رسائل من الجانب الآخر للتل أمين هويدي

رسائل من الجانب الآخر للتل

يتم الحوار بين الأطراف المتصارعة على شكل رسائل بعضها عن طريق الطلقة والبعض الآخر عن طريق الكلمة، فلغة الحوار إذن هي "قتال قتال- كلام كلام ".

يدور القتال- أثناء كتابة هذا المقال في أواخر يوليو/ تموز 1993- على أشده في جنوب لبنان بين القوات الإسرائيلية وبين المجاهدين العرب والمسلمين في أشرس هجوم تقوم به قوات "زاحال " برا وبحرا وجوا، وهجمات مضادة بواسطة الصواريخ على المستوطنات الحدودية ومنطقة الجليل، تقوم بها وحدات المقاومة الباسلة، وفي الوقت نفسه يعلن "وارين كريستوفر" وزير الخارجية الأمريكية عن زيارة ينتوي أن يقوم بها إلى المنطقة لفتح الطريق أمام الجولة الحادية عشرة من جولات المفاوضات. الرسالة الإسرائيلية تقول صراحة إنها تحتفظ بحقها في حماية حدودها الآمنة ولو باستخدام القوة حتى في ظل اتفاقيات السلام المرجوة. ورسالة المقاومة تقول صراحة إنهم يرفضون الأمر الواقع، بل ويرفضون المحادثات الدائرة التي لا يؤملون فيها كثيرا أو قليلا. أي أن الرسالة الإسرائيلية وصلت إلى المرسل إليهم في صندوق البريد وأنها فتحت وقرئت وحتمت الرد عليها من الجانب الآخر وهي وحدات المقاومة.

إسرائيل وأطماعها النفطية

رسالة أخرى ترسلها إسرائيل أيضا تتعلق بالنفط، فقد طالبت في المفاوضات متعددة الأطراف بضرورة إعادة فتح مصفاة حيفا للبترول وخط "التابلاين " الذي كان يعمل قبل إنشاء الدولة حتى تضمن السيطرة على نفط المنطقة والمشاركة في الانتفاع بثرواتها. ثم وكأنها لم تكتف بالبترول الذي تحصل عليه من الحقول المصرية في سيناء بموجب اتفاقية كامب دافيد فتقدمت أخيرا بما يعرف "بخطة شاحال " لبناء الجسور الاقتصادية بين سيناء والنقب، وتتضمن الخطة مشروعين هما إنشاء معمل تكرير بترول بالعريش بالاشتراك بين مصر وإسرائيل وتزويد النقب بالغاز المصري عن طريق خط أنابيب من وسط الدلتا إلى النقب. وكما نرى فإن الهدف الاستراتيجي من الرسالة هو نسج قاعدة متينة للسوق الشرق أوسطية- التي سنتحدث عنها فيما بعد- وبث الحياة في النقب لاستقبال مزيد من المستوطنين اليهود من أصل إثيوبي وصومالي ويمني لبناء حاجز بين مصر والإسرائيليين الاشكناز القدامى.

والرسالة الإسرائيلية تقول زيادة على ذلك وبوضوح:

* في الوقت الذي على إسرائيل تحديد خطوطها الآمنة على الأرض، فإن السلام يعني بالنسبة لها المشاركة في النفط ووسائل الطاقة الأخرى سواء عن طريق الاستيراد المحلي أو التكرير، ثم التصدير إلى الأسواق الخارجية أو عن طريق الغاز لتشغيل محطات الكهرباء والمشروعات الصناعية لاستيعاب مزيد من المستوطنين.

* إن الامتيازات النفطية التي حصلت عليها بموجب اتفاقية كامب دافيد كانت خطوة أولى فتحت شهيتها إلى التمهيد لمشروع أو "خطة شاحال ".

* وإن الدورآت بلا شك على المشاركة في منابع النفظ والغاز الأخرى بالمنطقة والتي تعتبرها كاحتياط استراتيجي يمكن استغلاله في الأوقات المناسبة.

هذه هي الرسالة الإسرائيلية التي وصلت إلى صناديق البريد العربية تنتظر الرد ممن يهمهم الأمر.

.. وأطماعها الاقتصادية

الرسالة الإسرائيلية الثالثة أرسلها شمعون بيريز في مقال صدر ضمن كتاب "ماذا بعد عاصفة الخليج- رؤية مستقبلية لمستقبل الشرق الأوسط " والذي نشره مركز الأهرام للترجمة والنشر قال فيه: "اقتصاد منطقتنا اقتصاد قديم يعتمد على الأرض والنفط والقومية فقط، والبديل لذلك اقتصاد عصري يعتمد على العلم والتكنولوجيا والتعاون الإقليمي المشترك " ثم يتحدث عن "برنامج مارشال ذاتي في المنطقة عن طريق تخصيص دولار واحد من سعر البرميل النفطي وحصيلة ذلك تجمع في صندوق للمنطقة ينفق على إنعاشها، وعن مجلس لوزراء الزراعة لتحقيق الازدهار الزراعي، ثم عن حاسوب تعليمي لكل مدارس المنطقة لفتح الطريق أمام لغة جديدة أمام أبناء الجيل الصاعد" ثم يقول: "ليس السلام في الشرق الأوسط عملية جراحية وإنما هندسة معمارية ضخمة" ويعود ليؤكد رسالته مرة أخرى في "المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط " بالقاهرة أمام نخبة من الساسة والمفكرين فيقول: "نحن في منطقة كلها صحراء مع توافر رأس المال والأيدي العاملة والمياه والخبرة وعلينا أن نستصلحها ونزرعها". والشيء الغريب أن بعض الكتاب بدأوا من فورهم يتحدثون عن ضرورة تغيير اللون الأصفر في منطقتنا إلى اللون الأخضر، وفي ندوة أقامها المركز القومي المذكور بالاشتراك مع جامعة هارفارد ومؤسسة فيدريش إيبرت الألمانية ذكر أحد المشاركين الإسرائيليين "أن إسرائيل لا يمكن أن تنتظر 20 أو 30 سنة لتحقيق سلام في الشرق الأوسط قبل البدء بإقامة حوار حول التعاون الاقتصادي بين دول الإقليم " والرسالة الإسرائيلية تتحدث بصراحة عن:

* لا يحول عدم تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة دون التطبيق بين إسرائيل والدولة الأخرى فهذه نقرة وهذه نقرة!!

* أن السوق الشرق أوسطية تذيب فكرة السوق العربية المشتركة في دائرة أوسع يمكن أن تبتلعها، فالتجمع أو الإجماع العربي غير مقبول.

* أن الرسائل الهامسة أصبحت تلقي علانية منتهزة الحالة التي يعيش فيها العرب من تفكك وضياع.

والرسالة الإسرائيلية دفعت بعض المرسل إليهم إلى الموافقة عليها، بل البدء في تنفيذها، ودفعت البعض الآخر إلى الصمت ويقولون في الأمثال "السكوت الرضا". وأكبر مثل على الصمت العربي هو السكوت الكامل للجامعة العربية عن هذه الرسائل وتجاهلها علما بأنها وصلت إلى صندوق بريدها، وعرضت على من يهمهم الأمر، وقرئت وفهمت، ثم حفظت بسرعة في الأدراج!!

وكذا.. البحر الأحمر

والرسالة الإسرائيلية الرابعة وصلت عن طريق جزيرة "دهلك" في البحر الأحمر، التي أعلنت إريتريا بعد استقلالها عن إعطاء تسهيلات لإسرائيل فيها، وكان من المقطوع به أن الوجود الإسرائيلي في الجزيرة وغيرها كان حقيقة واقعة قبل استقلال إريتريا. فالبحر الأحمر به مئات الجزر أغلبها عربية ولكنها ليست تحت الرقابة أو السيطرة لمن يملكونها، والأرض دون صاحب حقيقي مغرية للغير، وقد فشل العرب بوجه عام والدول العربية البحر أحمرية بوجه خاص في الاتفاق على استراتيجية واحدة لهم في البحر الأحمر. ماذا يريدون منه؟ وماذا يحق لهم؟ علما بأن منطقة الخليج العربي هي جزء من الكتلة الاستراتيجية الكبرى التي يحدها البحر الأحمر شرقا والخليج غربا فإذا كان الخليج منبعا للنفط فإن البحر الأحمر هو خط مواصلاته الرئيسي، ولا يمكن فصل المنابع عن خطوط مواصلاتها. والرسالة الإسرائيلية تقول بصراحة إن إسرائيل دولة بحر أحمرية فلها موانيها في إيلات وخليج العقبة مدخل للميناء ولها تسهيلاتها في دهلك وغيرها، وأي ترتيبات مستقبلية لابد أن تشملها، أما الرد العربي على هذه الرسالة فكان التجاهل الكامل، والتجاهل لا يدفع خطرا أو يواجه تهديدا.

تدعيم التحالف

والرسالة الخامسة وصلت هذه المرة عن طريق واشنطن وتل أبيب، وربما بتوقيع كل من بيل كلينتون وإسحاق رابين معا، بعد أن اتفقا في نهاية آذار/ مارس الماضي على تعميق الاتفاق الاستراتيجي بينهما الذي سبق توقيعه عام 1982.

والاتفاق بوجه عام هو تطوير لهذا التحالف وإعادة لتوزيع الأدوار بعد التغيرات الكبيرة التي حدثت في المنطقة وانهيار توازن القوى الذي كان قائما من قبل وقد تحولت إسرائيل أخيرا من عميل إلى حليف وشريك وأصبحت مخزنا للسلاح الأمريكي، لها الحق في استخدام المخزون عند الضرورة، وترك تحديد هذه الضرورة لإسرائيل يعني وضع الصندوق في إسرائيل وترك المفتاح معها، كما تم تحويل ميناء حيفا إلى قاعدة عمليات للأسطول الأمريكي مع تطوير المنظومات الدفاعية الإسرائيلية وإمدادها بصواريخ "باتريوت " المضادة للصواريخ بأطقمها، وإمدادها كذلك بالمعونات المالية اللازمة لتطوير برنامج الصواريخ "آرو- Arrow " الإسرائيلي المضاد للصواريخ، بعد أن كان البنتاجون قد أمر بوقفه أيام الوزير "تشيني " وكذلك تحسين طاقة الإنذار المبكر مع التعاون في مجال المخابرات والتكنولوجيا.

والأخطر من ذلك كله اتفاقهما على التهديد الاستراتيجي الموجه لهما وهو بالتحديد العروبة والإسلام تحت اسم " الإرهاب ". وفي الوقت الذي تؤكد فيه كل المعلومات أن إسرائيل دولة نووية مع قدرة صاروخية بلاستيكية مرماها من 500- 1500 كيلومتر تقوم الولايات المتحدة بتدمير القدرات العربية العسكرية وفرض القيود عليها وتفكيك أوصالها حتى تعيش المنطقة في ظل قوة إقليمية عظمى هي إسرائيل، والرسالة واضحة كل الوضوح فإسرائيل تريد سلاما مسلحا عماده اختلال توازن القوى Imbalance of Power مع عدم تحقيق توازن المصالح Balance of Interests .

وإذا كانت الولايات المتحدة تسعى حاليا إلى فرض هيمنتها العالمية International Domination فلابد من أن تستعين بدول إقليمية عظمى لتحافظ لها على مصالحها By proxy بالوكالة كإسرائيل في منطقتنا.

السيطرة على النفط والمياه

والرسالة السادسة من إسرائيل وربما من دول إقليمية في المنطقة كتركيا مثلا وهي المياه وتوزيعها، فالمياه ثروة إقليمية لابد- من وجهة نظرها- من استغلالها لمصلحة كل " العائلة الإقليمية".

فتركيا مثلا عندها وفرة في المياه يمكن عن طريق الأنابيب مد كثير من دول المنطقة التي تعاني عجزا فيها بالكميات التي تحتاجها، وإسرائيل في حاجة إلى المياه، وتسرق كميات لا بأس بها من الضفة الغربية ومن سيناء ومن لبنان وسوريا، وإذا تحقق ذلك تكون إسرائيل مسيطرة على النفط والمياه بيدها اليمنى وتحتفظ بالسلاح النووي والقدرة العسكرية بيدها اليسرى، والأنابيب التي تنقل الغاز والنفط والمياه والأسلاك التي تنقل الكهرباء هي رسائل ربط وتحكم لمن يتوافر له العقل والإرادة، ولدى إسرائيل المشروع المدروس وكذلك تركيا، فما هو مشروعنا؟ وهل لدينا رد على الرسائل المرسلة؟

أفكار لضرب المقاطعة

والرسالة السابعة عنوانها "خلاصة يوتوبيا تيودور هرتزل " الذي كان يحلم بتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة سلام يخيم عليها التعايش والتعاون وحيث تجمع الثروات الطبيعية التي يملكها العربي مع القوة العقلية التي يملكها اليهود لخلق جنة من الرخاء والبحبوحة على الأرض، وتتحدث الرسالة عن إقامة "ريفييرا شرق أوسطية" في منطقة طابا- إيلات- العقبة وعن شق قنوات من العقبة وإيلات إلى أسدود عبر البحر الميت، مع إنشاء بحيرات صناعية لجذب السياح وعن إقامة طرق ومطارات وموانىء، وقبل كل ذلك يتركز الحديث عن إنهاء المقاطعة العربية في البلاد العربية التي مازالت تمارسها حتى الآن.

وهناك رسائل كثيرة في صناديق البريد العربية نرجو أن نقرأها ونتفهمها، وهي في مجملها تشكل مشروعا كبيرا لإعادة رسم منطقة الشرق الأوسط، غرضها الاستراتيجي إذابة فكرة القومية العربية في منطقة أوسع تشمل المنطقة كلها بما فيها الجمهوريات التي انفصلت عز الاتحاد السوفييتي بعد تفككه كدولة وعقيدة، وبدأت المحاولة منذ الخمسينيات حينما كانت تعرض المشروعات الدفاعية المختلفة للإحاطة بالعدو الشيوعي الذي كان موجودا بتطبيق استراتيجية الاحتواء Containment والتي قبلتها بعض دول المنطقة فدخلوا تحت مظلة ليست مظلتهم ورفضها آخرون لم يرضوا عن مظلتهم العربية بديلا، وتطبق الاستراتيجية نفسها الآن بعد أن اختفى العدو السوفييتي وبدأ التركيز على الأصولية الإسلامية ومادام العدو قد تغير فالوسائل لمواجهته بالضرورة يجب أن تتغير وإن ثبتت الاستراتيجية نفسها بإغراق العروبة في بحر واسع متلاطم لا تقوى عليه مع استخدام الوسائل الاقتصادية بدلا من المشروعات الدفاعية لتقييد المنطقة.

فأين نحن من المشروعات التي أصبحت ظاهرة وواضحة؟ والمشروعات وراءها قوى ضخمة وقادرة. هل آن الأوان أن نتخطى خلافاتنا ونجلس معا حتى نخطط لمستقبلنا وحتى لا نترك للأجيال القادمة تركة ثقيلة ربما لا يقدرون على حملها؟! ولن نكون أحياء حيئذ لنسمع ما يقولون عنا، فلا شك أن الكلام سوف يكون عتابا من الوزن الثقيل..!!

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من آثار الهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان





بيل كلينتون





تيودور هرتزل





شمعون بيريز