فن الخط العربي والتقنيات المعاصرة

  فن الخط العربي والتقنيات المعاصرة
        

          يأخذنا التفكير في التنمية المستقبلية، في موضوع فن الخط للوقوف طويلاً أمام مسألتين جوهريتين، أولاً: التقدم التقني المتسارع وتجلياته في مجال الكمبيوتر والطباعة الحديثة، وفي مجال ما نسمّيه التصميم الفني «الغرافيك ديزاين» ووسائل الاتصال السمعية البصرية. ثانيًا: أمام الفلسفة والقيم والمفاهيم الجديدة التي تشهدها الفنون التشكيلية منذ أكثر من قرن تحت عنوان «الحداثة وما بعد الحداثة».

          وقد نتج عن هذا التقدم التقني المتسارع في النمو والانتشار في الربع الأخير من القرن الفائت أساليب وصيغ وحلول جديدة بدت للكثيرين من العاملين في مجال فن الخط، تجاوزًا وتخطيًا للأساليب والصيغ التي عرفها وتوارثها هذا الفن منذ عصور، وشكّلت لدى الكثير من النقاد والباحثين مسألة خلافية حرجة، فإذا رأى البعض فيها منعطفًا واحدًا يفصل بين ماض وحاضر، رأى فيها البعض الآخر تحديًا فنيًا وحضاريًا لابد من مواجهته.

          من الممكن التوقف عند هذه الملاحظات العامة وإحياء السجال الطويل والمضني حول القديم والحديث، أو حول الأصالة والحداثة، والوصول إلى نتائج وأجوبة توفيقية ترضي العقل أو ترضي المنطق الجدلي، ولا تجيب عن أسئلة الواقع، كما هو الحال دائمًا في مثل هذه النقاشات، إلا أن القراءة التفصيلية للواقع تضعنا أمام معطيات تبدو فيها صناعة الخط أو حرفة الخط مهددة بالتراجع والزوال، ويبدو فيها الخطاط في وضع ملتبس، سواء أكان ذلك على صعيد المهنة أي الحرفة أم على الصعيد الفني البحت.

          يمكننا ملاحظة ذلك في الثورة التقنية التي أحدثتها النظم الرقمية في مجال «الكمبيوتر» والتي أخذت بها وسائل الاتصال الحديثة على اختلاف أنواعها، من الطباعة إلى الوسائل السمعية - البصرية وصولاً إلى شبكات «الإنترنت» العالمية. لقد أحدثت ثورة النظم الرقمية انقلابًا مثيرًا في بنية صناعة الخط نفسها وفي نظام الخطاط كعالم مترابط قائم على تقاليد وأعراف عريقة.

قراءة الواقع الراهن

          وقد ألغت هذه الثورة على سبيل المثال، الحاجة إلى أدوات صناعة الخط جميعها: الدواة، القلم، المقط، المداد، الورق وما إلى ذلك من أدوات شغلت اهتمام المؤرخين والباحثين، وشكّلت أسرارًا قامت عليها جودة الخط وشهرة الخطاط.

          وعلى صعيد المهنة أو الحرفة، خسر الخطاط التقليدي وظيفته في مجال الصحف والمجلات ودور النشر ومكاتب الإعلانات بجميع أنواعها والمؤسسات الحكومية المسئولة عن إشارات المدن والطرقات والإعلانات الرسمية، والتي شكّلت وعلى مدى القرن العشرين مجالاً واسعًا ضم مئات، بل آلاف الخطاطين.

          ولم تأت هذه الخسارة لأن الخطاط قصّر في تخطيطه أو لأن المؤسسات ملّت الخط وتراجعت عن تذوّقه، بل تم ذلك اضطرارًا بقوة هذه الثورة التقنية والتكنولوجية وسيطرتها وفاعليتها من جهة، وترابط أساليبها وصيغها مع حاجات وتطلعات المجتمعات الحديثة التي أخذت بكل وسائل التقدم التكنولوجي كأمر لابد منه للوقوف مع المجتمعات الأكثر تقدمًا أو لتحقيق ما تراه ازدهارًا وتطورًا.

          من جهة ثانية، أحدثت هذه الثورة تبديلاً جوهريًا في وظيفة الخطاط وصفاته المهنية، حيث حوّلت محترف الخطاط التقليدي القائم على خطاط معلم وخطاطين مساعدين أو متدربين وتلامذة جدد ومجموعة من الخبرات والأسرار المتوارثة إلى مهندسين ومصممين فنيين وتقنيين متدرجين وهواة مغامرين يتحلّقون حول أجهزة صغيرة بالغة التعقيد، كثيرة القدرات، سريعة الاستجابة، متناهية الدقة، مهيأة دائمًا لأي جديد ولأي اختبار أو تجريب.

منعطف جديد

          إن قراءة تفصيلية للواقع الراهن لا تؤكد لنا أن الخطاط في مهنته وحرفته محاصر، وأن شكوكه حول حاضره ومستقبله مبررة وأن وسائل دفاعه تتهافت باستمرار، بل إنها تبين بوضوح أن منعطفًا جديدًا قد شق طريقه بسرعة وقوة، ومن الصعب أو من المستحيل ردّه أو إيقافه.

          هكذا لا تبدو صورة الخطاط الآن وصورة فن الخط في الأماكن والبلاد التي عرفت هذا الفن، صورة واضحة المعالم، خاصة إذا كان القصد قراءة تقويمية أو قراءة تذوقية تأملية تأخذ من الخط كواحد من تجليات الإبداع. الصورة غامضة، والخطاط في وضع ملتبس، ينضم إليه أو يقف معه الفنان الحروفي الذي سعى إلى اللوحة الحديثة عن طريق الخط أو الحروف، والذي قد يكون وضعه أشد التباسًا من وضع الخطاط.

          يحاصرنا الالتباس كلما حاولنا أن نجد للخطاط مكانًا أو مقامًا في سلم الرتب الفنية التي سادت منذ ثورة الفن الحديث كقيم فنية عامة وشبه مطلقة. ونقع في الالتباس أيضًا كلما حاولنا أن نجد مجالاً أو حيزًا للخط يتلاقى أو يتجاور أو يشارك مجال وحيز اللوحة أو العمل الفني، سواء كان ذلك الحيز متحفًا أو صالة عرض أو جدار بيت أو دفتي كتاب.

          ومما يزيد في الوضع التباسًا، تقدير غامض أو ما يشبه الاحترام أو لنقل حبًا غامضًا يستيقظ بين الحين والآخر ليشهد للخط كفن أصيل ويدفع بالخطاط وبعض الجمهور وبعض المؤسسات للأخذ بالخط ممارسة وتذوقًا وغيرة، تراثًا وفنًا وخصوصية حضارية، أو ما عكس ذلك تمامًا، رفض غامض أو ما يشبه الانزعاج أو لنقل نفورًا يبرز بين الحين والآخر، يرى الخط فنًا بائدًا أو صدى من أصداء الماضي المتهافت.

قراءة الماضي القريب

          لنعد إلى السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر، السنوات التي شهدت فيها الحياة الثقافية دعوة النهضة العربية للانفتاح على الحضارة الغربية، أو لنعد إلى قبل ذلك بسنين أيضًا عندما بدأت الدولة العثمانية تستسلم تدريجيًا للغرب كحضارة جديدة متقدمة. منذ ذلك الوقت والحياة الفنية تتأسس في الشرق على القيم الفنية الغربية كقيم فنية إنسانية شاملة مرة، وعصرية حديثة مرة ثانية، وكلغة عالمية مرة ثالثة. صحيح أن الفنان الشرقي الحديث - أو اللوحة الحديثة - لايزال منذ بداية القرن العشرين يثير حوله الأسئلة الحرجة، لكن الأكيد أن الخطاط وفن الخط نفسه بدآ منذ ذلك الوقت يدخلان في حالة الخسران.

          تظهر علامات الخسران الأولى في ضيق وتقلص مجال فن الخط في الكتاب والعمارة والنسيج والخزف والمعادن. وفي الظاهر أو في الشكل، يمكننا الإشارة إلى اختراع المطبعة أو وصولها إلى الشرق كفاتحة لهذا الخسران، فالكتاب، أو بالأحرى المصحف، كان المجال الأهم لتجليات فن الخط. ولقد أثار وصول المطبعة قلق الخطاطين ومحبي الخط حيث يسجل لنا التاريخ أحداثًا مثيرة عن مظاهرات وردود فعل جديرة بالتأمل. لكني أعتقد أن فاتحة الخسران تبدأ في مكان آخر أو تجيء من جهة أخرى، فالخط جزء لا يتجزأ من الفن الإسلامي، أي جزء لا يتجزأ من فن العمارة، مسجدًا أو قصرًا أو بيتًا أو مقامًا، ومن فن النسيج، سجادة أو قميصًا أو كسوة، أو من فن الخزف، صحنًا أو بلاطة أو قصعة، والخطاط وخطه واحد سواء كان يخطط لصفحة في مصحف أو قبة مسجد أو بضعة أسطر في منمنمة.

تفريغ الفن الإسلامي من جوهره

          وإذا قادنا التأمل مرة جديدة إلى وحدة الفن الإسلامي كفن ينطلق من رؤية جمالية فلسفية تشمل الإنسان والفن والكون، فإننا ندرك أن الخسران يبدأ مع قلق واضطراب القناعة بهذه الرؤية والأخذ بها والسعي بهديها، انطلاقًا من تلك السنوات، ووصولاً إلى أيامنا الحاضرة، يسهل علينا جدًا مراجعة قائمة الخسران، فيكفي أن ننظر حولنا كيفما اتفق، إلى العمارة الجديدة، إلى المسجد الجديد، إلى السوق، البيت، الكتاب، الثوب.. يكفي أن نراجع وكيفما اتفق أيضًا القيم والفلسفات الجديدة في الفن والإنسان، لندرك أن مجال الفن الإسلامي وبالتالي الخط في حال خسران مستمر.

          هكذا يأخذنا التأمل في موضوع الخط والتنمية المستقبلية إلى المشكلة الأم، أي إلى الأزمة الثقافية والحضارية الكبرى، أزمة ما يسمى الهوية الحضارية والخصوصية الثقافية. وإذا كان يصعب علينا أن نفصل هنا بين فن الخط والفن الإسلامي، فإننا يصعب علينا أيضًا أن نفصل بين الفن الإسلامي والرؤية الفلسفية الجمالية التي انحدر منها هذا الفن.

          وانطلاقًا من هذه الحقائق الجوهرية، يأخذنا التأمل في مسألة الخط والتنمية المستقبلية إلى الوقوف أمام ظاهرة مثيرة حقًا، فلسنا أمام أمر يمكن رفضه أو قبوله، أو أمر يمكننا فيه أن ننحاز إلى طرف دون آخر، ذلك أن الأمر كله لايزال محصورًا حول التقنيات والوسائل لا حول الخط نفسه كمضمون جمالي أو كفن، وبالتالي فإننا أمام واحدة من المسائل الجوهرية والتي تشكّل واحدة من خصائص فن الخط الجمالية أو واحدة من خصائص الفن الإسلامي الفلسفية، ففن الخط أو الفن الإسلامي يرى أن التقنية قيمة أساسية في عملية الإبداع، فقد قام هذا الفن أساسًا على التشكّل كونه هو المضمون، وكونه لغة تترجم النظام الخفي للكون، طبيعة وإنسانًا. والخط شكل، تشكله حروف هي خطوط مستقيمة ومنحنية، مقوّسة ومبسوطة، منتصبة ومنكبة، بمعنى آخر أنها أشكال هندسية تتوالد من الأشكال الهندسية الكلية كالمثلث والمربع والدائرة، وبالتالي فإن صفات كالإتقان والنظافة والدقة والتوازن والتماثل والتطابق والتساوي والتقاطع والتماس، هي التي تشكّل عناصر الإبداعية في فن الخط وعناصر الجمالية في الفن الإسلامي، زخرفة وعمارة وما إلى ذلك.

          نستطيع الإشارة هنا إلى أن جميع الكتب التي أرّخت لفن الخط لم تتحدث إلا عن التقنيات، ويمكننا القول أيضًا إن هذه الكتب لم تكن معنية بالحبر وتركيبه والقلم وبريه حبًا في الحبر والقصب أو هوسًا بالتصنيع، بل كان ذلك من أجل أن تجتمع كل هذه الأدوات والمواد لتكون في خدمة الخط أو في خدمة الشكل، فالخط المستقيم أو الخط المنحني هو القصد، التماثل أو التوازن والدقة والانسياب والحوار بينهما هو القصد، وعلى الورق والحبر والقلم أن يتخلى كل منها عن ذاته مهيئًا الطريق ليحضر الخط ويتجلى بكل وضوح وبكل قوة.

          هكذا تضعنا هذه الثورة التقنية الجامحة أمام معضلة حرجة، فما تحققه أمامنا هو صورة من حلمنا القديم وهو واحدة من قناعاتنا الأساسية، ولكنها في الوقت نفسه تعصف بعواطفنا وقلوبنا وتتجرأ في تمزيق ذاكرتنا وذكرياتنا.

          إن أية مراجعة سريعة للواقع في المائة سنة الماضية تقودنا إلى نتائج سلبية. فالخط في تراجع مستمر، سواء كان ذلك في مجال الوظيفة الفنية أو الوظيفة المهنية. والخطاط في وضع ملتبس بين إبداع بلا مجال وحرفة بائدة، ولا تقل التباسًا التوجهات التي استوحت فن الخط في الحركة التشكيلية للفن الحديث، ففي الوقت الذي تستجيب فيه لشعار الأصالة والحداثة الذي رفعه المثقفون، تنعطف نحو سهولة وتلفيقية تخسر معهما الأصالة والحداثة.

          قد تكون مراجعة الأزمات أو المنعطفات الكبرى التي واجهها فن الخط عبر تاريخه الطويل ودراسته من جديد من الأمور الملحّة لمواجهة الأزمات أو التحديات الجديدة. وبناء عليه، لابد لنا من أن نميّز بين فن الخط وفن الكتابة، أي أن نميز بين الخط كتجل جمالي والخط كوسيلة اتصال وتواصل.

          إن الخط كتجل جمالي كان سابقًا لتجليه كوظيفة ووسيلة من وظائف اللغة أو التواصل اللغوي. فالقرون الأولى من تاريخ الخط الكوفي على سبيل المثال، وخاصة الأعمال التي تمت خارج الكتاب، تشهد على جمالية شكلية صرفة، كما تشهد الأعمال التي تلت ازدهار صناعة الكتابة، بأن فنًا جديدًا قد برز يمكن أن نطلق عليه فن الكتابة الجميلة.

التقنية ليست عائقاً

          هكذا، يمكننا الرجوع إلى المنعطف الأول الذي أحدثه وصول المطبعة وردات الفعل لدى الخطاطين والنساخين والوراقين آنذاك لأخذ العبر. فوصول الكمبيوتر الآن يشبه وصول المطبعة، وردات الفعل من قبل الخطاطين والعاملين في صناعة الكتاب تشبه ردات الفعل القديمة، أي المقاطعة والشعور بالهزيمة من جهة، أو اللحاق اللاهث والمتعثر من جهة ثانية.

          إن عبر الماضي تقول لنا إن المشكلة لم تكن في وصول المطبعة، كما أنها يمكن ألا تكون أيضًا في وصول الكمبيوتر، وبالتالي فإنها ليست فيما نسمّيه التقدم التقني، كذلك يمكننا القول إن المشكلة ليست في الانفتاح أو الأخذ بقيم الفن الحديث السائد عالميًا، فقد عرف تاريخ فن الخط أو تاريخ الفن الإسلامي أزمات كثيرة في ماضيه الطويل تمحورت حول التقدم التقني والانفتاح على فنون حضارات أخرى، وفي كل مرة كان الحل يجيء من عمق التأمل وصفاء الإصغاء للمبادئ الفلسفية والجمالية التي وقفت وراء الفن الإسلامي وتجلياته، ومن الفهم الكلي والنظرة الشاملة للإنسان والوجود، التي لابد أن يحملها مَن يسعى إلى الخط أو الفن.

          قبل قرون، أشار أبو حيان التوحيدي إلى أن الخط هندسة صعبة وصناعة شاقة. أعتقد أننا لو نظرنا إلى الخط والخطاطين كهندسة ومهندسين وكنا على قدر الصعاب والمشقة، نستطيع أن نحوّل ما نراه خسارة إلى ربح أكيد.

------------------------------------

          ذَرِيني أُطَوِّفْ فِي البلادِ لعلَّنِي
                                        أخَلِّيكِ أو أغْنِيكِ عن سُوءِ مَحْضَرِ
          فإن فاز سهم للمنية لم أكن
                                        جَزُوعاً، وهَلْ عن ذاكِ من مُتَأخَّرِ
          وإن فاز سهمي كفكم عن مقاعد
                                        لكم خلف أدبار البيوت ومنظرِ
          تقول: لك الويلات هل أنت تارك
                                        ضَبُوءَاً بِرَجْلٍ تارة ً وبِمنسرِ
          ومستثبت في مالك العام إنني
                                        أرَاكَ عَلَى أقْتَادِ صَرْماءَ مُذْكِرِ
          فَجُوعٍ بها لِلصَّالِحِينَ مَزلَّة
                                        مخوف رداها أن تصيبك فاحذرِ

عروة بن الورد

 

 

سمير الصايغ