوم يشير إلى أمور معينة بالذات مثل الانسلاخ عن المجتمع والعزلة والانعزال والعجز عن التلاؤم والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع واللامبالاة وعدم الشعور بالانتماء، بل وأيضًا انعدام الإحساس بالحياة إلى جانب الانطواء على الذات والتنكر للمشاعر والعواطف الذاتية والمعاناة من عذاب الوحدة والعجز عن التواصل مع الآخرين والتعامل معهم وصعوبة فهم أو تقبل المجتمع الذي يعيش فيه. فالاغتراب ليس مجرد حالة مرتبطة بمجتمع معين أو تنظيم اجتماعي واقتصادي محدد بالذات، وإنما هو ظاهرة يمكن رصدها في كل أنماط الحياة الاجتماعية حين تتوافر شروط وظروف معينة, كما أن شدّة هذه الظاهرة ومدى شيوعها تختلف باختلاف الثقافات والأوضاع الاجتماعية.. وهذا هو الذي يدفع بعض فلاسفة الماركسية مثلا إلى القول بأن الاغتراب «حالة أبدية» أو أنه «لعنة» يصعب التخلص منها أو رفعها عن الإنسان.

          وعلى الرغم من كل ما أحرزه العلم والتكنولوجيا من تقدم وازدهار، فإن ذلك لم يفلح في القضاء على تلك اللعنة بل ربما يكون قد أسهم في استفحالها وانتشارها وظهور أشكال جديدة قد تختلف في مظهرها وتجلياتها الظاهرية عن المظاهر التي سجلها الفكر الماركسي حين تناول ظاهرة الاغتراب في العمل في المجتمع الصناعي الرأسمالي، أو كما سجلتها الأعمال الأدبية العديدة التي أشرنا إلى بعضها في السطور السابقة، بل وقد تكون أشد منها وطأة على المقومات الإنسانية المألوفة،  ذلك أن العقود الأخيرة من القرن العشرين شهدت ومازلنا نشهد حتى الآن تغيرات واسعة تتمثل بأقوى صورها في امتداد تيارات العولمة إلى مختلف دول العالم وفى التغيرات والتطورات الجذرية الهائلة التي طرأت على وسائل وأساليب الاتصال والتواصل الإلكتروني عن طريق الإنترنت بوجه خاص. وقد أسهمت هذه التغيرات والتطورات في القضاء إلى حد كبير على العلاقات المباشرة بين الناس حتى داخل العائلة الواحدة، واستبدلت بها علاقات لاشخصانية على نطاق واسع جدًا بين أشخاص مجهولين تمامًا بعضهم عن بعض كما هو الحال بالنسبة لمستخدمي الإنترنت والشبكات الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك. فهذه الشبكات أدت إلى حدوث اغتراب بين من يقضي الواقع والمنطق قيام علاقات حقيقية قوية بينهم من ناحية وخلق علاقات تعارف وتقارب فكري بين أغراب متباعدين من خلال الفضاء الافتراضي من الناحية الأخرى، مما يعني انفصال الشخص أو انعزاله وانسلاخه عن مجتمعه المباشر الطبيعي والتحاقه أو انضمامه إلى مجتمع افتراضي لا ينتمي إليه فيزيقيًا على المستوى الواقعي الملموس. وهذه مفارقة تمثل صورة رمزية متطورة من الحياة تحت سطح الأرض التي تكلم عنها باقتدار دوستويفسكي وريتشارد رايت.

مشكلات التدفق المعلوماتي

          وقد لعبت وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة دورًا كبيرًا في تغيير أساليب التفكير وأنماط المشاعر الخاصة بين الناس وطرق التعبير عنها. وبالرغم من أنها وفّرت إمكانات التبادل الفكري وتداول المعلومات بسهولة وسرعة فائقة بين أطراف متباعدة تنتشر حول العالم، بحيث يمكن اعتبار الشخص مواطنًا عالميًا في هذه الحدود المعلوماتية، فإنها قضت على العلاقات المباشرة أو علاقات وجها لوجه داخل المحيط المباشر الذي يرتبط المرء به. وتذهب بعض الكتابات إلى أن الأشخاص الذين يبالغون في الارتباط بشدة إلى حد الإدمان بهذه الوسائل وبخاصة الإنترنت كثيرا ما يفتقدون الشعور بما يدور حولهم ويبتعدون عن المشاركة مع غيرهم في كثير من الأمور الحياتية العادية ويفتقدون روح التعاطف مع الآخرين.

          بل كثيرًا ما يكون التدفق المعلوماتي هو ذاته مصدر مشكلات وصعوبات يواجهها الفرد حين يتعلق الأمر باختيار وانتقاء المعلومات التي تناسب أهدافه واستبعاد ما دون ذلك. فالأوضاع والظروف التي تحيط بالشخص في المجتمع المعاصر أصبحت على درجة عالية من التنوّع والتشابك والتعقيد، كما أن شروطها تتعارض وتتضارب وتتناقض فيما بينها بحيث لا يكاد الشخص يعرف كيف يتعامل معها أوماذا يختار. فكما يعاني العامل في المجتمع الصناعي الاغتراب إزاء الآلة التي يعمل عليها يعاني المرء في مجتمع المعرفة الحالي الاغتراب إزاء ذلك التدفق المعلوماتي الهائل الذي لايكاد تحده حدود.

أقسى حالات الاغتراب

          وهكذا نجد أن أساليب الاتصال والتواصل الحديثة أداة للعزلة الاجتماعية بالرغم مما قد يبدو في ذلك من تناقض، بل إن هذه العزلة عن الوسط الاجتماعي المباشر تتفاقم بحيث لايكاد المرء يعرف نفسه وأهدافه أو يتوافق مع ذاته. وهذه بطبيعة الحال هي أقسى حالات الاغتراب عن الذات. ويبدو أن الاغتراب عن الذات وانعدام التلاؤم أو التعايش معها في سلام واطمئنان أصبح شرطًا من شروط الحياة الحديثة التي فرضتها على الإنسان المعاصر سياسة العولمة وثورة تكنولوجيا المعلومات التي كثيرًا ما تؤدي إلى انعدام المعنى والهدف من الحياة بعد أن خلت هذه الحياة من العلاقات الإنسانية المباشرة والحميمة وحلت محلها العلاقات اللاشخصانية. وقد بينت إحدى الدراسات التي أجريت في الولايات المتحدة في أغسطس 1998 وجود علاقة تلازم بين طول الفترة التي يمضيها الشخص أمام الكمبيوتر والإنترنت وكثافة الشعور بالاكتئاب والوحدة والعزلة، بل وقد يؤدي إدمان الارتباط بالفضاء الافتراضي إلى اغتراب الشخص عن جسمه وفقدانه الإحساس به وبوجوده هو ذاته ككيان متكامل، وقد أثيرت بعض الاعتراضات والاحتجاجات على تلك النتائج المفزعة.

          وأيًا ما يكون الأمر، فالمهم هو أن المجتمع المعاصر أصبح هو ذاته كيانًا أو نظامًا لاشخصانيًا بكل مايترتب على ذلك من آثار سلبية. فكثيرًا ما يشعر الشخص بانعدام التعاطف والاهتمام نحوه من الآخرين وعدم تقدير المجتمع لجهوده وعمله والتعامل معه كإنسان يحتاج إلى التفاهم والتلاحم بطريقة فيها دفء الإنسانية العميقة الصافية. وكثيرًا ما تكون القيم التي يؤمن بها الشخص والتي توجه حياته محل استنكار وسخرية ولامبالاة سواء من زملاء العمل أو حتى من أفراد العائلة الواحدة الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة في هذا الزمن السريع التقلبات والتغيرات مما يدفعه إلى الانزواء والانسلاخ والانطواء على الذات ورفض الجماعة والمجتمع والتراجع والاختفاء «تحت سطح الأرض» لشعوره الدفين بأنه مطارد من المجتمع مثل بطل رواية ريتشارد رايت الذي يطارده الجميع لجريمة لايعرف عنها شيئًا.

          فالحياة الاجتماعية المعاصرة أصبحت سلسلة من الحلقات اللاشخصانية الخالية من المعنى والتي يشعر فيها المرء في كثير من الأحيان أنه مجرد «شيء» وليس كائنًا بشريًا له آدميته ومشاعره وأفكاره الجديرة بالاهتمام. ولكن إذا كان المجتمع المعاصر كنظام لاشخصاني يبدي اللامبالاة إزاء الفرد وبخاصة الذي يتمسك بقيمه وبأسلوب حياته وأفكاره الخاصة المتمايزة، فإن ذلك الفرد يرفض من جانبه الانصياع لما لايتفق مع فكره وعقله. فالاغتراب عملية رفض متبادل، ويبدو أن هذه هي سمة الحياة المعاصرة التي تقود الإنسان نحو مستقبل اغترابي إن صح التعبير.

مجالات الاغتراب

          وتتنوع مظاهر ومجالات الاغتراب الجديد تمشيًا مع أوضاع الحياة المعاصرة المعقدة المتقلّبة، وأصبحنا نجد من العلماء مَن يتحدث عن الاغتراب عن البيئة كما يتمثل في العلاقة المتأزمة بين الإنسان والظروف البيئية واعتداء الإنسان على البيئة من ناحية، ورد الفعل المعادى من البيئة كما يظهر في الاحتباس الحراري وثورات الطبيعة المتلاحقة، كما نجد مَن يتكلم بكثرة عن الاغتراب في نوعية الحياة نتيجة لازدياد وطأة العولمة وقياس مكانة الإنسان المعاصر بمعايير مجتمع الاستهلاك، وليس بمعايير القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية، أو معايير الكرامة الإنسانية وذلك فضلاً عن الآثار السلبية المترتبة على ازدياد القهر والهيمنة السياسية والاقتصادية وهكذا.

          وقد أدت هذه التطورات السريعة في مجال العولمة وتكنولوجيا الاتصال الإلكتروني إلى تراجع دور الفرد في كثير من العمليات المعقدة وظهور مَن يتولى القيام بذلك الدور نيابة عنه. وأفضل مثال لذلك هو ما يحدث في التعامل مع المؤسسات الكبرى مثل المصارف والشركات وغيرهما حيث تتولى أجهزة متخصصة أداء كثير من الأعمال نيابة عن الفرد الذي قلما يظهر في الصورة أو يشارك في أي مرحلة من مراحل العمليات التي لايفهمها في أغلب الأحيان فهو بالنسبة لها مجرد رقم كغيره من الأرقام في نظام لاشخصاني إلى أبعد الحدود.. وهذه صورة جديدة ومتطورة من اغتراب العمل الذي تكلم عنه ماركس منذ زمن طويل في بداية الأمر. والطريف هنا أن بعض الكتابات التي تعرض للاغتراب الجديد تشير إلى مايسمى بجهاز «خدمة العملاء» لتسهيل الإنجاز ولكنه في الواقع يؤدي إلى مزيد من الاغتراب لأنه يفصل الشخص عن مجرى العمليات التي تتعلق بشئونه الخاصة، كما يفرض حدودًا وقيودًا على التواصل بين أطراف العملية. فهو جهاز «منع» أكثر منه جهاز «خدمة». كذلك الحال بالنسبة لوسائل الإعلام والإعلان التي تقوم الآن في مجال التجارة الإلكترونية بعمليات افتراضية لاشخصانية من خلال الفضاء الافتراضي، كما يساعد الإعلان على ترويج السلع دون أن يتحقق المستهلك بنفسه من خصائص السلعة التي سوف يستخدمها في حياته اليومية أو حتى يتأكد من مدى احتياجه الحقيقي لها فقد خضع تمامًا لسلطان الإعلان وانفصل عن احتياجاته الحقيقية أو اغترب عنها.

          وقد ازداد الحديث منذ بعض الوقت عن موضوع الإنسان/الآلة وعن الروبوتات والذكاء الصناعي ووجد الموضوع طريقه إلى الخيال الأدبي والعلمي الذي يكشف عن تضاؤل الإنسان أمام الآلة التي يقوم هو بتشكيلها وصنعها وإنتاجها لخدمته, فإذا بها تتمرد عليه وتخضعه لسلطانها وتتفوق عليه. وترمز تلك الكتابات إلى طبيعة المجتمع المعاصر اللاإنسانية أو المعادية للإنسانية وغيابها عند التعامل بين الناس بحيث لم يعودوا قادرين على التحكم في أقدارهم ومصائرهم أو تحديد مستقبلهم بدرجة عالية من اليقين. فالمشاهد الآن هو أن مايبتكره الإنسان وينتجه بيديه وعقله لن يلبث أن يتحول ضد الإنسان الذي أبدعه وبذلك تصبح تلك الإبداعات مصدر عبودية للفرد وتسلبه قدراته على اتخاذ القرارات بنفسه وعلى توجيه حياته بدلا من أن تساعد على توسيع مجال حريته.

وبعد:

          كان الرومان يعتبرون العبيد على أيامهم مجرد آلات ناطقة أو صوتية Instrumentum Vocal أي أنهم فاقدون لجوهر الإنسانية والعقل المفكر والإرادة الحرة. ويبدو أن هذا ينطبق إلى حد كبير على كثير من البشر في المجتمع المعاصر, وهو مجتمع مابعد الحداثة وما بعد الصناعة ومجتمع العولمة, حيث تتوافر عوامل كثيرة تعمل على هدم إنسانية الإنسان وشعوره بآدميته وتجعل منه شيئًا أقرب إلى الآلة الصوتية أو الناطقة كما هو الحال في مجتمعات عالمنا الثالث بوجه خاص. ويعتبر الكثيرون من المفكرين إحلال الآلة محل البشر وتحكّمها فيه نوعا من النكسة الأخلاقية التي أصبحت أحد ملامح الحياة الجديدة وأنها سوف تكون سمة المستقبل وجزءًا من تفكير البشر. فهل هناك من خلاص؟.

 

 

أحمد أبوزيد