فتاة سوداء سمير عبدربه

فتاة سوداء

قصة للكاتب السنغالي: سيمبن عثمان
في مدينة أنتيب عبر الريفيرا وعند الطريق المؤدي إلى إيرميتاج وقفت سيارتان وخرج عدد من الرجال اندفعوا إلى أسفل الرمال واتجهوا صوب منزل يحمل لافتة تقول: (فيللا السعادة الخضراء).

كان أحدهم ضابط شرطة، والآخر طبيبا شرعيا، ورجلان من مفتشي البوليس في أنتيب يرتديان زي الشرطة، ولم يكن ثمة شيء أخضر حول فيللا السعادة سوى اسمها. لكن الحديقة كانت مرتبة على الطريقة الفرنسية.

اقترب الضابط من المنزل وظل يتنقل بنظراته في كل اتجاه حتى توقفت عيناه عند الشباك الثالث ذي الزجاج المكسور، والذي يتدلى منه أحد السلالم، بينما دخل مفتش الشرطة وأحد المصورين إلى داخل المنزل وظلوا يحدقون بانبهار ودهشة إلى التماثيل الإفريقية والأقنعة وجلود الحيوانات وبيض النعام المتناثر فوق الحائط.

امرأتان كانتا تبكيان وتشبه إحداهما الأخرى إلى حد كبير، نفس الجبهة المستقيمة والأنف المنحني ودوائر سوداء حول العين صار لونها أحمر من البكاء.

قالت ذات الرداء الشاحب: غفوت قليلا ثم مضيت إلى الحمام لكن الباب كان مغلقا من الداخل.

استطردت وهي تحرك أنفها: قلت لنفسي لابد أن الخادمة تقوم بحمامها، أوه، لقد قلت الخادمة مع أننا كنا دائما نناديها باسمها "ديوانا"...انتظرت ساعة وأكثر لكنها لم تخرج فعدت إلى الخلف وظللت أنادي ثم طرقت الباب دون جدوى فسارعت باستدعاء جارنا القبطان البحري.

توقفت عن الحديث ومسحت أنفها، ثم بدأت تبكي من جديد، وكانت أختها الصغرى ذات الشعر القصير جالسة ورأسها معلق بيدها.

* هل أنت الذي اكتشف الجثة؟

- نعم، إنه أنا. كانت مدام بوشيه قد استدعتني وأخبرتني أن البنت السوداء أغلقت على نفسها الحمام فاعتقدت أنها نكتة فأحضرت السلم معي.

* أنت إذن الذي أحضرت السلم؟!

- لا... إن الآنسة دوبوا أخت المدام هى صاحبة الفكرة، وما أن وصلت إلى الشباك حتى رأيت الفتاة السوداء غارقة في الدم.

* أين مفتاح الباب؟

قال المفتش: ها هو ياسيدي.

أردت فقط أن أراه.

قال المفتش الآخر: لقد تفحصت الشباك.

وقال رجل البحرية المتقاعد: أنا الذي فتحته بعد أن كسرت الزجاج.

* أي زجاج تقصد؟ أجابت الأخت: الثاني من أعلى.

لفوا الجثة في بطانية ووضعوها فوق النقالة، وكانت قطرات من الدم تتساقط من الجثة، رفع الضابط البطانية قليلا فأصابه العبوس، فقد كانت رقبة الفتاة السوداء قطوعة من إحدى أذنيها إلى الأخرى.

قال أحدهم من فوق السلالم: بهذه السكين، سكين المطبخ.

* هل جاءت معكم من إفريقيا أم أنكم استأجرتموها هنا؟

- جاءت معنا عندما عدنا في أبريل الماضي، لكنها حضرت بطريق البحر لأن زوجي يعمل في البحرية الجوية في داكار، والشركة لا تدفع تذاكر الطيران إلا للعائلة، كانت تعمل عندنا في داكار مدة عامين ونصف، وربما ثلاثة أعوام.

* كم عمرها؟ - لا أعرف بالضبط.

* يقول جواز سفرها إنها من مواليد....

- أوه... إن الأفارقة هناك لا يعرفون متى يولدون.

تقدم الضابط البحري ويداه في جيبيه: لا أعرف سببا لقتل نفسها، فقد كنا نعاملها معاملة حسنة، وكانت تشاركنا نفس الطعام، ونفس الحجرات، تماما مثل أولادي.

* وأين زوجك؟

- ذهب إلى باريس أول أمس.

قال المفتش وهو يتطلع إلى الحلي الصغيرة: ولماذا تعتقدون أنها حالة انتحار؟

أجاب الضابط المتقاعد: لماذا؟! وكيف لأحد أن يحاول قتل فتاة زنجية؟ إنها لا تخرج أبدا ولا تعرف أحدا سوى أطفال المدام.

شعروا بأن الأمر لا يستدعي ذلك فأصابهم الملل، لأن انتحار خادمة لا يعادل كومة من الفول.

* لابد أنه كان الحنين في العودة إلى الوطن فقد أصبحت تصرفاتها في الأيام الأخيرة غريبة جدا على غير عادتها.

صعد الضابط السلالم بصحبة أحد المفتشين وقاما بفحص الحمام والشباك.

قال المفتش: شيء ما في هذه الحكاية.

كان الآخرون ينتظرون في حجرة المعيشة، وبعد ساعة من الوصول خرج المفتش مع الضابط وقال: سنخبرك بنتيجة التحقيق.

انطلقوا بسياراتهم وفي فيللا السعادة الخضراء ظلت المرأتان وضابط البحرية المتقاعد في حالة من الصمت، ثم راحت مدام بوشيه تتذكر تدريجيا فيللتها الأنيقة في إفريقيا، فتذكرت ديوانا وهي تدفع البوابة الحديدية مشيرة إلى راعي الغنم الألماني أن يتوقف عن الصياح، هناك في إفريقيا حيث بدأ كل شيء، كانت ديوانا تسير ستة كيلومترات على قدميها ثلاث مرات في الأسبوع وكانت تفعل ذلك في الشهر الأخير بسعادة وقلبها يدق وكأنها أسيرة حب ما للمرة الأولى، أصبحت المسافة قصيرة بالنسبة لديوانا بعد أن أعلنت المدام نبأ سفرها إلى فرنسا.

فرنسا!!! هكذا صاحت ديوانا فأصبح كل ما حولها قبيحا حتى تلك الفيللات الرائعة التي كانت تثير إعجابها، وأصبح لزاما عليها أن تستخرج بطاقة شخصية، فجمعت كل مدخراتها الزهيدة لهذا الغرض، وهي تفكر قائلة: إنني في طريقي إلى فرنسا.

كانت المدام واقفة تحمل بين يديها قائمة جرد الأمتعة حين قالت: أترغبين في رؤية والديك؟ وهل تعتقدين أنهما سيفرحان؟

- نعم... مدام، كل العائلة وافقت ولقد أخبرت ماما بنفسي وأيضا بابا بوتوبا.

كان وجهها متلألئا بالسعادة ومثبتا في اتجاه الحوائط الفارغة، ثم فجأة بدا عليها الذبول واضطربت ضربات قلبها وهي تقول لنفسها: ماذا لو غيرت المدام رأيها، سيصيبني المرض وعندئذ سأتوسل إليها كثيرا.

أصبح وجه ديوانا الأسود الأبنوسي كئيبا وهي تخفض عينيها.

قالت المدام: هل ستغيرين رأيك في اللحظة الأخيرة؟

- لا.. مدام... إني ذاهبة.

كانت ديوانا تحلم برؤية فرنسا ذلك البلد الجميل الغني ومشاهدة متع الحياة التي كثيرا ما سمعت عنها ثم تعود إلى بلدها منتصرة ومعها كثير من النقود والهدايا والملابس لكل شخص، كانت ديوانا تحلم بحرية الذهاب إلى حيث تريد دون اضطرار إلى العمل الشاق، وإذا تراجعت المدام عن رأيها فلابد أن المرض سيصيبها، لكن المدام تذكرت الإجازات الثلاث الماضية التي أنجبت خلالهما طفلين حيث راتب الخادمة في فرنسا مرتفع، كما أن الخادمة في فرنسا ترد على المدام واحدة بواحدة، ولا تستطيع البقاء كثيرا وهكذا تعودت المدام على القيام بأعمال المنزل، وكانت تقوم بدور الأم، فلم تستطع أن تقضي إجازة حقيقية، وعندئذ قامت بإغراء زوجها على العودة إلى إفريقيا حيث نشرت إعلانا في كل الصحف ووقع اختيارها على ديوانا القادمة توا من بلدها.عملت ديوانا ثلاث سنوات أنجبت المدام خلالها طفلين آخرين، وعندما فكرت في إجازتها القادمة راحت تغني.

قالت لديوانا: هل قدمت بطاقتك للسيد؟

- نعم، مدام.

* عودي إلى عملك وأخبري الطباخ أن يقدم لكم وجبة جيدة.

- شكرا مدام.

انطلقت ديوانا إلى المطبخ بينما ظلت المدام تعيد ترتيب وجرد الأشياء.

كان الوقت ظهرا حين أعلن نباح الكلب عن قدوم السيد الذي هبط من سيارته البيجو.

قالت المدام بعصبية: ألم يأت رجال العفش بعد؟

* سيأتون في الثانية إلا ربعا... ماذا عن ديوانا؟

ذهب أكبر الأطفال لاستدعائها فجاءت مسرعة وقالت: نعم... مدام.

* إن السيد هو الذي يريدك.

- شيء جميل. ها هي تذكرتك وبطاقتك.

مدت ديوانا يدها لتناول التذكرة والبطاقة.

* احتفظي بالبطاقة فقط وسأعتني أنا بالتذكرة... إن الدوبون يعودون في السفينة نفسها وسوف يهتمون بك... هل أنت سعيدة بالذهاب إلى فرنسا؟.

- نعم سيدي.

* أين حقائبك إذن؟.

- في شارع إسكارفيه ياسيدي.

* بعد أن أتناول غدائي سأذهب بالسيارة لإحضار حقائبك.

- أحضري الأطفال من الخارج ياديوانا فقد حان وقت راحتهم.

* حاضر مدام.

لم تكن ديوانا جائعة، وكان مساعد الطباخ أصغر منها بعامين وكان الطباخ حزينا لأنه سيفقد عمله برحيلهم، وقد شعر باستياء شديد نحو الخادمة التي كانت تستند إلى الشباك الكبير المؤدي للبحر تراقب الطيور وهي تحلق في المدى الفسيح من اللون الأزرق.

كانت ديوانا تقلب بطاقتها من جهة إلى أخرى وتبتسم في هدوء، ولم تكن سعيدة بعدم جمال الصورة لكنها قالت: لا يهم. إنني مسافرة.

قال السيد سامبا: إن الطعام فاخر اليوم، لقد تفوقت على نفسك والمدام مسرورة بك جدا.

وقف مساعد الطباخ مشدودا في انتباه وراح سامبا الطباخ يسوي من قبعته البيضاء ويقول محاولا أن يبتسم: أشكرك جدا سيدى وأنا أيضا مسرور جدا مادام السيد والمدام سعيدين.أنت سيد لطيف جدا لكن عائلتي كبيرة وغير سعيدة وعندما ترحل ياسيدي لن أجد عملا آخر.

- سنعود أيها الرجل الطيب وأنت قادر بموهبتك أن تجد عملا آخر في وقت قصير.

ذهب السيد والسيدة فسارع سامبا بصفع ديوانا التي بادلته صفعة أخرى في غضب، فقال سامبا: ستسافرون اليوم ولن نتشاجر مرة أخرى.

قالت ديوانا: لكن ذلك مؤلم.

كان سامبا يشك بوجود علاقة سرية بين الخادمة وسيدها فقال: والسيد... ألا يؤلمك أيضا؟... إنهم ينادون عليك وأنا أسمع صوت محرك السيارة.

غادرت ديوانا دون وداع.

انطلقت السيارة في الطريق السريع فأثارت نظرات ديوانا إعجاب المارة ولم تجرؤ على التلويح بيديها أو تصيح قائلة: إنني فى طريقي إلى فرنسا!!! نعم... فرنسا.

توقفت السيارة أمام المنزل في شارع إسكارفيه وأمام المقهى الخليع المجاور لمنزلها المتواضع كان بعض الزبائن جالسين فوق الرصيف يتحدثون.

قال "تايف كوريا": هل سترحلين اليوم أيتها الصغيرة؟.

كانت ملابسه بالية وقد حاول أن يتماسك وهو يزحزح قدميه ويمسك بالزجاجة من عنقها، ولم تجد ديوانا ما تقوله لذلك المخمور الذي عاد إلى وطنه بعد عشرين عاما أمضاها في أوربا، كان تايف كوريا عندما رحل من بلده شابا متألقا وطموحا، لكنه عاد منهزما وخربا لا يملك شيئا سوى حبه الشديد للشراب.

عندما سألته ديوانا النصيحة أجابها بعدم جدوى سفرها وتنبأ لها بسوء الحظ وعدم التوفيق، تقدم بضع خطوات ناحية السيد وهو ممسك بالزجاجة بين يديه: هل حقا سترحل ديوانا معك؟

لم يجب السيد وأشعل سيجارة كان ينفث دخانها من باب السيارة، ويحدق في تايف كوريا من رأسه إلى أصابع قدميه، يا له من سكير متشرد بملابس متشحمة ورائحة نبيذ كريهة، انحنى كوريا ووضحع يديه فوق باب السيارة، ثم قال بفخر: لقد كنت هناك وعشت عشرين عاما في فرنسا، نعم رغم ما تراني عليه فأنا أعرف فرنسا أكثر مما تعرفها أنت، لقد عشت في تولون أثناء الحرب وأنا لا أريدها أن تذهب معك.

أجاب السيد بجفاف: لم يجبرها أحد على الذهاب وإنما هى التي تريد.

* بالتأكيد فكل شاب إفريقي يحلم بالذهاب إلى فرنسا لكنهم يضيقون بالحياة هناك لأنهم يعملون كخدم، أنتم تقولون إن الضوء هو الذي يجذب الفراشة، لكننا هنا في بلدي كازامانس نقول إن الظلام هو الذي يغري الفراشة.

عادت ديوانا وحولها عدد من النساء كن يغنين وكل واحدة منهن تتوسل في طلب تذكار صغير.

قالت إحداهن: تذكري فستاني.

- وأحذية الأطفال ولقد أعطيتك المقاسات وتذكري ماكينة الخياطة وأيضا الملابس الداخلية.

- اكتبي لي وأخبريني عن تكاليف تصفيف الشعر وسعر السترة الحمراء ذات الأزرار الكبيرة مقاس 44.

- لا تنسي إرسال بعض النقود إلى أمك في بوتوبا.

هكذا انهالت عليها الطلبات وكان وجهها مشعا.

تناول كوريا الحقيبة ووضعها في السيارة بهدوء ثم قال: دعنها تذهب يا بنات فهل تعتقدن أن النقود تنمو فوق الأشجار في فرنسا؟ على أي حال سوف تخبركم بالكثير بعد عودتها، وداعا يا ابنة العم الصغيرة، اهتمي بنفسك واكتبي لابن عمك في تولون فور وصولك كي يساعدك، تعالى وقبليني.

شعر السيد بالملل فأدار محرك السيارة، وفي الميناء كان أيضا الأقرباء والأصدقاء الذين يحومون حولها حتى ركبت ديوانا السفينة تحت رعاية السيد.

- كانت حصيرة من الماء تحيط السفينة من كل اتجاه وكان السيد في انتظارها بعد مضي أسبوع في عرض البحر وبعد انتهاء الإجراءات مضوا في طريقهم مسرعين.

أصابت ديوانا الدهشة وهي تحدق في كل شيء، وأبصرت كل شىء جميلا، حتى غدت إفريقيا في نظرها قطعة قذرة بالنسبة لما ترى، المدن، الأتوبيسات، القطارات، عربات النقل.

* هل كانت الرحلة طيبة؟

- نعم سيدي (هكذا كانت ستجيب إذا سألها السيد).

وصلا إلى أنتيب بعد ساعتين داخل السيارة ومضت الأيام والأسابيع والشهر الأول والثاني فلم تعد ديوانا هي تلك الفتاة الصغيرة المرحة ذات الابتسامة العذبة المتدفقة بالحياة وبدأت عيناها تتقعران وأصبحت نظراتها أقل نشاطا ويقظة حتى أنها لم تعد تلحظ التفاصيل أو تهتم بها، أصبح لزاما عليها أن تقوم بأعمال أكثر مما كانت تقوم به في إفريقيا، فلم تعرف فرنسا الجميلة ولم تر شيئا منها سوى بعض المشاهدات السريعة كالحدائق الفرنسية وأسوار الفيللات الأخرى وقمم الأسطح التي يمكن رؤيتها من فوق الأشجار الخضراء.

كانت المدام عند خروجها مع السيد تقول: اهتمي جيدا بالأطفال وحاولي إسعادهم.

وكان الأطفال الأربعة يلعبون معها لعبة المافيا ويتفننون في اضطهادها، وذات مرة صفعها الولد الكبير بعد أن سمع كثيرا من الجمل والعبارات خلال محادثات ماما وبابا أو الجيران العائدين من إفريقيا عن الضرر العنصري، ولقد بالغ الولد في ملاحظاته إلى أقرانه حتى أصبحوا يغنون قائلين: بنت سوداء... بنت سوداء... سوداء كمنتصف الليل.

تلاشت أحلام ديوانا القديمة وهدها العمل الشاق الكثير فأصبحت تنام في الليل مثل قرمة الخشب لا تكاد تحس شيئا.

ملأ الحقد قلبها وأصابها الملل. فأين هي فرنسا وأين تلك المدن الجميلة التي شاهدتها على شاشة السينما في داكار وذلك الطعام النادر والزحام المثير؟ لم تعد فرنسا بالنسبة لها سوى السيد والمدام وأختها وأصبحت المدينة بأسرها ليست سوى ما يحيط بالفيللا، وقد شعرت بالرعب من لون بشرتها الأسود الذي جعلها تتقهقر بخجل داخل نفسها، كما لم تجد ديوانا فن تتبادل معه الأفكار والحكايات فأصبحت وحيدة تثرثر مع نفسها.

قالت لها المدام ذات يوم: سنذهب غدا إلى كان فأبي وأمي يريدان تذوق الطعام الإفريقي، سوف تصنعين لنا ياديوانا ذلك الطعام الإفريقي الجميل.

- نعم... مدام.

* أرسلت في طلب بعض الأرز ودجاجتين، يجب ألا تكثري من التوابل.

- نعم... مدام.

"نعم مدام "، "نعم مدام "، هكذا كانت دائما تجيب دون زيادة أو نقصان فلقد أصبح قلبها كالحجر، وكانت هذه إحدى المرات الكثيرة جدا التى تنتقل فيها من فيللا إلى أخرى، ومن هذا المنزل إلى ذلك، دون أن تتوقف عن عمل كل شيء، كل شيء.

* هذه المرة و منزل أبي وأمي يجب أن تتفوقي على نفسك.

- نعم... مدام.

عادت ديوانا للمطبخ وهي تفكر في تظاهر المدام بالطيبة والرقة فسئمت كل شيء، كل شيء، وتذكرت نفسها في داكار حين كانت تجمع مخلفات السيد والمدام وتذهب بها إلى منزلها في شارع إسكارفيه وحين كانت

تتباهى بعملها مع البيض، أما الآن فهي وحيدة تماما، وحيدة وقانطة وتشعر بالرغبة في القيء من طعامهم، ولم تعد تربطها بهم أية علاقة سوى تلك التي تخص طبيعة العمل.

* ديوانا... هل ستقومين بالغسيل اليوم؟

- نعم... مدام.

* لاحظي أنك في المرة السابقة لم تقومي بتنظيف قمصاني الداخلية جيدا كما أنك تسببت في تلف ياقات قمصان السيد، لأن المكواة كانت ساخنة جدا.

- نعم.. مدام.

- أوه... نسيت أن أخبرك أن بعض الأزرار ناقصة من قمصان السيد وبنطلوناته القصيرة.

كانت ديوانا تفعل كل شيء حتى تقوقعت- فجأة- على نفسها واختارت نوعا من الحبس الانفرادي، وبعد لحظات طويلة من التأمل الفريد عرفت أنها ليست سوى كائن مفيد للآخرين.

كانت تسمع السيد أو المدام في الحفلات وهما يبديان ملاحظاتهما حول سيكولوجية تلك الشعوب، وأبناء البلد منهم، وكانا يتخذان من ديوانا مثالا وكان بعض الضيوف يقول: إنها بنت سوداء ذات جراب مثل بعض الحيوانات.

- بدأ الشهر الرابع وكان كل شيء يشير إلى الأسوأ وبدأت ديوانا تتساءل عن فرنسا الجميلة التي لم تعرفها حتى الآن وتقول لنفسها: إننى أقوم بطهي الطعام وأعمال التمريض والغسيل والكي وترتيب الججرات في الشهر فقط...إنني أخدم ستة أفراد ، فما هذا الذي أفعله هنا؟.

غرقت ديوانا في ذكرياتها وراحت تقارن بين شجيرات بلدها وتلك الشجيرات الميتة، والفرق الكبير بين ما تراه هنا وبين الغابة في وطنها كازامانس، ففقدت كل صلة بالآخرين وأطبقت شفتيها أسفا على اليوم الذي جاءت فيه، ثم سبحت في شريط من الماضي، وانهالت فوق رأسها آلاف من التفاصيل الأخرى.

- كان السيد جالسا ذات مساء يشاهد التلفزيون فطافت بشفتيها ابتسامة خفيفة وقررت التمتع بالمشاهدة لكنها أبصرت المدام بجوار السيد فغادرت الحجرة بسرعة وهي تردد: باع... باع... اشترى... اشترى، لقد قاموا بشرائي مقابل ثلاثة آلاف فرنك، لقد غرروا بي وقيدوني بهم وهأنذا كالعبيد.

فتحت ديوانا حقيبتها وألقت نظرة إلى الأشياء داخلها، ثم بكت دون أن يهتم أحد بها ولم تشأ أن توضح شيئا عن مشاعرها للآخرين.

كانت أخت المدام تنادي عليها قائلة: دونا.

فكانت ديوانا تزداد غضبا لأنها أكثر كسلا من المدام.

* تعالي وابعدي هذا من هنا، لديك الكثير من العمل يادونا، لماذا لم تفعلي هذا يادونا؟، عليك من الآن فصاعدا أن تجرفي الحديقة.

كانت ديوانا تجيب بنظرة غاضبة متعمدة من عينيها.

سألها السيد ذات يوم حين قدمت المدام شكوى إليه: ماذا حدث لك ياديوانا؟ هل أنت مريضة؟ أم أنك تعانين شيئا ما؟ لكن ديوانا لم تعد تفتح فمها.

* هل ترغبين في الذهاب إلى تولون؟ إن وقتي لم يكن يسمح بذلك، لكنني غدا سأصحبك إلى هناك.

بعد ثلاثة أيام حين عادت ديوانا من جولة السوق الصباحية اتجهت للحمام وكلمات مدام بوشيه تخترق أذنيها: ديوانا... ديوانا... أنت قذرة رغم كل شيء، يجب أن تنظفي الحمام بعد الانتهاء منه.

- لست أنا.. مدام، إنهم الأطفال.

* إذن الأطفال يتمتعون بالنظافة لكنك أنت التي سئمت منهم، وأنا لا أتحمل أن تكذبي مثل أولاد بلدك، أنا لا أحب الكذابين وأنت كذابة!!

ظلت ديوانا صامتة لكن شفتيها كانتا ترتعشان، ثم صعدت السلالم إلى الحمام وخلعت ملابسها حيث وجدوها ميتة.

أعلن المحققون: حالة انتحار!!

ثم حفظت القضية!

في اليوم التالي وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة كان العنوان صغيرا ومن العسير ملاحظته: (فتاة إفريقية يغمرها شوق العودة إلى وطنها تقطع رقبتها في مدينة أنتيب).

 

سمير عبدربه

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات