أعطِني حُجرة
جاري العزيز
إن تكاليف تشييد منزل خاص للأسرة لا تكف عن الارتفاع. كما أن تكاليف صيانة المنزل أصبحت مرتفعة وتمثل عبئا ثقيلا على مالكي المنازل الخاصة. فما هو العلاج؟
كثير من الناس يجدون أنفسهم عاجزين عن الحصول على منزل خاص مناسب، ويعيشون في منازل أو شقق لا تفي باحتياجاتهم، ولا بالتغيرات التي تطرأ على أحوالهم الاجتماعية وأنماط معيشتهم.
بعض الآباء والأمهات يجدون مشقة في رعاية أطفالهم دون سن المدرسة خلال ساعات غيابهم في أعمالهم، إذ يتحتم عليهم أن يحملوهم يوميا إلى رياض الأطفال والحضانات التي قد تكون بعيدة عن محال إقامتهم.
كبار السن الذين وجدوا أنفسهم، فجأة، يعيشون في منازل متسعة أكثر من احتياجاتهم، ويعانون من الوحدة بعد أن تركهم أبناؤهم وبناتهم بعد الزواج.
بعض الناس تضطرهم الظروف إلى العيش في مساكن خاصة في مدن بعيدة عن مواطنهم الأصلية، حيث لا صديق ولا قريب، فيشعرون بالعزلة.
السكن المشترك
هذه بعض النماذج من الحالات التي تجعل من الإقامة في مسكن خاص مشكلة تعاني منها شرائح مختلفة من السكان في أوربا وأمريكا، ويبحثون لها عن حل.
وجاء الحل من الدنمارك: السكن المشترك!!.
لقد سئم الأوربيون مساكنهم الخاصة، فليكن الاتجاه إلى التجمعات السكنية المشتركة.
واكتسبت الفكرة الدنماركية شعبية كبيرة في أوربا، وسجلها الزوجان (كاثرين ماك كامانت) و (تشارلس ديوريت، في كتاب عنوانه: السكن المشترك.. محاولة عصرية لإقامة مساكننا بأنفسنا!.
يقول المؤلفان في كتابهما إن البشر مطالبون، عندما يفكرون في الاستقرار وبناء المساكن في المستقبل، بأن يكونوا على درجة عالية من المرونة، استجابة للتغيرات المطردة في أنماط المعيشة، وأيضا لما يستجد من ملامح وقوى ديموغرافية.
ويضيفان: إن المجتمعات المعاصرة التي نشأت تالية للنهضة الصناعية في العالم، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية، تقع تحت تأثيرات متعددة الاتجاهات تتحكم في احتياجاتها من المساكن.. فالمنزل العصري المنفصل الخاص بالأسرة الواحدة، والذي كان يمثل 67% من مجموع المساكن في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تم تصميمه من أجل الأسرة ذات التكوين المثالي في ذلك الوقت (أب عامل - أم، سيدة منزل - عدد من الأطفال يتراوح بين 2 و 4) - هذا المنزل لم يعد هو النموذج الغالب، ولا يعيش فيه الآن إلا أقل من ربع سكان الولايات المتحدة الأمريكية.
تجمعات سكنية
وكان المؤلفان، وهما زوجان، قد سافرا إلى الدنمارك لدراسة الهندسة المعمارية، فوجدا الدنماركيين قد بدأوا في التمرد على النمط التقليدي للمسكن، واستحدثوا التصميمات الجديدة للتجمعات السكنية المشتركة، حيث يشارك الجيران كلهم في تكاليف الإنشاءات وفي اختيار التصميمات، وفي التمتع بتسهيلات وميزات الاشتراك في المطبخ والمغسلة وغيرهما من مستلزمات المنزل اليومية.
وحتى ربيع عام 1988، كان هناك 67 تجمعا سكنيا مشتركا قد تم بناؤها، بينما تم وضع 38 تصميما لتجمعات سكنية أخرى. وكان عدد الأفراد المقيمين في معظم هذه التجمعات يتراوح بين 15 و 33 ساكنا.
ووجد المؤلفان أن لكل تجمع سكني صفاته الفريدة التي تعكس مستوى ساكنيه وأنماط وسلوكيات حياتهم وقيمهم الأخلاقية والجمالية. وتشترك كل وحدة من وحدات هذه التجمعات الإسكانية في أن لها فناء خلفيا مشتركا، يستخدم كحظيرة مشتركة للسيارات، أو كحديقة مشتركة، بالإضافة إلى أماكن مشتركة للمقابلات ولتناول الطعام ولإقامة الولائم ولتمضية أوقات الفراغ في ألعاب التسلية، وأماكن مخصصة لرعاية أطفال الجيران، وحجرات للضيوف، وأي احتياجات أخرى يتفق عليها المشاركون في الوحدة السكنية.
تجربة فريدة
وينقل المؤلفان عن الدنماركيين أن لتجربتهم الفريدة في الإسكان الجماعي المشترك أربع خواص أساسية، هي:
1- عملية المشاركة.. فالسكان يتقاسمون مسئولية إقامة المجمع السكني، ابتداء من التخطيط إلى اتخاذ القرار بشأن اختيار التصميم.
2- إتاحة الفرصة للاختلاط بالجيران وإقامة علاقات اجتماعية واسعة، فالمجتمعات السكنية المشتركة صممت لتشجيع التفاعل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال، فإن الشوارع الداخلية التي تربط بين هذه المجمعات لا تمر بها السيارات، فهي مخصصة للمشاة فقط، وذلك لتأمين المارة، وخاصة الأطفال، ضد أخطار حوادث السيارات، وهذا يشجع على التجمع والالتفاف حول أعراف وقيم اجتماعية جديدة.
3 - تسهيلات ومنافع عامة على نطاق واسع، حيث تشتمل هذه المجمعات على مساحات عامة لأغراض مختلفة: حجرة طعام - حجرة غسيل - حجرة تلفاز - حدائق - حظائر سيارات، وهي كلها متاحة للاستخدام اليومي، وتكون بمثابة إضافة إلى المساحات السكنية الخاصة.
ومع اطراد نجاح هذه التجربة في بعض المدن الدنماركية، فإن الاتجاه إلى زيادة المساحات ذات النفع العام ينمو، وتتقلص أمامه المساحات ذات الصفة الخاصة في التجمعات الإسكانية المشتركة.
4 - كل الإدارة للسكان.. فالمشاركة جماعية في إدارة التجمعات السكانية المشتركة، حيث يتم توزيع المسئوليات بشكل ديمقراطي. أما القرارات الكبيرة التي تهم كل التجمع فإنها تناقش في العادة في اجتماع عام يضم كل أعضاء المجمع المشترك، وهو اجتماع دوري يعقد مرة كل شهر.
تكييف الوحدات السكنية
ويضيف المؤلفان لهذه الخواص الأربع ميزة أخرى، وهي مرونة التجمعات السكانية المشتركة، وخضوعها للتغيرات الطارئة على حياة المشاركين فيها، إذ يتم تصميمها بحيث يكون في الاستطاعة تكييف الوحدات السكنية لتتلاءم مع أنماط حياة السكان وما يطرأ عليها من تغيرات، مثل حدوث حالة طلاق، أو مولد طفل جديد، أو وفاة زوج، أو مغادرة أحد الأبناء للمسكن لسبب أو لآخر، وغير ذلك من التغيرات الاجتماعية.
كذلك فإنه مع مرونة التركيب المعماري لهذه الوحدات، تصبح إضافة حجرة مكتب إلى المنزل، مثلا، عملا سهلا لا يكلف أكثر من مجرد إقامة حائط جديد يوفر مساحة لهذا المكتب. والأهم من ذلك، أن تلك المرونة تصل إلى حد إمكان تبادل وحدات من المسكن بين الجيران، فإذا تنازل جار لجاره عن حجرة، أمكن أن يتم ذلك بسهولة تامة، بمجرد فتح باب جديد في ناحية، وإغلاق الباب الأصلي في جهة الجار المتنازل!!.
والجدير بالذكر، أن نجاح التجربة في الدنمارك قد شجع على الاقتداء بها في دول أخرى. ويعكف معماريون ومسئولون حكوميون من كل من السويد والنرويج وألمانيا واليابان ونيجيريا، في الوقت الحالي، على دراسة التجربة الدنماركية في الإسكان المشترك.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن التغيرات الجذرية التي طرأت على نظام وسلوكيات الأسرة الأمريكية، وعلاقات العمل المستحدثة، تمثل دافعا قويا إلى تشجيع أفكار الإسكان المشترك. وينشط هذا الاتجاه شغف بالتجديد في كل مظاهر الحياة الأمريكية.
وعلى أي حال، فإنها تجربة فريدة، جدير بالتأمل، لجانب من البشر يسعى إلى إيجاد بدائل للسكن غير الطرق التقليدية في صناعة المباني، ولديه القدرة على الحركة الإيجابية من أجل تحقيق هذا الهدف.