البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث سمير عبدالفتاح

البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث

البنيوية منهج فكري لا يقتصر تأثيره على النقد الأدبي، كما هو شائع، لكنه امتد ليشمل عدة مجالات بحثية ومعرفية أخرى كالأنثربولوجيا، وعلم النفس، والاجتماع، واللغويات وغير ذلك من مباحث تحاول أن تضع أسسا موضوعية - غيرية- لما يسمى بـ " العلوم الإنسانية" أو الوجدانية.

البنيوية- باختصار- هي منهج فكري إجرائي، معارض لكثير من الفلسفات القديمة، لا سيما الفلسفة المثالية، والوجودية، وغيرهما من الفلسفات الفردية والميتافيزيقية الأخرى.

ويذكر أن هذا الاتجاه قد بدأ في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، متأثرا بكتابات هيجل وماركس وفرويد ودوركايم، على ما بينهم من اختلافات في المنهج والاتجاه. ومن هنا يمكن أن نلمح رسوخ هذه التأثيرات وتراوحها بين الجدل- الديالكتيك- كما عرفه هيجل ومارسه ماركس، وبين تحليل- أو ديالكتيك- فرويد النفسي، ودوركايم الاجتماعي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه- البنيوية- قد تشكل واستقام أوائل الستينيات حين أصدر "كلود ليفي شتراوس " كتابه المهم: " الفكر الهمجي " سنة 1962 والذي هاجم فيه "سارتر"- جان بول- هجوما لاذعا ومفندا، وتلاه " فوكوه " بكتابه الدال " الكلمات والأشياء" سنة 1966 ثم "لاكان " بكتابه الذي لا يقل أهمية "كتابات " قبل أن يسطع نجم "ألتوسير" ورفقائه.

ومما هو جدير بالذكر أن البنيويين يرفضون نعتهم بالفلاسفة، ويذهبون إلى القول بأنهم "منهجيون لا مذهبيون " وهذا هو التعريف الدقيق فيما أرى، وها هو " ليفي شتراوس " يسارع إلى القول بأن البنيوية: "مجرد منهج أو نسق يمكن تطبيقه على أي نوع من الدراسات، تماما كما هو الحال بالنسبة للتحليل البنيوي المستخدم في العلوم الأخرى".

وها هو "جان بياجيه " يؤكد- من ناحية أخرى- أن البنية: مثلها مثل السببية في الفيزيقا: "هي صرح نظري وليست معطى إمبريقيا بأي حال "، فهي نظام علاقات داخلية محددة لكل: " لا يمكن اختزاله إلى حاصل مجموع عناصره " كما يقول "لوسيان سيف ". بحيث لا يبقى أمام البنيوية المعاصرة سوى محاولة الصياغة الرياضية لهذا المفهوم المركب.

العرب والبنيوية

ولقد عارض بعض المثقفين العرب هذا الاتجاه إلى البنيوية باعتباره شكليا وجزئيا وأسلوبيا، وعارضها فريق آخر بدعوى أنها "موضة" وانتهت في مهدها - فرنسا - منذ عشرات السنين.

والحق أنهم معذورون- على كل حال- لا سيما من اقتصرت مصادرهم على تلك الكتابات التي لا ترى في البنيوية سوى مجموعة أقواس ودوائر، وجداول إحصائية متهافتة!

والحق أيضا أن البنيوية- أو البنائية STRUCTTURE قد تعرضت لمزالق إجرائية خطيرة تستحق الانتقاد بالفعل، حين بالغت في الشق الإحصائي والشكلاني للنص، وهو ما قادها لطريق شبه مسدود.

بيد أنها- والحق يقال- قد استعادت توازنها ومصداقيتها على يد ألتوسير ولوسيان سيف وغيرهما حين ولدت- بتشديد اللام- النص، وعدته وثيقة اجتماعية، ونفسية، واستطيقية، لا نهائية، إلى جانب كونه- النص- كبنية يمكن تحليلها واستنطاقها أيضا وهو ما يستحق من الناقدين إمعان النظر.

إذن من العبث أن نقول بأن البنيوية تقوم على "لعبة لغوية" تحصي الصفة والموصوف أو الجار والمجرور، أو تقف عند "التيم " التكرارية والإشارية بحيث يسهل بعد ذلك أن تستعيض عن المعنى بسهم أو دائرة، كما يصعب القول بأنها "موضة" وانتهت، فالحق أن النقد الحديث- ونحن هنا نركز على الشق الأدبي فقط للبنيوية- هو حاصل جمع وطرح أغلب إن لم يكن كل التيارات السابقة عليه، والمعاصرة له.

ومن ثم يجب أن نتروى قليلا، حتى لا نسقط في البئر التي حفرناها لغيرنا!! فكل الثمار تسقط في حجر الوعي الإنساني والتجربة الإنسانية.

ولكن ما البنيوية؟

البنيوية- في أبسط تعريفاتها- هي محاولة لفهم محاور النص ومرتكزاته بالتحليل اللغوي والتفكيك النسقي في محاولة لتلمس "الثابت والمتحرك " في ذلك النص، وذلك باستبعاد كل ما هو عليه وكل انطباع عام وحكم عام وذاتي أوقيمي.

فهي لا تقوم النص- بالمعنى الذي يعرفه أنصار البلاغة التقليدية- لكنها تقيمه و"تفصصه " بعد أن تشكل، واستقام بالفعل.

وحين تتعامل البنيوية مع الجزء- أو تبدأ به على الأصح- تعرف أنه قطرة من غيث كما يقولون، وترس من آلة. أو "نقطة تقاطع لحزمة من العلاقات " كما تقول ثائرة شعلان في كتابها عن البنيوية، فالفرد جزء من "بنية" اجتماعية وإنسانية، "والهم منشأة هموم " كما يقول "مالك حداد" والكلمة جزء من جملة، وجزء من مفهوم وهلم جرا. ولأن الكلمة- أو الكلمات- لا تحقق مهامها بالتجاور الكمي، ولأنها- أي الكلمة- دال ومدلول، أو أصل وصورة كما يقول المناطقة، فقد بدأت البنيوية بالكلمة كجزء من كل- تطبيقا لاجتهادات اللغويين- اللسانيين- والاجتماعيين.

فاللغة شكل لا جوهر كما يقول "دي سوسير" وعلى اللغوي "أن يركز وصفه على الشكل، مادام عالم الدلالات- المعاني- مشتركا بين سائر اللغات، ومادام وجه الخلاف بين تلك اللغات إنما يكمن في "الصورة" التي تنظم كل واحدة منها على حدة".

والمقصود بالشكل هنا: دراسة العلاقات القائمة بين تلك الأجزاء أو الكلمات، وهو ما يذهب بنا إلى القول أن البنية "قابلة للانفصال عما تبنيه ".

أما الدكتور "زكريا إبراهيم " في كتابه عن " البنية" فقد قسمها على النحو التالي: "لا شعور= رمز- نموذج= لغة".

ولخصها دي سوسير: بأنها الرغبة في الوصول إلى " الدقة والانضباط " على اعتبار أن "التنظيم اللغوي تنظيم شكلي باطني يعبر عن تماسك العلاقات داخل ذلك النص الموحد".

وبشكل عام يمكن أن نقول إن البنيوية قد قامت ضد الفردية واللاعلمية الاعتباطية، التي تتحدى كل ما يعرف " بالعلوم " الإنسانية.

ومن هنا لاقت البنيوية- وما زالت- قبولا من بعض المثقفين والمفكرين، وكل من يهمه أن يعرف كنه الجيد والجميل والمقبول والتقريبي بشكل منهجي محدد وأن يسبر غور ذلك الكائن الغامض- الإنسان- والمراوغ الذي يشذ عن كل حصر ويتجاوز كل تقنين وتصنيف.

ورغم أن هذه النسبية- أو المجاوزة- لا تعيب الإنسان، بل قد تكون أفضل خصائصه- التعدد والتغير والتباين- إلا أن هذا- على الإطلاق- يجب ألا يثنيه عن "فهم نفسه "!

الإرهابيون

ومن ثم يسقط البنيوي - وغيره- في منزلق منهجي ومنطقي خطير حين يحاول أن يقيم معادلة "جامعة مانعة"- كما يقول المناطقة- ونهائية في مثل هذه الأمور الشائكة، ومن هنا- أيضا- نرفض مغالاة بعض البنيويين الذين يتهمون كل من لا يعترف بنموذجهم بالجهل والافتقار للعلمية، ونرانا نميل مع "هنري لوفيفر" إلى وصفهم " بالإرهابيين " في الوقت نفسه الذي نقف فيه ضد المتحفظين لمجرد أنه منهج "غير ربي "، وضد من يكتفي بإطلاق الأحكام العامة والتي من أهمها : نحن أصل البنيوية!

ولابد أن نؤكد- دون أدنى تحفظ أو شعور بالنقص - أن الجرجاني- عبدالقاهر- وغيره من الرواد العظام قد أكدوا على "معنى المعنى " واقتربوا بذلك من مفهوم البنيوية، دون أن يمدوا الخيط إلى نهايته كما يقال. ولا يعتبر هذا نقدا لابن قتيبة والجرجاني وابن جني وغيرهم لأنهم لم يكونوا بنيويين، لكن- مع كامل التقدير لروادنا العظام- نؤكد أن البنيوية منهج لاحق، وحلقة في سلسلة نجد- دائما- في البحث عن نهايتها فيجب ألا نخجل من لون عيوننا.

كما تجدر الإشارة إلى أن ثمة روافد قد تفرعت أو تمخضت عن البنيوية بحثا وتمحيصا وتوليدا وكلها محولات في "حرث " النص وسبر أغواره ومراميه والحق أن البنيوية قد قامت ضد الأحكام العامة والمفاهيم المعيارية، والقوالب الجاهزة والمهضومة سلفا كما قامت ضد:

النقد السلفي- البيورتاني- الذي كان يحاسب الكاتب على ما وراء النص- وليس على النص نفسه- وما يقصده الكاتب من وراء هذه الجملة أو تلك، وأين الموعظة الأخلاقية هنا؟ وهل هذا يتعارض مع الدين، أو يؤجل من قيمه؟ ثم ما موقف الكاتب الديني، والسياسي والاجتماعي، والنقد تفتيشي "نسبة إلى محاكم التفتيش "؟

كما قامت البنيوية ضد النقد الانطباعي التأثيري الذي يحول النص إلى حكم عام وغائم، يتوقف على حالة الناقد الراهنة ومزاجه ورد فعله، وما " انطبع " لديه بعد قراءة النص بصورة إجمالية كلية جامعة.

وهي نظرة ضيقة وذاتية للغاية تلغي كل ما لا يتفق معها، وتنكر عليه الوجود أحيانا. وفي هذا المجال يمكننا أن نضع بعض مدارس النقد العربي، لاسيما التي كانت تكتفي بأن تصف النص بأنه: حلو المخبر، خفيف المعشر، أو تبحث عما إذا كان الشاعر على سبيل المثال قد ضمن قصيدته الذم والقدح، بعد الحشو والمدح، ومن هو أشعر الشعراء وغير ذلك من الأغراض التقليدية.

وقامت أيضا ضد ما عرف بالمدرسة النفسية في تفسير النص والتي شغلت نفسها بالبحث عن نشأة الكاتب، وعلاقته بأبويه، وعن "العقدة" التي دفعته للانحياز لشخصية ما- وأحيانا: عن العقدة التي دفعته للكتابة أصلا!!

وضد ما يسمى بالواقعية الوصفية أو التسجيلية، التي حرصت على مدى تطابق- لا اتساق- النص مع الواقع العيني، ومدى "دقة" الكاتب في "نقل " مظاهر هذا الواقع المزعوم و"أمانته " في توصيفه وتسجيله.

وأخيرا ضد كل المدارس التي تدور حول النص ولا تدخل فيه أبدا، وكل المدارس التي تكتفي بالأحكام العامة والقيمية والإنشائية، والتي تملي حكما جاهزا ومسبقا لكل نص!! وضد كل الاتجاهات التي تحاول أن " تؤدب الأديب " كما يقول زكي نجيب محمود. أي تعلمه كيف يكتب، وتضع مثالا مسبقا يتوجب محاكاته والسير في كنفه.

وهو ما يتعارض مع طبيعة الإبداع التي تتحدى " النمذجة " وتتجاوز المألوف والمكرور.

المفاتيح الغائبة

والبنيوية- في كلمة- تحاول أن تغطي مثالب النقد القديمة، وأن تلعب دور الوارث الوحيد. ويبدو أن هذا كان- وسيظل- مطلبا لكل مدارس البحث ومناهج النقد الأدبي في كل مكان.

بيد أن ما يرجى شيء، وما يمكن تحقيقه شيء آخر.. فرغم أن البنيوية تزعم لنفسها الموضوعية والعلمية، إلا أنها تسقط فيما تحاول أن تحفره أحيانا.

إذ إن الطلب العادل للثوابت واليقينيات - كما يذهب جارودي- "يؤدي رويدا رويدا إلى نزعة مثالية ".

ومن ناحية أخرى لا يستطيع أحد أن يعفي أدق العلوم الفيزيقية - الطبيعية - من المثالية والمواضعة الاجتماعية.

فالخيال - أحيانا- أهم من الواقع، كما قال أينشتاين نفسه، لأنه يقوم أحيانا مقام الفرض العلمي أو يؤدي إليه.

أعاود القول بأن البنيوية تحاول أن تصل إلى قوانين علمية، وهو حق لا يستطيع أحد أن يمنعه، وتحاول الوصول إلى " المفاتيح الغائبة"، كما يقول لوسيان جولدمان، وأن تقترب من الموضوعية، وذلك بأن تقيم نسقا لا يأكل بعضه بعضا، في محاولة، مشروعة بالطبع لتقنين "هيولة" النص، وتضارب الأحكام التي تستند إلى الانطباع الذاتي والحكم القيمي، وهي محاولات لا نقول إنها يمكن أن تؤدب الأديب، لكنها- على الأقل- تضع بين يديه "المادة الخام " التي يمكن أن تساعده وتعضده.

كما تضع بين يدي الناقد والباحث والمتذوق أسلحة جديدة تساعده على "الدفاع عن نفسه " ضد ازدواج الوعي ومثالب النص، وذلك بالدخول إلى النص وفهم قوانينه وبنيته الأولى- الكلمة- وفض تشابكاته وتداخلاته الفكرية والأسلوبية، بأكبر قدر ممكن من الموضوعية، والغيرية، وعليها- من ثم- أن تحسم: مشكلات شكلية وموضوعية كانت- وما زالت- تتحدى النقد الأدبي والمنهج العلمي أحيانا.

وهو ما يدفعنا للتروي قبل إصدار الأحكام، رغم أن أدوات البحث- اللغة وطرائق التوصيل- مراوغة وغير حاسمة، ورغم أن المرسل والمرسل إليه- الإنسان- كائن مراوغ بطبعه ومتقلب ووجداني.

ورغم أننا رموز نسكن رموزا، كما يقول "إمرسون " نصنع الكذب ونصدقه أو بمعنى أكثر تأدبا نسن القوانين في مواجهة الفوضى دون أن نسأل أنفسنا عما إذا كانت هذه القوانين لم تصنعها فوضى!

وأخيرا لا يستطيع أحد أن ينكر حاجة الإنسان المستمرة للكشف والمعرفة، وتوقه الدائب للعلم والإحاطة، وهو ما يتطلب أدوات معرفية تجدد باستمرار كما لا يستطيع أحد أن ينكر حاجة البحث- والنقد الأدبي على وجه الخصوص- لكل ما يستجد من فكر ونظر ما دام- في النهاية- سيصب في نهر الوعي الإنساني ويخدم البحث عن " الحق " والحقيقة التي يسعى إليها الإنسان في كل زمان ومكان.

 

سمير عبدالفتاح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




فرويد





د. زكي نجيب محمود