الشيخ محمد عبده إمام المجددين المسلمين في العصر الحديث

الشيخ محمد عبده إمام المجددين المسلمين في العصر الحديث
        

          لا تعرف الأجيال الجديدة من المسلمين إلا القليل عن الإمام محمد عبده الذي حاول تهديم النظام التعليمي القديم للأزهر واستبداله بنظام جديد يراعي التطورات العلمية الحديثة ومناهجها في البحث، وقد شكّل مع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني أئمة التجديد في الفكر الإسلامي الحديث.

          ولد الشيخ محمد عبده عام 1849م / 1266هـ في محلة نصر، وهي قرية صغيرة من الريف المصري، في أسرة من الطبقة الوسطى الزراعية، تعتز بكثرة رجالها، ومقاومتهم ظلم الحكام واستبدادهم، وتحملهم في سبيل ذلك كثيرًا من التضحيات: هجرة، وسجنًا، وتشريدًا، وموتًا، وضياع ثروة. ويقول مؤرخو حياة الشيخ إن هذه النشأة علمته طعم الحرية والاستقلال في الرأي، والاعتداد بالنفس، ومقارعة الظلم والظالمين، والاعتزاز بالمجد والأصالة وليس بالثروة، وقد لمس فيه الأفغاني هذه الخصائص الأخلاقية فقربه إليه وقال له: «قل لي بالله... أي أبناء الملوك أنت؟» وقال عنه الخديو عباس: «إنه يدخل عليّ كأنه فرعون».

          بدأ تعلم القراءة والكتابة في منزله عندما كان في السابعة من العمر (البعض يقول في سن العاشرة)، ودرس القرآن الكريم على يد معلم خاص، فحفظه خلال سنتين، وفي عام 1862 ذهب إلى الجامع الأحمدي في «طنطا» ليتعلم تجويد القرآن فأتقنه خلال سنتين أيضا، وفي عام 1864م بدأ يتلقى دروسه القرآنية الأولى في الأزهر، فأمضى حوالي سنة لا يفهم شيئًا مما يُلقى عليه لرداءة طريقة التعليم. ويقول في ترجمته الذاتية عن هذه الفترة: «قضيت سنة ونصف السنة لا أفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم، فأدركني اليأس من النجاح، وهربت من الدرس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليّ أخي فأعادني إلى المسجد الأحمدي وأراد إكراهي على طلب العلم، فأبيت وقلت له: قد أيقنت أنه لا نجاح لي في طلب العلم، ولم يبق علي إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بالزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي، وانتهى الجدل بتغلبي عليه.

          فأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع ورجعت إلى «محلة نصر» على نية ألا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة 1282هـ/ 1865 على هذه النية. كانت وسائل التعليم في جامع طنطا هي نفسها المتبعة في جامع الأزهر، فكان الذين يتلقون العلم بهذه الوسائل هم كما وصفهم عبده «جهلة يبتلى بهم الناس وتصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، يضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد، ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم ويحولون بينه وبين نفع الناس بعلمه».

          لم يدم نفور الشيخ من طلب العلم طويلاً، بعد أن أجبره والده على الرجوع إلى جامع طنطا في العام نفسه، إلا أنه هرب في الطريق إلى قرية له فيها أقارب، وفي هذه القرية التقى بالشيخ درويش خضر، خال والده، الذي كان من المتصوفين، فألقى على محمد عبده بعضًا من حكم التصوف، وقاده إلى شيء من سلوك الصوفية، فعادت إليه الرغبة في طلب العلم وعاد إلى الجامع الأحمدي من جديد سنة 1865. ويقول الإمام محمد عبده عن أثر لقائه بالشيخ درويش: «رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير العالم الذي كنت أعهده، واتسع لي ما كان ضيقًا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرًا، وعظم عندي من أمر العرفان والتصوف، وتفرقت عني هموم النفس إلا همًا واحدًا هو أن أكون كامل المعرفة، وكامل أدب النفس».

          وكي يحقق هذا الهدف عاد الإمام عبده أولاً للدراسة في الجامع الأحمدي ثم بدأ يفكر في الذهاب إلى القاهرة للالتحاق بالجامع الأزهر بناء على «إلهام ساقه الله إليّ ليحملني على طلب العلم في مصر (القاهرة) دون طنطا».

انتسابه إلى الأزهر

          في فبراير سنة 1866م وصل الشيخ محمد عبده إلى الأزهر في عهد الخديو إسماعيل، وكان التعليم النظامي أو الرسمي قد انتشر يومئذ في مصر، ولعبت البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي إلى أوربا دورًا كبيرًا في إرساء قواعد هذا التعليم الذي سمح لعدد كبير من أذكياء طلبة الأزهر بالتحول من نظام التعليم القديم الموروث إلى مناهج جديدة تدرّس العلوم الحديثة على الطريقة الأوربية من أجل التعيين في الوظائف الحكومية، فأخذ أسلوب جديد في التعبير يبسط نفوذه في عالم الثقافة والمعارف العلمية بعد تعريب كتب عديدة معظمها  من اللغة الفرنسية، وأدى ذلك إلى اندلاع نزاع عميق بين «التجديديين والتقليديين» الذين كان الأزهر عرينهم الحصين، والذي لم يكن هدف العلم عندهم «البحث للتحقيق والمقارنة والتمحيص، بل النقل الصحيح لما تركه القدماء والالتزام به».

          في هذه الأجواء المتوترة وصل محمد عبده إلى الأزهر، وبدأ يتلقى العلم على يد أساتذة من كلا الفريقين، فأخذ عن التقليديين وعلى رأسهم المشايخ عليش والرفاعي والجيزاوي والطرابلسي والبحراوي، وأخذ عن التجديديين الذين كان معظمهم من المتصوفين كالمشايخ حسن رضوان، وحسن الطويل، ومحمود البسيوني الذين كان لهم أثر كبير في تنمية ميوله الصوفية.

لقاؤه مع السيد جمال الدين الأفغاني

          في سنة 1871 وصل إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني، وشرع يلقي دروسًا بيتية في الدين والفلسفة والاجتماع، فاتصل به الشيخ محمد عبده وصار من ملازمي مجالسه.

          كان الشيخ محمد عبده يومئذ في ريعان الشباب، وكان السيد جمال الدين الأفغاني في قمة الثورية والحماس لتخليص المسلمين من سلطة الاستعمار الأجنبي، ومن الانحطاط المزمن الذي يفتك بهم، فوجد في الشيخ محمد عبده تلميذًا نبيهًا وصديقًا مخلصًا طيلة السنوات الثماني التي قضاها في مصر (1871 - 1879).

          كانت هذه السنوات بالنسبة للشيخ محمد عبده حدثًا مفصليًا في تطوره الفكري وتبلور شخصيته الإصلاحية، إذ تخلص نهائيًا من خموله الصوفي بمعنى الدروشة، وانتقل إلى التصوف الفلسفي الذي كان عليه الأفغاني. وقد ظهرت أولى النتائج الفكرية للقائه الأفغاني في المقدمة الجريئة لـ «لرسالة الواردات» الفلسفية التي كتبها عبده سنة 1872م بتشجيع من الأفغاني، وهي عبارة عن دراسة في المذاهب الفلسفية والصوفية لم تعهدها الأوساط العلمية المصرية من قبل. وكانت من الآثار الفكرية الأولى التي حفظت من تراث الإمام محمد عبده، إلا أنها لم تنشر إلا بعد وفاته. وفي عام 1875م، أصدر الإمام حاشيته على «شرح الجلال الدواني للعقائد العضدية» التي بدا فيها محيطًا بمذاهب المتكلمين والفلاسفة والمتصوفين إحاطة عميقة، مشبعة بنقد متين ومقارنات تحليلية كانت تعبر عن آراء الإمام بهذه الموضوعات، مما أثار عليه غضب الشيخ محمد عليش، فقيه المالكية الشهير، وكاد أن يحرمه من شهادة العالمية الأزهرية، وقد طبعت هذه الحاشية، قبل وفاة الإمام بقليل. وكان أول ما نشره على الناس من تفكيره الإصلاحي المقالات العديدة التي كتبها في جريدة «الأهرام» في سنتها الأولى (1876)، وكان يومها في السابعة والعشرين من العمر.

          استرعت تلك المقالات بجرأتها انتباه الناس إلى هذا الفتى الأزهري، فوصل صداها إلى أسماع الجامدين من مشايخ الأزهر الذين عقدوا العزم على حرمانه من شهادة العالمية التي تقدم لنيلها عام 1877 لولا موقف إمام الأزهر يومئذ ورئيس اللجنة الفاحصة الشيخ محمد مهدي العباسي الذي صرّح: «لو أعرف درجة فوق العالمية من الدرجة الأولى لمنحتها له (أي للشيخ محمد عبده)، وبعد أن طال النقاش بين أعضاء اللجنة الفاحصة تقرر منحه شهادة العالمية من الدرجة الثانية.

          شعر الإمام محمد عبده بقوة هذا الانتصار الذي حققه على خصومه الجامدين بالرغم من جبروتهم، فوجه بنشاطه الفكري إلى إصلاح نظام التعليم في الأزهر لاعتقاده بأن صلاح الأزهر صلاح لمصر وأهلها وللمسلمين في جميع أقطارهم. فشرع يُدرّس في الأزهر المنطق وعلم الكلام المشوب بالفلسفة، واتخذ من داره مكانا لتدريس الطلبة بعض المؤلفات الفكرية القديمة والحديثة، منها كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه، وكتاب «التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوربية» للمؤرخ الفرنسي Francois Guizot الذي عرّبه نعمة الله خوري وقرظه الأفغاني وعبده في الأهرام.

          لم يعهد الأزهر مثل هذه الموضوعات قبل الأفغاني وعبده، وعندما عين الإمام محمد عبده مدرسًا للتاريخ بمدرسة دار العلوم، قرأ على طلابها مقدمة ابن خلدون، وألف لهم كتابًا ضاعت أصوله، عنوانه «علم الاجتماع والعمران». وعيّن بعدئذ مدرسًا للعلوم العربية في مدرستي الألسن (اللغات) والإدارة «لإنقاذ العلوم العربية من فساد الطريقة الأزهرية».

نفي الأفغاني خارج مصر وعبده إلى قريته

          بعد سنة تقريبًا من تعيينه في هاتين المدرستين نفي أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني من مصر تحت ضغط الإنجليز، وعزل الإمام محمد عبده من مهنة التدريس ونفي إلى قريته «محلة نصر» ووضع تحت الإقامة الجبرية. اتخذت هذه التدابير بحق الأفغاني وعبده في غياب رياض باشا رئيس وزراء مصر حينها الذي كان من المعجبين والمشجعين لأفكارهما الإصلاحية، وعند عودته من الخارج استصدر عفوًا للإمام محمد عبده من الخديو عام 1880 وعينه محررًا في جريدة «الوقائع المصرية» الرسمية ثم رئيسًا لتحريرها ومسئولاً عن الرقابة على المطبوعات، يعاونه في هذه المهمة خيرة تلامذة السيد جمال الدين الأفغاني، وعندما أنشئ «المجلس الأعلى للمعارف العمومية» في مارس عام 1881 عُيّن الإمام عضوًا فيه.

          ابتعد الإمام محمد عبده في هذه الفترة عن الأزهر ومهنة التدريس ليعمل بالصحافة والسياسة، كما افترق عن أستاذه الأفغاني لخلاف معه حول وسائل النهضة بالإسلام والمسلمين، إذ كان الإمام من أصحاب المنهج التدرجي في الإصلاح، بينما كان الأفغاني من أصحاب المنهج الثوري الراديكالي. وركز الإمام عبده اهتماماته على محاولة الإصلاح التعليمي والاجتماعي والسياسي، فدعا إلى التعاون على الخير بين الناس، ونشر فكرة الحرية، ورفع المظالم عن الأهالي، وعاب على الشعب كسله، ونادى بإصلاح التعليم والتربية في المدارس، وحمل على الرشوة وأهلها، وبيّن أن الحق للقانون لا للقوة، وشدد على تطهير الإسلام من البدع والخرافات التي شوهت تعاليمه وجنت عليه. وعندما قامت ثورة عرابي بتأثير من أفكاره اتصل بزعمائها وأصبح أحد رموزها، وبعد فشلها اعتقل محمد عبده مع من اعتقل من رجالاتها في سبتمبر عام 1882 وحكم عليه بالسجن 3 أشهر، وبالنفي 3 سنوات، امتدت إلى مايقارب السنوات الست.

مرحلة النفي خارج مصر ثم باريس

          كانت بيروت المنفى الأول للإمام، إذ وصلها في 24 ديسمبر عام 1882 وأقام فيها نحو عام. وفي أواخر سنة 1883 استدعاه أستاذه الأفغاني للحاق به في باريس ليعملا معًا في إصدار جريدة «العروة الوثقى» لسان حال جمعية العروة الوثقى السرية التي تأسست في معظم بلاد الشرق، وخاصة في مصر والهند والمغرب والسودان، وكان هدفها الرئيسي جمع كلمة المسلمين وتخليصهم من الاستعمار والتخلف. عمل الأفغاني مديرًا سياسيًا للجريدة، بينما تولى عبده رئاسة تحريرها، لكنها لم تصمد سوى ثمانية أشهر أصدرت خلالها ثمانية عشر عددًا، أولها في 13 مارس 1884 وآخرها في 17 أكتوبر 1884. وكان منعها من دخول معظم الأقطار الإسلامية السبب الرئيسي لتوقفها، مما أحدث صدمة عنيفة لمشروع الأفغاني وعبده في إقامة دولة إسلامية موحدة تنهض بالمسلمين وتصد عدوان الغرب عليهم، إلا أن ذلك لم يمنع الإمام محمد عبده من القيام بجولات سرية إلى بعض الأقطار الإسلامية في سبيل الدعوة لجمعية العروة الوثقى، إلى أن ألقى عصا ترحاله في بيروت من جديد.

          مكث الإمام في بيروت حوالي ست سنوات (1882 - 1888) وأسس فيها جمعية سرية «للتقريب بين الأديان» بمشاركة عدد من رجال الدين المتنورين من الأديان السماوية الثلاثة لأن التقريب بين الأديان من أهداف الإسلام كما يقول عبده استنادًا إلى الآية قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ  (سورة آل عمران الآية 64).

          ومارس في بيروت أيضًا العمل الثقافي والتربوي والفكري إلى جانب القليل من العمل السياسي الذي ارتكز على خط «العروة الوثقى» في العداء الصريح والمباشر للإنجليز. كما كتب «لائحة إصلاح التعليم العثماني»، و«لائحة إصلاح القطر السوري»، وشرع في كتابة «لائحة إصلاح التربية في مصر»، وفي تحقيق بعض كتب التراث العربي والإسلامي، فحقق وشرح مقامات بديع الزمان الهمذاني، ونهج البلاغة على أسس علمية منهجية، فكان رائدًا للمحققين العرب في العصر الحديث.

          درّس في المدرسة السلطانية ببيروت سنة 1866 فنقلها من مدرسة شبه ابتدائية إلى مدرسة شبه عالية. ومن الكتب التي شرحها فيها «نهج البلاغة»، و«ديوان الحماسة»، وكتاب الإشارات لابن سينا، وكتاب التهذيب، ومجلة الأحكام العدلية العثمانية، وألقى دروسًا في التوحيد أصدرها في كتاب «رسالة التوحيد» بعد عودته إلى مصر.

          ومن أعماله المهمة في هذه الفترة أيضًا شروعه في تفسير القرآن في المسجد العمري بمنهج عقلي حديث «لم يسبقه إليه أحد في الشرق منذ يقظته»، طبق فيه نهج أستاذه الأفغاني، فكان يعقد ثلاث حلقات أسبوعية، «لشرح القرآن»، فاجتذبت هذه الدروس كثيرًا من علماء السنّة، ومجتهدي الشيعة، وعقّال الدروز، إلى جانب أساقفة النصارى.» واستمرت دروسه التفسيرية حوالي السنتين، ولكن - مع الأسف الشديد - لم يسجل منها شيئًا.

عودته إلى مصر ونشاطه الفكري

          أثمر سعيه للعودة إلى مصر، باستصدار عفو عنه من الخديو توفيق بمساعدة تلميذه سعد زغلول سنة 1889، وأراد الانخراط من جديد في مهنة التدريس المحببة إليه في دار العلوم، لكن هذه الرغبة اصطدمت بعدم موافقة الخديو الذي عيّنه في سلك القضاء، فقبل الإمام هذا التعيين على مضض.

          في هذه الفترة دارت مراسلات قليلة بينه وبين أستاذه الأفغاني الذي كان قد استقر في الآستانة منذ عام 1892، لكن موقف الإمام محمد عبده من السياسة والإنجليز جلب عليه غضب أستاذه، فانقطعت الاتصالات بينهما حتى إن عبده لم يرثِ الأفغاني عند وفاته في 9 مارس سنة 1897، واكتفى بإعلان الحزن عليه. وانصرف اهتمام الإمام محمد عبده في هذه الفترة إلى إصلاح المؤسسات التعليمية والتربوية الثلاث: الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية.

          لكن الموضوع الأهم الذي واجهه عبده في هذه الفترة كان علاقة الإسلام بالعلم والتقدم، وهو الموضوع الذي كان مطروحًا في أوربا على صعيد علاقة الدين المسيحي بالحقائق العلمية الحديثة التي تتعارض كلها مع مفاهيمه عن الكون والحياة. وكانت نظريات لامارك وسبنسر وداروين عن التطور، وانتقادات ديفيد شتراوس وآرنست رينان، وليون تولستوي للمسيحية تؤكد صعوبة التعايش بين هذه الديانة بصيغتها التقليدية واكتشافات العالم الحديث ومفاهيمه الجديدة.

الإسلام دين عقلاني

          وجد الشيخ محمد عبده نفسه أمام وضع مشابه في مصر والعالم الإسلامي إذ إن الدور الذي يلعبه بعض اللاهوتيين المسلمين في تخلف المسلمين ومحاربة الحضارة الحديثة وعلومها باسم الإسلام شبيه تمامًا بالدور الذي لعبه اللاهوتيون المسيحيون في العصور الوسطى ضد الأفكار العلمية الجديدة وضد أي معنى من معاني التقدم خارج نطاق التعاليم المسيحية ومفاهيم الكنيسة. وكي يجنب الإسلام والمسلمين الوقوع في المأزق نفسه الذي وقعت فيه الكنيسة في مواجهة التطور العلمي، حاول الشيخ محمد عبده ربط الإنسان المسلم بالحضارة الحديثة من   دون المساس بمعتقداته الدينية، ثم البرهنة على أن الإسلام دين عقلاني يتماشى مع مبادئ تلك الحضارة التي كان يعتقد جازمًا بأن أصولها مستمدة من عقلانية الإسلام وعلومه.

          وقد دار سجال مهم حول هاتين المقولتين بينه وبين المؤرخ والديبلوماسي الفرنسي جبرييل هانوتو عام 1900، وبينه وبين اللبناني المستمصر فرح أنطون عام 1902.

          فقد نشر هانوتو ثلاث مقالات في جريدة «لو جورنال» الفرنسية بتاريخ 21 و28 مارس و14 مايو عام 1900 قال فيها: «إن الإسلام باعتباره دينًا ساميًا، عاجز عن استيعاب حقائق المدنية الحديثة بسبب احتقاره شأن الإنسان، وبث القنوط والتواكل في نفسه، وخلق هوّة عميقة بين هذا الإنسان والذات الإلهية، بينما استطاعت المسيحية التي قطعت صلتها بالسامية وأصبحت ديانة للآريين أن ترفع من مرتبة الإنسان إلى الذات الإلهية وتزوّده بالإرادة الصلبة وتدعوه إلى الجد والعمل وتلقي به في غمرات التنافس الحيوي..».

          وقال أيضًا: «إن أحد أسباب تخلّف الإسلام والمسلمين هو الدمج بين السلطتين الدينية والزمنية واعتبار الرابطة الدينية أهم وأسمى من الرابطة المدنية، بينما تقدمت أوربا وتحضّرت، ووفرت لمواطنيها العدالة والحرية عندما فصلت بين هاتين السلطتين بعد صراع مع الكنيسة ورجالها استمر ثلاثة قرون..».

          استفزت هذه الآراء والأحكام كثيرًا من المسلمين بعد نشر ترجمتها العربية في بعض الصحف المصرية، وكان الشيخ محمد عبده في طليعة مَن ردّوا عليها بقوله: «إن العلم والمدنية لم ينبعا أساسًا من الشعوب الآرية التي كانت غارقة في الهمجية، بل أخذتهما هذه الشعوب من مخالطة الأمم السامية. وقد حمل المسلمون إلى أوربا علوم الفرس والمصريين القدماء والبيزنطيين واليونانيين وبلاد ما بين النهرين، وكانت هذه العلوم بمنزلة «الشعلة الموقدة» التي سطع ضوؤها من بلاد الأندلس إلى أوربا، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها قرونا عدة، ولو أنهم نجحوا في ذلك لبقيت أوربا تعيش في الظلمة ومجاهل الهمجية».

          ثم تطرق الشيخ محمد عبده إلى قضية موقف الإسلام من العلم، الذي اعتبره هانوتو موقفًا سلبيًا، فقال بأن الأحاديث النبوية في الحثّ على طلب العلم كثيرة، منها الحديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»، فإن صح هذا الحديث أو لم يصح فالقرآن يؤيد معناه، وعمل المسلمين الأولين يحقق صحة محتواه، وهو خطاب تكليفي موجّه إلى الرجل والمرأة على قاعدة المساواة بينهما في طلب ما يلزم من العلم «لصلاح معادهما ومعاشهما، وبما تحسن به المعاملة مع مَن يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في كتاب الله وسنّة رسوله، وعمل الصالحين من بعده، حتى لم يبق باب من أبواب العلم إلا دخل منه قدر الاستطاعة، وما يسمح به الزمن، ولكن المسلم ضلّ فيما بعد عن معنى العلم، فظن أن الغاية منه ما يفرضه الدين من معرفة فرائض الوضوء والصلاة والصوم، وضرب بين النساء والعلم حجابا «لا ندري متى يرفع»، وحشيت أذهانهم بالخرافات والأوهام، وأخطأ الإنسان المسلم أيضًا في التوكل والقدر «فمال إلى الكسل وقعد عن العمل، ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن بذلك أنه يرضي ربه ويوافي رغائب دينه». كما أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين «خير أمة أخرجت للناس» وأن القوة والعزة مقرونتان بدينه أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم.. «فإن إصابته مصيبة أو حلت به رزية تسلى بالقضاء، وانتظر ما يأتي به الغيب من دون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ، أو ينهض إلى العمل لتلافي ما عرض من خلل، مخالفًا في ذلك كتاب الله وسنّة نبيه، وأخطأ المسلم، أيضًا في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر، والانقياد لأوامرهم، فألقى مقاليده إلى الحاكم ووكل إليه التصرّف في شئونه، ثم أدبر عنه حتى ظن أن الحكومة يمكنها القيام بشئونه جميعًا من إدارة وسياسة من دون أن يكون لها عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه، ومن هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها وقبيحها، اللهم إلا ما يمس شخصه منها».

ردود على فرح أنطون

          أما ردوده على فرح أنطون فقد اتخذت منحى آخر تتصل بصميم قضايا المجتمع الإسلامي عامة، والمصري على وجه الخصوص في وقت كانت جهود المصريين منصبّة على تكوين مجتمع عصري بعد أن وضع محمد علي أسس الدولة المصرية الحديثة، وكان التياران العلماني والدين المستنير قد حققا يومئذ بعض النجاح في طرح القضايا الدينية والاجتماعية والسياسية في جو من حرية التعبير النسبية التي وفرها الحكم البريطاني، بحيث تبلور خلافهما بوضوح من عوامل النهضة والتقدم.

          كان فرح أنطون أحد أوائل رموز التيار العلماني، بينما كان الشيخ محمد عبده من أهم رموز التيار الديني المستنير. وقد أثار فرح أنطون في كتابه عن ابن رشد موضوع علاقة الإسلام بالعلم والحضارة الحديثة في وقت كان الإسلام فيه يتعرض للنقد الشديد من قِبل مفكرين أوربيين ولتساؤلات مثقفين عرب ومسلمين. المفكرون الأوربيون قالوا إن تخلف المسلمين كامن في تعاليم دينهم خاصة، لأنها معادية للعلم والتقدم في جوهرها، أما المثقفون العرب والمسلمون، فقد دفعتهم أوضاع بلادهم وشعوبهم في تلك الفترة إلى اليأس والتشاؤم من تطورات المستقبل الذي انعكس على تفكير بعض أئمة الإصلاح أنفسهم. كان المثقفون المسيحيون يرفضون ربط التطور الاجتماعي بأية عقيدة دينية، ويسعون إلى التحرر من مشكلة الانتماء الديني بالتشديد على النظرة العقلانية إلى الإنسان والمجتمع، وعلى التمييز بين القضايا الدينية والقضايا المدنية، كما أن الكثيرين منهم وقفوا ضد تهديد الإمبريالية الأوربية، واعتنق بعضهم مبدأ القومية العربية كرابطة سياسية وأيدولوجية تجمع بين العرب، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، واستخدموا إحياء التراث الثقافي العربي ونشره وسيلة في هذا المجال، لكنهم مع ذلك ظلوا يعتبرون أوربا بفكرها وعلومها موطن الحضارة الحديثة، بينما اعتبرها المسلمون مصدر تهديد سياسي وعسكري وحضاري لدينهم وثقافتهم. من هذا المنطلق، أي من خلال تراث الفكر العربي خاصة، طرح فرح أنطون أفكاره حول العلمانية السياسية، والمجتمع المدني، والاشتراكية، والعقلانية، والتعايش بين الدين والعقل.. ليثبت أن للعلمانية أيضًا مصادرها القوية في هذا التراث، وليبرهن على الأهمية التي يمتلكها، وخاصة الفلسفة الرشدية، بالنسبة إلى تحديد الأيديولوجيا التي يجب أن تسود المجتمع العربي الحديث. وقد نشر هذه الأبحاث بادئ الأمر في مجلة «الجامعة» ثم ضمنها كتابه عن ابن رشد وفلسفته.

          أراد فرح أنطون من البحث في ابن رشد الدخول مباشرة إلى صميم الإشكالية المنوّه عنها، خاصة إلى رمزيها الدينيين في عصره، محمد عبده ورشيد رضا، بعد أن أصبح هذا الموقف ضرورة لابد منها حفاظًا على المشروع النهضوي الذي يتحمل المفكرون المتنورون المسئولية الأولى في انطلاقته ووضع أسسه الفكرية، وترسيخ جذوره. نقرأ ذلك في كلمات المقدمة التي وضعها أنطون لكتابه الذي يهديه إلى القوى الاجتماعية الجديدة المتسلحة بالعقل لبناء مجتمعها الجديد فيقول: «إلى عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية وغيرهما. لا نعلم كيف يستقبل أبناء هذا العصر هذا الكتاب في هذا الزمان، ولكننا نعلم أن «النبت الجديد» في الشرق قد صار كثيرًا، ونريد بـ«النبت الجديد» أولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق، الذين عرفوا مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبًا في مكان مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادًا حقيقيًا ومجاراة تيار التمدن الأوربي الجديد لمزاحمة أهله وإلا جرفهم جميعًا.. ونحن لا ننفك عن النداء بأن هذا الاختلاف في الآراء والمبادئ إنما هو في طبيعة البشر لأنه تابع لعقولهم وتربيتهم وأخلاقهم وعاداتهم ومصالحهم، فهذا الإصلاح لا يبنى إلا عليهم، وأساس هذا الإصلاح احترام حرية الفكر والنشر احترامًا مطلقًا، ولذلك وضعنا هذا الكتاب تحت حماية هؤلاء العقلاء».

          كان «النبت الجديد» الذي يوجه إليه فرح أنطون هذا الكلام هو البنية الاجتماعية الجديدة الصاعدة، ومعقد آمال العلمانيين في إنجاح مشروعهم النهضوي، كما أنه طلائع الطبقة البرجوازية الطامحة بحذر إلى فرض عالمها الجديد، وإزاحة العالم الإقطاعي والديني الذي غدا كابحًا لكل آفاق التقدم، من خلال وسائل متعددة، كالتواطؤ مع القوى الاستعمارية، واستعدائها على ذلك النبت، واستغلال الدين لخدمة مصالحها الخاصة على حساب مصالح القسم الأكبر من الشعب الفقير الجاهل، المغلوب على أمره. أما استراتيجية «النبت الجديد» فكانت مخاطبة العقل «بصفته الناظم العام المشترك بين جميع الناس أولاً، وبمنزلة القوة الفاعلة التي تعتمد الانفتاح والاستنارة والحوار والديمقراطية ثانيًا. وإذا أتيح لهذا النبت الجديد أن يكتشف نفسه عبر ما يوحده، وهو العقل، فإنه حينئذ يغدو أمام تحقيق اتحاد حقيقي يقوم على الوطنية العلمانية والعقلانية».

          وكانت فتاوى الإمام محمد عبده الجريئة وآرائه التحررية ومحاضراته ودروسه ومقالاته ومراسلاته مصدرًا للفكر التنويري في مصر والأقطار الإسلامية، كما كانت له اليد الطولى في إنشاء جامعة فؤاد الأولى (جامعة القاهرة، فيما بعد). لكن معظم أفكاره الإصلاحية بقيت في عالم التمنيات، ولو قدر له تنفيذها لأحدثت ثورة في مفاهيم الإسلام، ولما وصل المسلمون إلى هذا الدرك الذي وصلوا إليه اليوم، ولتجنبوا ما حل بهم من الكوارث، نتيجة مفاهيمهم الخاطئة عن الإسلام، وتعاليم القرآن.

          توفي الإمام محمد عبده مساء يوم 11 يوليو 1905م في مدينة الإسكندرية عن سبعة وخمسين عامًا.

---------------------------------

          تقولُ: ألا أقصرْ من الغزو، واشتكى
                                        لها القولَ، طرفٌ أحورُ العينِ دامعُ
          سأُغنيكِ عن رَجعِ المَلام بمُزْمِعٍ
                                        من الأمر، لا يعشو عليهِ المطاوعُ
          لبوس ثياب الموت حتى إلى الذي
                                        يُوائمُ إمّا سائمٌ، أو مُصارعُ
          ويدعُونَني كهلاً، وقد عشتُ حِقبةً
                                        وهنّ، عن الأزواجِ نحوي، نوازعُ
          كأني حصان مال عنه جلاله
                                        أغرُّ، كريمٌ، حوله العُوذُ، راتع
          فما شاب رأسي من سنن
                                        تتابعت طوالٍ، ولكنْ شيّبَته الوقائع

عروة بن الورد

 

محمد ضاهر