الديمقراطية الافتراضية على الإنترنت

الديمقراطية الافتراضية على الإنترنت
        

          يعرف الذين أتيحت لهم فرصة العيش في مجتمعات ديمقراطية حقيقية، للإقامة أو حتى الزيارة، ذلك الإحساس الذي يلفهم بالحرية، يكاد المرء يستنشقه في الهواء دون أن يفهم سره، فيما يلفهم الشعور بأنهم غير مراقبين، وأن لهم مطلق الحرية في التصرف كما يشاؤون دون خوف من رقابة معلنة أو سرية، وأن يقولوا ما يشاؤون أينما كانوا.

          حرية التعبير إذن في المجتمعات المتحررة، خصوصا أوربا، وبعض الدول المعروفة بأن ثقافتها وهويتها مؤسسة على التنوع وحرية التعبير مثل كندا وما شابهها من دول، هي جزء من ثقافة المكان التي تتجذر بحيث تصبح جزءًا من نسيجها، وجزءًا من الهواء الذي يستنشقه الناس أو يتنسمونه.

          وهذا على وجه التحديد هو المناخ الذي أتاحته شبكة الإنترنت لجميع شعوب العالم ممن يعانون من أنظمة شمولية أو تحكمهم الديكتاتوريات القمعية، أو يعانون من التضييق على حرية الرأي والتعبير.

          وبظهور الشبكات الاجتماعية المختلفة تكونت مجتمعات افتراضية بديلة وجد فيها المواطنون من مستخدمي الحواسيب مجتمعات رأي يمكن لكل واحد منهم أن يعبر فيها عن أفكاره بلا قيود أو خوف من بطش، ويطلق أفكاره ويرد على الرأي بالحجة والمنطق أو حتى بالسباب والعبث في بعض الأحيان، تعبيرا ربما عن ثقافة كممت أفواه أفرادها طويلاً حتى فقدوا الإحساس بمعنى حرية الرأي من حيث إتاحة الفرصة للجميع أن يبدوا آراءهم بحرية، مما أفقدهم القدرة على التعليق وفقًا لآداب الحوار والعقلانية.

          وعقب الثورتين التونسية والمصرية، وفي خضم أحداث الاحتجاجات القوية في اليمن وليبيا وسورية، تجلت ظاهرة حرية التعبير في الإنترنت، خصوصا في «الفيس بوك»، وقد بدت أكثر نضجًا وفاعلية باعتبارها آلية تقدم رصدًا للرأي العام باتجاه الأحداث بل وتعديل مسار الأحداث.

          كما تسارعت وتيرة إنشاء مجموعات لمبادرات اكتشفت الجماهير العربية احتياجها لها عقب إسقاط النظم السابقة كوسائل للتوعية والتثقيف ورفع المطالب للحكومات الانتقالية، خصوصا ما يتعلق بمحاسبة رموز الفساد، والدعوة لإشاعة قيم الدولة المدنية التي تقوم على القانون والمساواة. والدعوة إلى إعادة إنشاء دساتير جديدة غير معيبة.

وسائل ضغط افتراضية

          واذا كانت «الإنترنت» عبر المنتديات أولاً ثم عبر المدونات والمواقع الاجتماعية قد استطاعت أن تحول الممارسة الديمقراطية على مستوى الحوار على الأقل واقعا موجودا في فضاء الإنترنت، فإن الثورات العربية قد لعبت دورا كبيرا في تحويل دور الإنترنت من مجرد وسيلة أو مساحة للممارسة الديمقراطية إلى وسيلة ضغط لتحقيق الديمقراطية على أرض الواقع الحقيقي.

          فقد شهد الفيس بوك، ربما قبل غيره، مئات المبادرات التي تخلقت على سبيل الإعلان ومن بينها الدعوات المدنية كثقافة أساسية لأي مجتمع ديمقراطي، أو عبر إنشاء حركات سياسية شبابية ثم أحزاب سياسية جديدة.

          ويبدو واضحا من خلال هذا الحراك الثقافي السياسي الفكري على الإنترنت أن هناك محاولة قوية لتفعيل المفاهيم من منطقة النظرية إلى التطبيق، فالمعروف أن تعريف الديمقراطية هو: حكم الشعب لنفسه، لكن كثيرا ما يطلق اللفظ على الديمقراطية الليبرالية لأنها النظام السائد للديمقراطية في دول الغرب، وكذلك في العالم خلال القرن الحادي والعشرين، وبهذا يكون استخدام لفظ «الديمقراطية» لوصف الديمقراطية الليبرالية خلطا شائعا في استخدام المصطلح سواء في الغرب أو الشرق، فالديمقراطية هي شكل من أشكال الحكم السياسي، قائمٌ بالإجمال على التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة، بينما الليبرالية تؤكد على حماية حقوق الأقليّات والأفراد، وهذا نوع من تقييد الأغلبية في التعامل مع الأقليات والأفراد بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي لا تشتمل على دستور يلزم مثل هذه الحماية والتي تدعى «ديمقراطية ليبرالية»، فهناك تقارب بينهما في أمور وتباعد في أخرى يظهران في العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية كما قد تختلف العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية باختلاف رأي الأغلبية.

          وتحت نظام الديمقراطية الليبرالية أو درجةٍ من درجاتهِ يعيش في بداية القرن الواحد والعشرين ما يزيد عن نصف سكّان الأرض في أوربا والأمريكتين والهند وأنحاء أخرَى. بينما يعيش معظمُ الباقي تحت أنظمةٍ تدّعي نَوعًا آخر من الديمقراطيّة «كالصين التي تدعي الديمقراطية الشعبية».

قضايا الديمقراطية

          ويطلق مصطلح الديمقراطية أحيانًا على معنى ضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطية، أو بمعنى أوسع لوصف ثقافة مجتمع. والديمقراطيّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ويشير إلى ثقافة سياسيّة وأخلاقية معيّنة تتجلى فيها مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلميا وبصورة دورية.

          بالإضافة إلى التأكيد على أن الانتخابات الحرة وحدها ليست كافية لكي يصبح بلد ما ديمقراطيًا، فثقافة المؤسسات السياسية والخدمات المدنية فيه يجب أن تتغير أيضًا، وهي نقلة ثقافية يصعب تحقيقها خاصة في الدول التي اعتادت تاريخيًا أن يكون انتقال السلطة فيها عبر العنف.

          ويبدو أن إدارة «الفيس بوك» التي تعرف المضمون الحقيقي للديمقراطية قد استوعبت المناخ العربي  الجديد فأضافت بعض الآليات الجديدة التي انتعشت بسبب هذا المناخ العام بالنسبة لمستخدمي الشبكة من المنطقة العربية وبينها إمكانية أن يدعو المستخدم الآخرين لمطلب محدد وتتم مناقشته عبر جماعة، أو إضافة خدمة استفسار أو «Question»، وهو بمنزلة خدمة استبيان أو قياس للرأي حيث يصبح من حق كل مستخدم أن يسأل سؤالا عن قضية محددة او شخصية ويضع عددًا من الإجابات الاحتمالية، ومن الإجابات يمكن قياس التوجه العام تجاه هذه القضية أو تلك، أو حتى ميول المستخدمين في قضايا الدولة المدنية أو الدينية مثلا، او ترشيح هذا المرشح أو ذاك للرئاسة في هذه الدولة أو تلك وما شابه ذلك من موضوعات.

معايير مزدوجة

          وبالرغم من ذلك فإن إدارة «الفيس بوك» لا تلعب دورًا إيجابيًا على طول الخط، فقد قامت قبل شهرين بإلغاء صفحة تدعو للانتفاضة الثالثة في فلسطين، دون إبداء الأسباب، ما يؤكد خضوع «الفيس بوك» لضغوط اللوبي الصهيوني على نحو ما، وكيلها بمكيالين في بعض القضايا.

          مع ذلك فإن الدور الكبير الذي لعبته في تحريك وتطوير المزاج الشعبي الديمقراطي النامي في المنطقة العربية لا يستهان به. ومن الموضوعات الشائقة، والمفيدة، والتي يمكن أن تفسر ما يحدث اليوم في المنطقة العربية حول مفهوم الديموقراطية  التي يمكن قراءتها على الشبكة ما يتعلق بمفهوم الديمقراطية على موسوعة «ويكيبيديا» على هذا الرابط Http://en.wikipedia.org/wiki/democracy، ويمكن قراءة الترجمة العربية للموضوعات باختيار العربية من  الصفحة نفسها.

          ومن بين ما يلفت الانتباه أن الموسوعة الإلكترونية نفسها قد أضافت بعض التحديثات لزاوية تعريفها لمفهوم الثورة، حيث ضمنت أحداث ثورتي تونس ومصر، والوقائع العربية التي تمر بها المنطقة الآن بالقول: الثورة هي مجموعة من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تؤدي إلى تغيير جذري شامل في المجتمع. ومن أحدث الثورات وأكثرها تفردًا في التاريخ  «ثورة الكرامة» في تونس التي أدّت إلى خلع الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بعد 23 سنة من الحكم الفردي الاستبدادي، بوسائل مدنية سلمية ذهب ضحيتها المئات من المواطنين الأبرياء العزل. وما يميّز الثورة الشعبية التونسية هو قيادتها من قبل فئة واسعة من الشعب وفي مقدّمتها شريحة الشباب من دون غطاء سياسي أو ديني، بالإضافة إلى ملازمة المؤسسة العسكرية موقعها الطبيعي في حماية البلاد والعباد ومحافظة السلطة في تونس على طابعها المدني بتولي حكومة مدنية مسؤولية الفترة الانتقالية من نظام الحكم الفردي إلى نظام سياسي ديمقراطي تعددي يستجيب  لإرادة الشعب. وقد مثّلت ثورة تونس حدثا مهما إيذانا بميلاد عهد عربي جديد، كانت أولى صوره ثورة 25 يناير 2011 في مصر، التي أدت إلى تنحي الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك من منصبه بعد أكثر من ثلاثين عامًا في الحكم وإسناده مهمة الحكم إلى الجيش. ويقال إن ثورة مصر واحدة من أعظم الثورات في التاريخ لأنها كانت بأيدي الشعب بجميع طوائفه وتياراته ومن دون استخدام أي شكل من أشكال العنف أو القوة رغم القول بحرق المتظاهرين أقسام الشرطة في كل مدن مصر(بحاجة إلى مصدر). كما أن ثورة الكرامة في تونس كانت الشرارة الأولى لقيام ثورات شعبية أخرى أو حتى اندلاع احتجاجات في بعض البلدان العربية وشرق أوسطية بالإضافة إلى الثورة الشعبية المصرية وغيرها مثل: العراق, الجزائر, البحرين, المغرب, واليمن «يذكر أنه حتى وقت كتابة هذه السطور هذه الاحتجاجات مازالت مستمرة أي أن النتائج ما زالت غير معروفة».

          وعلى سبيل المثال أيضا كشفت نتائج الأبحاث التي نشرها مركز بيركمان للدراسات التابع لجامعة هارفارد على موقعه الإلكتروني  Www.harvard.cyber.law.edu عن مؤشرات تدل على أن «الإنترنت» دخلت معركة لفرض «الديمقراطية» فى مصر بما توفره الشبكة من أدوات جديدة استطاعت أن تحرك سكون بحيرة الوضع السياسي المصري، وضمن تلك المؤشرات انتقال النشاط السياسي إلى العالم الافتراضي لما يستوعبه من قيود متعددة مفروضة على وسائل الإعلام الكلاسيكية، إذ تتيح «الإنترنت» للجميع أن يقول ما يشاء وقتما يشاء، ورصدت الدراسة أن هناك 35000 مدونة من جميع التيارات السياسية تناقش المشكلات السياسية الداخلية، وذكرت الدراسة أن شباب الإخوان المسلمين هم الأكثر نشاطا في المعارضة المصرية على الإنترنت، وأن هناك مئات المجموعات على موقع «فيس بوك» تناقش الانتخابات الرئاسية قبل موعدها.

ديمقراطية الفنون على الإنترنت

          بسبب ما وفرته «الإنترنت» من فرص بث اللقطات المصورة على الشبكة شهدت الفترة التي واكبت الثورات العربية، خصوصا في تونس ومصر بث العديد من اللقطات المصورة التي وثقت لحالات فنية تمت في الشوارع أثناء الاعتصامات: أغنيات غناها الثوار، فقرات تمثيلية ساخرة من رموز الفساد، وما شابه ذلك، ثم تطور الأمر إلى إنتاج أغنيات مستوحاة من الثورتين وموثقة لها، أصبحت بمنزلة أغنيات ملهمة للثوار وللجماهير.

          إلا أن الأمر شهد تطورا آخر خلال الأسابيع الماضية حين بدأ بعض المنتجين الشباب في إنتاج برامج مصورة ساخرة منها مثلا برنامج يقدمه طبيب قلب مصري اسمه باسم يوسف ينتقد فيه، بشكل شديد السخرية لا يخلو من خفة الظل، الفنانين والإعلاميين الذين هاجموا الثورة المصرية في بداياتها. واللافت أنه بعد بدء تحميل هذه الحلقات المصورة خصيصا للإنترنت، على موقع اليوتيوب المتخصص في بث اللقطات المصورة، سرعان ما بدأ تداولها على «الفيس بوك» بشكل يشبه كرة الثلج، إذ ارتفع عدد مشاهديها إلى ما يزيد عن مليون مشاهد بعد أسبوع واحد من ظهور أولى حلقاتها، وهو ما دعا التلفزيون المصري، وتحديدًا قناة دريم، لاستضافة بطل البرنامج باسم يوسف في برنامج «العاشرة مساء».

          كما تم عبر الإنترنت تبني دعوات لعدد من الفعاليات الفنية الثقافية التي عرضت في الشوارع، في خطوة استهدفت التوجه بالفنون الشعبية للجمهور البسيط في الشارع، تأكيدا على دور الثقافة في المرحلة المقبلة في توعية الشارع بأهداف ومبادئ الثورة.

المجتمع المدني

          بدا واضحًا من بداية ثورتي تونس ومصر أن هناك رغبة حقيقية لدى الشعبين التونسي والمصري في التحول إلى مجتمع مدني بكل ما يعنيه ذلك من إنشاء دساتير جديدة تقلص نفوذ الحاكم والسلطات التنفيذية، وتحقيق المساواة بين جميع أبناء الشعب وعدم التمييز بينهم على أساس الدين أو الجنس وسوى ذلك من أعراف عامة.

          وقد كانت ساحة الإنترنت بمنزلة المرآة الكاشفة لهذه الرغبة العميقة من جهة، والملعب الأولي الذي صيغت فيه الأفكار، حيث تم إنشاء عدد كبير من المجموعات الخاصة بهذا الهدف أو إنشاء مواقع إلكترونية، وبينها موقع دولة مدنية أسسته الكاتبة المصرية مي التلمساني مع عدد آخر من المثقفين بهدف توعية رجل الشارع بأهمية فكرة الدولة المدنية بما توفره من حقوق المواطنة القائمة على المساواة، أو منظمة الثوار المجتمعية، المهتمة بتقديم خدمات اجتماعية وتثقيفية للجمهور، الجبهة الشعبية الثورية، ميداني..مبادرة المجتمع المدني، ممثلية الإعلاميين الشباب العرب، وكذلك الأمر في تونس، إضافة إلى العديد من المجموعات المشابهة التي ظهرت على «الفيس بوك» في اليمن وليبيا وغيرهما.

الثورة المضادة الافتراضية

          لكن السؤال هو هل كل هذا الحراك الافتراضي، والذي ينبثق على الشبكة ويتحرك للشارع يعبر عن مناخ ديمقراطي حقيقي؟

          ربما تصعب الإجابة الآن عن هذا السؤال بشكل دقيق، في إطار عمليات التخوين المستمرة بين الأطراف المتعارضة، وفي إطار التشويش الذي تتسبب فيه أحداث تبدو قوى الثورات المضادة هي التي تقوم بتنظيمها عبر افتعال وقائع دموية بين الطوائف المختلفة أحيانا، أو إطلاق البلطجية لافتعال أحداث عنف وسرقات، إضافة إلى تحركات افتراضية عبر إنشاء مجموعات مضادة للثورة وتوجهاتها، يبدو جليا من تعليقات أعضائها أنهم يحشدون قواهم لتقييد تطور منجزات الثورة وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه، وغير ذلك من ممارسات تجعل المتعاملين مع الأخبار التي يتم تناقلها على «الإنترنت» عرضة للانفعالات العاطفية من قبل مستخدمي الشبكة، خصوصا «الفيس بوك»، أكثر من قدرتهم على التحرك بشكل منظم ووفقا لفهم حقيقي لمطالبهم والتي ينبغي أن تأتي عبر دراسة جادة لنموذج التنمية الذي يرغبون في استبداله بالنظام الاستبدادي القديم. بمعنى أن تتم دراسة نماذج التنمية المختلفة سواء تلك التي تأسست وفقًا لثورات شعبية، او تلك التي قامت بسبب خطط تنمية وطنية مدروسة علميًا مثل نموذج ماليزيا أو كوريا على سبيل المثال، أو غيرهما من تجارب التنمية المختلفة التي نقلت مجتمعات متخلفة أو نامية إلى آفاق التقدم والرفاهية، وأظن أن المساحة الافتراضية على شبكة الإنترنت ستضع هذا المفهوم في أولوياتها في المرحلة المقبلة.

 

 

إبراهيم فرغلي   
  




 





الواقع الافتراضي يختلط بالواقع الحقيقي في لندن تضامنًا مع الثورات العربية





جدارية في اليمن من إلهام الثورة اليمنية





الشعب في ثورته استعار إلهامات المثقفين والشعراء





برنامج «باسم شو» أحد نتاجات الثورة المصرية على الإنترنت





من أغنيات الثورة