طه حسين( 1889 - 1973 ) انتظار المعجزة الفردية جابر عصفور

طه حسين( 1889 - 1973 ) انتظار المعجزة الفردية

في ذروة احتدام القتال أثناء حرب أكتوبر توقف قلب طه حسين، الرائد والمعلم. وقد رثاه وقتها رفيقه الكاتب الكبير توفيق الحكيم قائلا: "لقد فارقت جسده الحياة بعد أن فارق اليأس روح مصر.. ".

عديدة ذكريات أكتوبر، تحمل إلى النفس ألوانا من المشاعر المتباينة، بعضها عام وبعضها خاص، لكن ذكرى واحدة منها لها موقعها المتميز كل التميز في النفس، ذلك لأنها ذكرى يمتزج فيها الشعور العام بالخاص، وتلتقي خسارة الوطن بالأمة، أحزان الفرد بالمجموع، مطامح الطليعة المثقفة بهموم أبناء الوطن كلهم، تلك هي ذكرى طه حسين الذي فارقنا في مثل هذا الشهر منذ عشرين عاما على وجه التحديد. أذكر وفاته مع كل أكتوبر، قرب نهاية الشهر، في الثامن والعشرين منه على وجه التحديد، بعد اثنين وعشرين يوما من ذكرى السادس من أكتوبر في العام نفسه، فقد توفي طه حسين أثناء حرب أكتوبر، وفي غمار ما أعقبها من نتائج مبشرة. ولذلك تمتزج ذكراه بذكرى أكتوبر الامتزاج الذي يصل العام بالخاص والفردي بالجمعي.

ولكن لذكرى العميد مكانة خاصة في نفسي، وفي القسم الذي أنتمي إليه، والكلية التي أعمل بها، والجامعة التي كان علما من أعلامها. ولذلك أسترجع هذه الذكرى بكل ما صحبها وارتبط بها، في كل أكتوبر، وأتأملها بكل ما تحمله من دلالة. أذكر الحزن الذي انتشر في كلية الآداب- جامعة القاهرة. الوعي الفاجع الذي غمرنا في قسم اللغة العربية- قسم طه حسين.

رمز للمثقفين والعامة

الجنازة التي سرنا فيها من حرم جامعة القاهرة، معقل طه حسين، ورمزه، وحلمه الذي ظل يدافع عنه دفاعه عن مستقبل الثقافة في الأمة العربية، الأصدقاء من أبناء جيله، تلامذته من أساتذتنا، وتلامذتهم الذين اختير من بينهم من يحمل أوسمة طه حسين في صدر الجنازة. أذكر هؤلاء جميعا فهم أساتذتي وأصدقائي وزملائي، عبدالعزيز الأهواني الذي كان يسير في جلاله المعتاد، عبدالحميد يونس الذي استهل دراسة الأدب الشعبي، لويس عوض الوجه غير التراثي من تلامذة العميد، عبدالمحسن بدر أقربهم إلى نفسي، محمد أنيس الذي ثعلمنا منه معنى التاريخ الاجتماعي المعاصر، صلاح عبدالصبور. يوسف إدريس، صلاح جاهين، عبدالرحمن الشرقاوي. يوسف السباعي، أمل دنقل، وغيرهم من الكثيرين الذين فقدناهم والكثيرين الذين ندعو لهم بالعافية وطول العمر. ولم تكن الجنازة مقصورة على المصريين وحدهم، فطه حسين لم يكن رمزا مصريا بل قوميا، فجاءت جنازته قومية بكل معنى الكلمة. ومازلت أذكر حفلة التأبين التي أقامتها جامعة الدول العربية في القاهرة، حيث استمعنا إلى الأصوات العربية التي أذكر منها بوجه خاص قصيدة نزار قباني في رثاء العميد وكلمة عبدالعزيز المقالح عن اليمن.

كان ذلك منذ عشرين عاما على وجه التحديد. لم أشهد جنازة خرجت من جامعة القاهرة قبل ذلك أو بعده. ولم أشهد جنازة ضمت كل هذا العدد من مثقفي الأمة العربية ومبدعيها. ولم أشهد جنازة بدأت بالمثقفين الطالعين من الجامعة وانتهت إلى طوفان بشري من بسطاء الناس الذين كانوا خارج أسوار الجامعة.

وقتها سألت نفسي: ما الذي يجعل من طه حسين رمزا لهؤلاء جميعا؟ ولماذا تحولت جنازته إلى نهر من البشر يضم المثقفين وغير المثقفين، المتعلمين وغير المتعلمين، المصريين وغير المصريين، ممثلي الحكومة وممثلي المعارضة، الأفندية والشيوخ، العلماء والأدباء، المدنيين والعسكر. هذا السؤال لم يفارقني لسنوات طويلة بعد ذلك، ولايزال يلح على ذهني إلى وقتنا هذا. أذكر أنني كتبت مقالا في جريدة الحياة (تحديدا في 14/ 12/ 1989) بعنوان لماذا طه حسين؟ حاولت فيه رصد الأسباب التي جعلت من طه حسين- وهو أحد رموز التنوير- يتحول إلى الرمز الكلي الذي يطغى على بقية الرموز ويحجب عنها الضوء، وكان ذلك (عام 1989) بمناسبة الاحتفاء بمرور مائة عام على وفاة كوكبة من أعلام التنوير، أقران طه حسين الذين ولدوا معه في العام نفسه، من أمثال عباس محمود العقاد وإبرهيم عبدالقادر المازني اللذين ولدا عام 1889 م. وكانت الإجابة عن السؤال مرتبطة- في جانب منها- بالدور الذي قام به طه حسين في الثقافة العربية، بوصفه رمزا لصراع الجامعة الدائم مع سطوة التقاليد الاجتماعية والفكرية المتخلفة من ناحية، وسطوة الحكم الاستبدادي من ناحية ثانية. وكانت الإجابة- في جانبها الثاني- مرتبطة بشمول المشروع الثقافي الذي تبناه طه حسين ودعا إليه، ومحاولته الوصول بهذا المشروع إلى مستويات من التطبيق ساعده على ادائها تعدد أدواره الوظيفية في المجتمع، وارتبطت الإجابة، في جانبها الأخير، بالمعجزة الفردية لطه حسين، أعني معجزة الإنجاز البشري المتفرد للكائن الذي تجاوز واقعه المتخلف على المستوى العام، في الوقت الذي تجاوز شرطه الإنساني المعوق على المستوى الخاص. ومن ذا الذي كان يمكن أن يصدق أن ذلك الفتى النحيل الفقير فاقد البصر الذي وصفته "الأيام " بأنه كان يدب الخطى في قرية نائية غارقة في الجهل والفقر، يغدو أستاذا جامعيا وعميدا ومدير جامعة ووزيرا للتعليم ورجل سياسة وصحافيا وصاحب جريدة ومجلة وأديبا وناقدا للأدب ومؤرخا ومحققا ومترجما وفيلسوف تربية ومتفلسفا في الحضارات، ويتحقق على يديه من الخيرللجميع ما حلم به الجميع؟!

حلم التقدم

ولكن حين استرجع مشهد جنازة طه حسمين مرة أخرى، بعد كل هذه السنوات، وبعد كل ما مر على هذه الأمة من أحداث، أجد السؤال الأساسي نفسه يكتسب أبعادا جديدة، ويمكن الإجابة عنه بأكثر من طريقة. أذكر أن محمد أنيس قال لعبدالعزيز الأهواني، ونحن نسير في الجنازة، هل كل هؤلاء الذين يسيرون حولنا ينتمون إلى طه حسين مثلنا، ويمثل لهم ما يمثله لنا؟ وأجاب عبدالعزيز الأهواني بقوله إن طه حسين يمثل لكل فرد من الناس معنى رمزيا مختلفا، ولكن كل المعاني التي يمثلها تقوم على قاسم دلالي مشترك يربط بين الجميع رغم كل تنافرهم. هذا القاسم المشترك هو حلم التقدم الذي يعني الانتقال من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الجهل إلى العلم، ومن الظلام إلى الاستنارة ومن النقل إلى العقل ومن التقليد إلى الإبداع، ومن الظلم إلى العدل، ومن المحلية إلى القومية، ومن القومية إلى الإنسانية.

كنت أثناء استماعي إلى كلمات الأهواني أتطلع حولي فأجد شوقي ضيف إلى جانب سهير القلماوي، يوسف إدريس إلى جانب يوسف السباعي، صلاح عبدالصبور إلى جانب صلاح جاهين، مدير الجامعة إلى جانب المعيد، رئيس قسم اللغة العربية إلى جانب ساعي القسم، أساتذة الجامعة إلى جانب رجال الدولة، رجال الدولة إلى جانب المواطنين الذين انضموا إلى الجنازة، وهي تعبر جسر الجامعة الذي يصل الجامعة بحي المنيل. وكانت كلمات الأهواني تتحول إلى أصداء متحولة، تتحول معها صورة طه حسمين نفسه. مرة يغدو أشبه بالأب الذي ينجب أبناء مختلفين في الاتجاهات والنزعات، ولكنهم يبدأون منه في اختلافهم ويعودون إليه، دون أن ينكروه أو ينكرهم، فقد اتفق وإياهم على حق الاختلاف، واتفقوا وإياه على التسامح في الحوار. ومرة ثانية يغدو أشبه بالنيل الذي كانت تعبر الجنازة فوق أحد جسوره، ينهل منه الجميع دون أن يردهم، وينتسب إليه الجميع لأنه ساعدهم على الوجود. ومرة أخيرة يغدو أشبه بالعمل الأدبي المعجز، دائما حمال أوجه، ودائما يقبل التفسير المتجدد والمتعدد.

انتصار دائم للعقل

وأحسب أن هذه التشبيهات الثلاثة ينطوي على عنصر دلالي واحد يرتبط بتعدد أوجه طه حسين عند المعجبين به. لقد رأت فيه الطليعة الجامعية- ولاتزال- رمزا لإمكان تحقيق استقلال الجامعة، وتأكيد انتصارها على جمود التقاليد الاجتماعية والفكرية والسياسية، ومجاوزة التأصيل النظري للمشروع الحضاري في الجامعة إلى التطبيق العملي خارج أسوارها. ويرى فيه دعاة الاستنارة من المشايخ والأفندية رمزا لانتصار العقل على النقل، والاجتهاد على التقليد، والإبداع على الاتباع. ويتطلع إليه دعاة الإصلاح بوصفه نموذجا يجمع بين الأصالة والمعاصرة ، بين القديم والجديد، بين طرائق القدماء في علوم الرواية ومناهج المحدثين في علوم الدراية. وينظر إليه الراديكاليون على أنه مثال التمرد الجذري الذي لا يقبل المهادنة، والرفض الحاسم الذي لا يعرف التردد، والعلمانية التي لا يخيفها إرهاب المتزمتين. وتعرفه المرأة بوصفه نصيرا لها، منحها مكانتها التي تستحقها في الجامعة، ورعاها أستاذا، وناقدا، ووزيرا للمعارف ومشرفا على الثقافة والفنون. ويتذكره الأزهريون المتمردون من حيث هو طليعة التمرد على تقليدية أساتذتهم، وبداية الثورة الحديثة على أساليبهم الجامدة في التعليم. ويعده رجال الصحافة قائدا من أشجع قادتهم في مواجهة الاستبداد والدفاع عن حرية الرأي. ويسترجع المبدعون صولته في التاثير النقدي، والدفاع عن الجديد والحث عليه، ومواجهة القديم والتنفير منه. وإذا كانت الصفوة ترى فيه مثالا لرجل النخبة، الباريسي الشمائل، المتأنق الملبس، المترفع السلوك، المرهف التذوق، فقد وجدت فيه العامة والحرافيش ابنها البار الذي لم ينسها قط، فظلت على خاطره، وظل مخلصا في انتمائه إليها، إلى أن تمكن من أن يجعل التعليم- كالماء والهواء- حقا للجميع.

كانت كلمات أستاذي عبدالعزيز الأهواني تثير من الخواطر، في ذهني، ما يرتبط بالتشبيهات السابقة. ألقى الرجل كلماته في تؤدة وتأمل، كأنه كان يفكر معنا بصوت مسموع. وتدخل أستاذي الشاب، عبدالمحسن بدر، في الحوار، كلماته حادة كالعادة، واعتراضاته اجتماعية لا تتغير قال إن طه حسين ينتمي إلى التقدم حقا، ولكن بمعناه الاجتماعي، فهو ابن "شجرة البؤس " التي تظلل "المعذبين في الأرض "، والذين ينتسبون إليه فعلا هم الذين يؤمنون بالمضمون الاجتماعي لكتاباته على مستوى الإبداع، والدلالة الاجتماعية لمنهجه على مستوى الدرس الأدبي. وظل عبدالمحسن بدر يكمل فكرته. يستجيب إليه الأهواني الذي كان يحبه بأسئلة حانية، هادئة، ويوافقه محمد أنيس الذي كان لا يعرف منهجا للتاريخ بعيدا عن التحليل الاجتماعي للوقائع والأحداث وصراعات القوى السياسية.

وكانت المناقشة تمضي مع الجنازة في سيرها. والخواطر التي تثيرها تمضي هي الأخرى في ذهني. وكان مكاني في الجنازة مكان الحفيد الذي يودع جده، ويسير إلى جانب أساتذته الذين هم تلامذة هذا الجد، الذي أحب أحفاده حبا يزيد على حب الأبناء. وكانت كلمات عبدالعزيز الأهواني وأسئلة محمد أنيس واعتراضات عبدالمحسن بدر تحفر مجرى لتيار متدفق من الخواطر التي بدأت يومها ولم تنقطع إلى اليوم.

حضور المعجزة الفردية

أذكر، الآن، أن كلمات أستاذي عبدالعزيز الأهواني، رحمة الله عليه، كانت تغرس، في وجداني، معنى حضور المعجزة الفردية لطه حسين. أعني معجزة هذا الغلام الفقير الذى فقد بصره نتيجة الجهل والفقر، والذي استطاع ان ينتصر بإرادته على عاهته، فيستبدل بالبصر البصيرة، وينتصر على جهل مجتمعه، فيستبدل بالإظلام الاستنارة، ويحقق حلم المعذبين في الأرض ليغدو التعليم كالماء والهواء حقا للجميع لا لطبقة دون أخرى. وأذكر بالمثل أن كلمات أستاذي عبدالمحسن بدر رحمة الله عليه هو الآخر، كانت تؤكد، في عقلي، الدلالة الاجتماعية لانجاز طه حسين الذي اتخذ جانب المعذبين في الأرض لأنه كان واحدا منهم، فأصبح رمزهم الذي تجسد من بين أغصان شجرة البؤس، ليفتح أبواب الوعد الحق ومستقبل الثقافة التي تقوم على قيم العقل والعدل والحرية والجمال.

ولكن يبقى ما يصل الوجدان والعقل ويتولد عن تفاعلهما معا، وهو البعد الإنساني في إنجاز طه حسين الذي أدركته بعد ذلك. لقد علمنا العميد أن لا تناقض بين الانتماء الوطني والانتماء القومي في إطار ثقافة عربية واعدة، تستبدل بعناصرها النقلية عناصرها العقلية، في حركتها صوب المستقبل. وعلمنا العميد، كذلك، أن الوجه القومي للثقافة لا يتنافر مع وجهها الإنساني، في قيمته الواحدة المتحدة التى لا تقبل التجزؤ. ولذلك لم يؤمن طه حسين بأن هناك عقلا شرقيا أو عقلا غربيا، بل آمن بأن الإنسانية لها عقل واحد، عقل تختلف عليه الظروف المتباينة المتضادة فتؤثر فيه آثارا متباينة متضادة. ولكن جوهره واحد ليس فيه تفاوت ولا اختلاف.

من منظور هذا البعد الأخير، قرأ طه حسين تراثه العربي ، منذ امرىء القيس في العصر الجاهلي إلى يوسف إدريس في العصر الحديث، بالعقل نفسه الذي قرأ به التراث الأوربي، منذ هوميروس الذي كان يشك في وجوده اليوناني القديم إلى كافكا الذي كان يراه صورة أخرى من أبي العلاء. وكان يقول إنه ليس ضروريا أن تكون رومانيا أو يونانيا أو فرنسيا أو إنجليزيا أو ألمانيا أو عربيا أو فارسيا أو هنديا لتجد اللذة الأدبية عند هوميروس أو جوته أو أبي العلاء أو الخيام أو طاغور، وإنما يكفي أن يكون لك حظ من ثقافة وفهم وذوق لتقرأ وتلذ وتستمتع بهؤلاء جميعا، ففي إبداعهم جمال فني، يتحدث إلى العقل الإنساني وإلى القلب الإنساني أحاديث تلائم ما اكتنفهما من الأطوار المختلفة والظروف المتباينة.

هذا البعد الإنساني يضيف إلى أبعاد صورة طه حسين في وعينا المعاصر بعد عشرين عاما من وفاته، ويصله بالثقافة العالمية دون أن يفقده خصوصيته، ويربطنا بالثقافة الإنسانية دون أن نتخلى عن هويتنا، ويضعنا ضمن العالم الكوني الذي نعيش فيه موضع الذي يمكن أن يسهم في الإنتاج وليس الذي يكتفي بالاستهلاك. وإذا كانت وحدة الإنسانية تقوم على التعدد فإنها تقوم على ما يؤكد الملامح القومية المائزة على المستوى الخاص، في الوقت الذي تجسد فيه القيم الإنسانية المشتركة على المستوى العام. هذا ما كان يشعر به طه حسين، وما كانت تؤديه دلالة كلماته، حين يتكلم عن الآداب والفنون، وعن التاريخ والاجتماع، وعن الفلسفة والعلوم، وعن مستقبل الثقافة المحلية أو القومية أو العالمية. لقد كان العميد يكتب ليجعلنا نتطلع إلى مستقبل مغاير لإنسانية جديدة، إنسانية تحلم بعالم يتخلص من مثالب الماضي، ويؤسس لكل ما كان يدعو إليه عندما قال إن الثقافة ليست وطنية خالصة ولا إنسانية خالصة ولكنها وطنية إنسانية معا، وإن غايتها النهائية هي الارتقاء بالبشر- كل البشر- من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية الذي يعني- أول ما يعني- المساواة الكاملة بين أبناء المعمورة الإنسانية.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




طه حسين





توفيق الحكيم





عبدالرحمن الشرقاوي





صلاح جاهين