الإنتاج السينمائي اللبناني الجديد.. الفيلم الروائي الطويل نموذجًا

  الإنتاج السينمائي اللبناني الجديد.. الفيلم الروائي الطويل نموذجًا
        

          في العامين الأخيرين، شهد قطاع السينما في لبنان نشاطًا لافتًا للانتباه. أفلام روائية ووثائقية عدّة، سواء كانت طويلة أو قصيرة. حراك في مهرجانات سينمائية متفرّقة، بين الخليج العربي (دبي، أبو ظبي، ترايبيكا - الدوحة تحديدًا) ودول غربية وعربية مغاربية. مواضيعها مثيرة للنقاش والاهتمام: من الذاتيّ البحت إلى الجماعة، ومن الراهن إلى الذاكرة الموغلة في مآزق الحرب الأهلية اللبنانية. بالإضافة إلى هذا كلّه، بدت تلك الأفلام قريبة جدًا من هاجس الاشتغال السينمائي البحت، لغة وتصويرًا ومونتاجًا وإضاءة وموسيقى. أي أن أغلبية تلك الأفلام ذهبت إلى السينما كي تقول شيئًا من واقع الحال، الشخصي والعام.

          إذا تغاضى المرء قليلًا عن المشاريع السينمائية التي دخلت غرف العمليات الفنية الأخيرة، منذ مطلع العام 2011 مثلًا (أفلام لكلّ من نادين لبكي ودانييل عربيد وفؤاد عليوان وجان كلود قدسي وآخرين)؛ يُمكن القول إن الحراك السينمائي اللبناني مهمّ، ثقافيًا وفنيًا واجتماعيًا. يُمكن القول أيضًا إن النتاج السينمائي اللبناني لم يعد حكرًا على أفلام وثائقية أو روائية قصيرة، على الرغم من غزارة العمل في هذه الأطر الإبداعية، خصوصًا أن شبابًا عديدين قدّموا أفلامًا وثائقية وروائية قصيرة منتمية، ببساطة، إلى لغة إبداعية جميلة، مع أن المواضيع المختارة مستلّة من بؤس الحياة اليومية والذاكرة المفتوحة على ألف جرح وخراب. وإذا أراد المرء أن يعاين الإنتاج الروائي الطويل فقط، الذي قدّم في العامين الأخيرين تحديدًا عددًا لا بأس به من الأفلام الجدّية والمهمّة؛ فإن الجانبين الوثائقي والروائي القصير مستمران في رفد المشهد اللبناني، بامتداده العربي وتواصله الغربي إنتاجًا ومشاركات مهرجانية وعروضًا متفرّقة، بعناوين موغلة في الحكايات الفردية المنفتحة على التفاصيل الجماعية، وبسرديات درامية سعى أصحابها المخرجون إلى مناقشة أحوالهم الإنسانية وأسئلتهم الأخلاقية وهواجسهم السياسية والثقافية والاجتماعية والحياتية.

أسئلة معلّقة

          لن يكون الأمر مستحيلًا، إن أراد المرء جمع العناوين كلّها المنجزة في العامين الأخيرين. لكن القراءة النقدية المقصودة هنا مهتمّة، أساسًا، بالروائي الطويل، لأسباب عدّة، منها: أولًا: ندرة هذا النوع من الإنتاج المحلي، أو بالأحرى التفاوت النوعي والكَمّي الذي يُظلّل هذا الإنتاج. ذلك أن فترات متتالية تشهد غليانًا في إنجاز أفلام روائية طويلة، قبل أن تهمد الحالة إلى درجة التوقّف شبه الكامل لأكثر من ثلاثة أعوام متتالية، ثم تعود مياه الإنتاج والاشتغالات إلى مجاريها. ثانيًا: اهتمام ملحوظ من قبل موزّعين لبنانيين وأصحاب صالات محلّية بالفيلم اللبناني، وإن لم يبلغ الاهتمام هذا درجة الاهتمام بالفيلم الغربي القادر على جمع إيرادات أكبر وأهمّ. في هذا الإطار، لا يُمكن التغاضي عن تجربة «سينما متروبوليس» (صالة فن وتجربة)، التي شكّلت، منذ أعوام عدّة، حيّزًا مغايرًا للسائد التجاري، باحتضانها مهرجانات وتظاهرات واستعادات سينمائية مختلفة، وبفتحها مجالًا واسعًا أمام تجارب سينمائية شبابية محلية لتقديمها أمام جمهور راغب في متابعة أحوال السينما في بلده. وإذا انصبّ الاهتمام الأول للصالة هذه على الفيلم الوثائقي، في مبادرة غير مسبوقة محليًا، فإن صالات أخرى منحت أفلامًا روائية طويلة فرصة التواصل مع مشاهدين مهتمّين بها. ثالثًا: قدرة الأفلام الروائية المنجَزة أخيرًا على طرح/ إعادة طرح ثلاثة أسئلة على الأقلّ: أولًا:نوعية الاشتغال السينمائي، وهذا مهمّ للغاية بحدّ ذاته، لأنه بدا أنضج وأكثر انفتاحًا ووعيًا إزاء التقنيات المتطوّرة، وإزاء الإصرار على معالجة الصادم والمؤلم، بدلًا من الاكتفاء بالعاديّ والمسلّي. ثانيًا: العلاقة القائمة بين الصنيع السينمائي والهمّ الإنساني الفردي والجماعي، وهي علاقة مفتوحة على الاحتمالات الدرامية والجمالية والفنية كلّها، لكن أيضًا على الأسئلة الموجعة والملتبسة والمعلّقة في فضاء السلم الأهليّ اللبناني الهشّ والمنقوص. ثالثًا: تحسين الشروط المطلوبة لتأسيس جمهور قادر على المُشاهدة والمُشاركة في مناقشة تلك الأفلام. غير أن الواقع الميداني كشف أن الأفلام اللبنانية كلّها، الروائية والوثائقية، المعروضة تجاريًا، لم تستقطب أعدادًا كبيرة من المُشاهدين، لأن هؤلاء الأخيرين لم يعتادوا بعد وجود حراك إنتاجي سينمائي محلي متنوّع، ولم يجدوا في بعض تلك الأفلام ما يغريهم لمُشاهدة أفلام أخرى.

          إن طرح هذه الأسئلة لم يؤدّ إلى إجابات شافية ومؤكّدة. فالحراك الإنتاجي لايزال مرتبكًا، والمُشاهدون اللبنانيون محتاجون إلى وقت طويل لإدراك أهمية المعالجات الدرامية لأسئلة الحرب والواقع والراهن والمتأزم، والألم الذاتيّ والاختبار الشخصي. ثم إن الأفلام المُنجزة أخيرًا عرفت دروبًا صعبة لبلوغ الصالات التجارية المحلية، وللصمود فيها لفترة أطول من المعتاد، كي يتسنّى للمهتمّين «الاستماع» إلى آراء من سبقوهم إلى مشاهدتها. العلاقة بين الأفلام اللبنانية والمُشاهدين اللبنانيين ليست متأزمة جدًا، لكنها ليست مريحة. والأفلام الجديدة هذه دليلٌ على التناقض القائم بين حيوية الإنتاج وخمول المُشاهدين، علمًا أن هؤلاء الأخيرين، أو أغلبيتهم على الأقلّ، غير مرتاحين إلى استعادة فصول من الحرب الأهلية، أو حكايات ذاتية بحتة. وهذا يُحيل إلى مأزق الثقافة السينمائية، الواضحة لدى أكثر من جيل شبابي، مع أن الجيل الشبابي لم يُشكّل بعد دعمًا أساسيًا لهذا النوع من صناعة الأفلام.

اختبارات مغايرة للسائد التجاري

          لا يعني هذا كلّه تغاضيًا عن الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة. بالنسبة إلى النوع الأول، عُرض أخيرًا في «صالة متروبوليس» الفيلم الجديد لماهر ابي سمرا «شيوعيين كنّا»، أمام جمهور (بلغ عدد مشاهدي الفيلم في ثلاثة أسابيع فقط ألفًا وثلاثمائة مُشاهد) استعاد برفقة المخرج وشخصيات فيلمه حقبة سياسية وتاريخية وثقافية وفكرية لبنانية، من خلال قصص شباب منتمين إلى جيل الحرب الأهلية اللبنانية، التي حاربوا فيها بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي اللبناني، قبل أن يجد كل واحد منهم نفسه في إطار سياسي ثقافي اجتماعي مختلف، إن لم يكن مناقضًا لتوجهاته اليسارية القديمة. بالنسبة إلى النوع الثاني، عُرض في إحدى صالات سينما «أمبير»، أحد أكبر المجمّعات السينمائية في لبنان حاليًا، الفيلم الأول ليمنى عيتاني «وشم بالعين» (لم يتجاوز عدد مشاهديه، في خمسة أسابيع، ألف مُشاهد تقريبًا)، الذاهب إلى قاع المجتمع اللبناني في المدينة الشمالية طرابلس، بحثًا في المآزق الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية لمجموعة من الشبّان الضائعين في قلب مدينتهم، والتائهين وسط انهيار المثل والقيم. فيلمان اثنان وجدا طريقهما إلى جمهور شاهدهما، فإذا به ينتبه، مجدّدًا، إلى أهمية هذين النوعين، وإلى قدرتهما على التوغّل في شئون فردية وجماعية. هناك أيضًا «ملاكي» لخليل زعرور و«تيتا ألف مرّة» لمحمود قعبور: فيلمان وثائقيان تحوّلا إلى مرآتين شفّافتين عن واقع وذاكرة: الأول استعاد حكاية المفقودين والمخطوفين، من خلال لقاءات مُصوَّرة مع أمهات وزوجات ينتظرن عودة أحبائهنّ من غياب قسري وأمكنة مجهولة. والثاني استكمال لتجربة لبنانية برزت في الآونة الأخيرة، ومتمثّلة بقيام مخرجين وثائقيين عديدين بإجراء حوارات مطوّلة مع أقرب الناس إليهم (أب، أم، جدّة، عمّ، وغيرهم)، بحثًا في التجربة الفردية، وذهابًا بفضلها إلى الاختبارات الجماعية التي عرفها البلد والمجتمع والناس في أزمنة مضت. 

          بالعودة إلى الأفلام الروائية الطويلة، يُمكن القول إن بعضها، الذي عُرض تجاريًا في أوقات متفرّقة بين أكتوبر  2010 ومنتصف العام 2011، شكّل عاملًا جاذبًا لمُشاهدين أقرّوا بجماليات معينة دفعتهم إلى متعة العين والقلب والروح والعقل معًا. ومع أن المواضيع المختارة لا تمتّ بصلة إلى الترفيه السينمائي، أو إلى البساطة البصرية في مقاربة أمور الحياة وشئون الناس، «نجح» بعض هذه الأفلام في التأثير المباشر على المُشاهدين، وفي دفع نقّاد وصحفيين إلى قراءات متفرّقة للمواضيع والأشكال معًا. فمن بدايات الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1976 («رصاصة طايشة» لجورج الهاشم) وسؤال المفقودين والمخطوفين أثناء اندلاع فصول عنيفة ودموية فيها خلال الثمانينيات المنصرمة، وإن بأسلوبين مختلفين تمامًا كل منهما عن الآخر («شتّي يا دني» لبهيج حجيج و«كل يوم عيد» لديما الحرّ)، إلى مقاربة الحياة اليومية الخاصّة والضيّقة في مدينة شمالية هي طرابلس («طيّب، خلص، يلاّ» للثنائي رانيا عطية ودانيال غارسيا)، مرورًا بالأدب والشعر والعلاقة القائمة بين سحر الكلمات وسعي الصورة إلى مقاربة هذين السحر والكلمات معًا («شو عم بيصير؟» لجوسلين صعب)، بدت هذه العناوين إضافات متنوّعة على النتاج المحلي، وتحفيزًا سينمائيًا على مقاربة الأسئلة المعلّقة، بطرق مختلفة. أفلام متفاوتة المستويات الإبداعية، لكنها متشابهة في قدرتها على إثارة حشرية المُشاهدة، تعليقًا على أشكالها ومضامينها. هناك أيضًا «الجبل» لغسان سلهب و«ميدان» لباتريك شيحا، اللذان عُرضا في بيروت في إطار مهرجانين سينمائيين اثنين، لعبا دورًا أساسيًا في إتاحة الفرصة لمشاهدتهما، هما «مهرجان الفيلم اللبناني» (ميدان) و«أيام بيروت السينمائية» (الجبل).

اشتغالات سينمائية حِرَفية

          قد يقول قائل إن «ميدان» باتريك شيحا ليس فيلمًا لبنانيًا. إنتاجه وقصّته وممثلوه وفضاؤه العام لا علاقة لها بلبنان إطلاقًا. الإسقاطات الدرامية إنسانية، أي قادرة على أن تكون مرايا متقابلة أو متداخلة أو متفاوتة لأمور وحكايات متشابهة هنا وهناك. المخرج نفسه مولود في فيينا ومقيم في باريس. غير أن فيلمه هذا دافعٌ إلى متعة لا مثيل لها: المخرج الشاب، المولود في العام نفسه الذي شهد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975)، متمكّن من إشاعة مناخ فني بديع. إنه، باختصار، فيلم جميل، مليء بمعطيات فنية ودرامية لافتة للانتباه: التصوير (باسكال بوسي) والأداء التمثيلي لبياتريس دال وإساي سلطان تحديدًا. هناك أيضًا التوليف (كارينا ريسّييه) والسيناريو (شيحا نفسه): قصّة علاقة امرأة أربعينية بشاب في مقتبل العمر، وما يترتّب عليها من مفارقات وأحاسيس وآفاق مسدودة وحكايات مصطدمة بخيبات وآلام وتمزّقات. علاقة مفتوحة على المسائل الإنسانية: المرأة مُصابة بمآزق العيش على الحدّ النهائي للهاوية. الشاب مقبل على الحياة بحماسة مصطدمة بحبّه الكبير للحياة ولتلك المرأة معًا، وببؤس يوميات المرأة، المثقلة بجراح لا تندمل. معها، أو ربما عبرها، يكتشف الشاب الحياة، خصوصًا أنه في المرحلة الفاصلة بين مراهقة وشباب.

          «الجبل» مختلف تمامًا. هناك تشابه قليل بين هذين الفيلمين، خصوصًا لجهة اختيار الطبيعة جزءًا من الديكور والأحاسيس. غسان سلهب مولع بممارسة التمارين السينمائية. لا أعني أنه مكتف بها، بل هو قادر من خلالها على تقديم الجديد. في فيلمه الروائي الطويل الرابع هذا، انتقل سلهب من بيروت، المدينة الأحبّ إلى قلبه والشخصية الثابتة في أفلامه السابقة، إلى الجبل. انتقال مرتبط برغبة في الاكتشاف، وبمحاولة فهم الأبعاد الإنسانية للعزلة خارج الأطر المعروفة. الكلام قليل جدًا، لأن الصُوَر هنا أصدق قول وأقوى تعبير عمّا يختلج في روح المخرج وعقله وانفعاله. العزلة والتواصل المباشر والحسي مع الذات، جسدًا وروحًا، من خلال رجل أراد اختبار العزلة هذه، بحثًا في ذاته عنها. الإيقاع الهادئ انعكاس لحجم الغليان الداخلي. السعي إلى الكتابة مدخلٌ إلى فهم العوالم الدفينة في ثنايا الروح ومسام الجسد. لا شيء يحثّ الرجل على الخروج من غرفته. في النهاية، بدا الموت عاملًا جاذبًا. لكنه موت مفتوح على أسئلة الخيبات والالتباس والغموض. لأن غسان سلهب مهموم بالاشتغال الحرفي شكلًا ومضمونًا، جعل نتاجه الإبداعي مرايا الحكايات المنقوصة والنهايات المعلّقة والفضاءات الغامضة. الغموض ليس بالمعنى السلبي، بل بالمعنى القادر على إثارة المُشاهد ودفعه إلى المُشاركة الذاتية بما يجري أمامه ومعه وفيه أيضًا.

          هذه نماذج متنوّعة عن بعض الحراك السينمائي اللبناني في العامين الأخيرين. القراءة النقدية تسبر أغوار المضامين وأشكالها التعبيرية، لكن الأفلام نفسها مفتوحة على احتمال القبول الجماهيري لها أو عدمه، لأنها غاصت في تشعّبات البيئات الفردية والأمكنة الجماعية، وفي دواخل الناس وانفعالاتهم وخيباتهم. الحرب اللبنانية حاضرة هنا وهناك، لكنها لم تغب عن أفلام لم تذهب إليها مباشرة، لأن الحرب تلك مستمرّة في رفد الحياة اليومية بألف صدمة وانكسار وتمزّق، والأفلام تلك وغيرها أيضًا لا تستطيع التحرّر منها كلّيًا. هذه نماذج متنوّعة قادرة على القول، ببساطة واختزال، إن هناك استمرارية ما في إنتاج أفلام روائية طويلة، تقدّم للجميع تنويعًا بصريًا يُفترض به أن يحرّض الجميع على المُشاهدة والمناقشة.

--------------------------------

          إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه
                                        شكا الفقرَ، أو لامَ الصّديقَ، فأكثرا
          وصارَ على الأدنَينَ كَلاًّ، وأوشكتْ
                                        صلات ذوي القربى له أن تنكرا
          وماطالبُ الحاجاتِ من كل وجهة
                                        من الناس إلا من أجدّ وشمّرا
          فَسرْ في بلاد الله والتمسِ الغنى
                                        تَعِشْ ذا يَسارٍ، أو تموتَ فتُعذَرا

عروة بن الورد

 

نديم جرجورة   
  




لقطة من «كل يوم عيد» لديما الحرّ





ماهر أبي سمرا تحضيرًا لتصوير لقطة من فيلمه الوثائقي الجديد «شيوعيين كنّا»





من اليمين: كارمن لبّس وجوليا قصّار وإيلي متري وديامون بو عبّود في لقطة من «شتّي يا دني» لبهيج حجيج





من اليمين: نادين لبكي وباتريسيا نمّور في لقطة من «رصاصة طايشة» لجورج الهاشم





المخرجة اللبنانية دانييل عربيد





لقطة من «شو عم بيصير؟» لجوسلين صعب